مناسبات

فَاطِمَةُ الزَّهرَاء أَيقُونَةُ التَّربِيَةِ فِي الحَيَاةِ الإِسلَامِيَّةِ

مقدمة أيقونية

الأيقونة؛ هِيَ صُورَةٌ، أَو تِمثَالٌ مُصَغَّرٌ لِشَخصِيَّةٍ دِينِيَّةٍ يُقَصَدُ بِهَا التَّبرُّك.. والجَّمعُ: أيْقُونَاتٌ.

أو هِيَ؛ صُورَةُ القُدُسِ وَمَريَم العَذرَاء عِنْدَ الْمَسِيحِيِّينَ، أَوْ تِمْثَالٌ لِشَخْصِيَّةٍ دِينِيَّةٍ تَتَمَتَّعُ بِقَدَاسَةٍ.

أو هي؛ غلافة صغيرة من الفضّة أو الذهب تُحفظ فيها ذخيرة من ذخائر القدِّيسين، وتعلَّق في العنق عادة، كقلادة بيت المصحف عندنا، أو العوذة، والحجاب وما أشبه ذلك..

فهي رمز لشيء عظيم، ومقدَّس في هذه الحياة، اهتمَّ بها كل الناس والشعوب والأمم من أقدم العصور لا سيما ما نراه بأم العين عند النصارى، حيث تمثال السيدة العذراء مريم، وولدها يسوع المسيح، عليه السلام، يصنعون لهما تماثيل من كل المعادن والأشكال فتكاد لا تجد بيتاً، أو شخصاً يؤمن بهما إلا ولديته شيء يرمز لهما.

فاطمة الزهراء قديسة الإسلام

إذا نظرنا إلى المسألة الإنسانية والتقديس الذي تنطلق منها معاني الأيقونة، فإننا سنجد أن سيدتنا فاطمة الزهراء، عليها السلام، هي قديسة الإسلام الأولى وهي تتفوَّق على كل القديسات الأخريات، كمريم وآسيا، وغيرها من النساء الفضليات في التاريخ البشري، وهذا ما بيَّنه والدها رسول الله، صلى الله عليه وآله، حيث قال لها: “يا بنية أما ترضين أنك سيدة نساء العالمين؟

قالت: يا أبه فأين مريم بنت عمران؟

قال: تلك سيدة نساء عالمها وإنك سيدة نساء عالمك أم والله زوجتك سيدا في الدنيا والآخرة“.

وقيل للإمام الصادق، عليه السلام: فاطمة سيدة نساء أهل الجنة أي سيدة نساء عالمها؟ قال: “ذاك مريم وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة من الأولين والآخرين“.

وفي حديث آخر: إن آسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران، وأمها خديجة بنت خويلد، يمشين أمام فاطمة كالحجاب لها إلى الجنة.. وهذا ما نعتقده وتؤكده الروايات الكثيرة المتضافرة بحقها، وما نعتقده من عصمتها – روحي فداها – وهي الوحيدة من بنات جنسها تتمتع بهذه الخصيصة.

فهي قدِّيسة الإسلام الأولى، التي تسنَّمت ذرى المجد في دنيا الإنسانية بشخصيتها الفذة، وبعملها العظيم في هذه الأمة التي ما عرفتها، ولا عرفت لها حقها، ومكانتها، وعظمتها، فهي إلى الآن تُفضِّل عليها غيرها من النساء، وما ذلك إلا للدور الكبير الذي قامت به، ولعبته في الحياة السياسية والاجتماعية للأمة الإسلامية بعد رحيل والدها الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله، عن هذه الدنيا، حيث تصدَّت لعصابة الانحراف، وقادة الانقلاب، الذي حدث في المدينة وسقيفتها المشؤومة.

رسالة المرأة التربوية

في هذا المقال وهذه العجالة لن نتطرق إلى شيء من التاريخ بل سنتطلع إلى مسألة أساسية في الحياة البشرية، تقوم بها المرأة ولا أحد في الدنيا يستطيع أن يقوم مقامها فيها، ألا وهي التربية الصحيحة للأطفال، والتنشئة السليمة للأجيال، والرعاية الدَّقيقة للبيت والأسرة التي هي اللبنة الأولى للمجتمع، فإن صلحت صلح كله، وإن فسدت فسد جله، وكم نحن بحاجة في هذه الأيام التي تشهد حرباً عالمية على الأسرة وركيزتها المرأة لإخراجها من بيتها، وحصنها، وقصرها..

فإن كان لكل أحد رسالة في هذه الحياة عليه أن يؤديها فإن رسالة المرأة ليست الولادة والإنجاب فقط بل التربية والتعليم، هي رسالتها الأولى والأهم في المجتمع، ولذا ورد في الأثر النبوي الشريف: “خير متاع الدنيا المرأة الصالحة“، و”المرأة الصالحة درع من النار“. (ميزان الحكمة للريشهري: ج4 ص198).

فبماذا تكون المرأة درع من النار لزوجها، وأبنائها، وبناتها، بل ويكون بيتها روضة من رياض الجنة؟

إنها بالتربية التي جعلها الله أقدس وأعظم وأشرف وأكرم مهمة ووظيفة يقوم فيها إنسان على وجه الأرض، وما أصابنا كل هذا الشقاء والبلاء إلا عندما تركنا التربية الصحيحة، وهجرت المرأة واجبها المقدس، ووظيفتها التربوية إلى غيرها كالمدرسة، والتلفاز، والشارع فنشأ لدينا أجيال هجن لا نعرف كيف يظهرون في مجتمعاتنا الإسلامية وكل ما فيهم يقول: إنهم لا علاقة لهم بعاداتنا، وقيمنا، وأعرافنا، وتربيتنا، فهم نشاز في كل شيء، حتى في أشكالهم، ولباسهم، وكلامهم..

لماذا هجرنا أمهاتنا، وأحضانهن الدافئة، وارتمينا في صقيع الموضة والغرب الفاسد الفاسق؟

لماذا تركنا عاداتنا وتقاليدنا وآدابنا وهي الطهارة والصفاء والنقاء وذهبنا إلى الشقاء والركض خلف السراب الذي يحسبه الشاب الجاهل أن فيه ماء، وما فيه إلا الخواء، والتعب والنصب والشقاء؟

المرأة في البيت ملكة، وأميرة، ولذا نسميها في أدبياتنا الإسلامية (محصنة)، أي أن كل ما حولها يحرسها ويحميها، من اللحظة الأولى التي يُعقد عليها فيُحصِّنها هذا العقد المقدس والرباط الرباني الذي لا يكون إلا على اسم الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وآله، فلماذا أخرجنا المحصنات ورميناهن في الأسواق، وأمير المؤمنين ، عليها السلام، كان يمشي في أسواق الكوفة فرأى كثرة النساء في الأسواق فصعد على المنبر وقال وهو مغضب: “أَمَا تَسْتَحْيُونَ، وَلَا تَغَارُونَ، نِسَاءَكُمْ يَخْرُجْنَ إِلَى الْأَسْوَاقِ، وَيُزَاحِمْنَ الْعُلُوجَ“، ومرة أخرى أخبروه بأن النساء يُدافعن الرجال في الطرقات، فقال: “يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، نُبِّئْتُ أَنَّ نِسَاءَكُمْ يُدَافِعْنَ الرِّجَالَ فِي الطَّرِيقِ، أَمَا تَسْتَحْيُونَ“. (الكافي الشيخ الكليني: ج5 ص777 باب الغيرة).

أين أنت سيدي ومولاي يا أمير المؤمنين وترى ما يدور عندنا وكيف صار الحال بنسائنا وبناتنا في هذا العصر، فما عساك أن تقول لنا لو بُعثَ فينا من جديد؟ وسيأتي كما نعتقد في الرجعة ويرى نساءنا بهذا الشكل تُخالط ما هبَّ ودبَّ في الأسواق والشوارع؟

فاطمة الزهراء، عليها السلام، أيقونة التربية

   فاطمة الزهراء، عليها السلام، في الحقيقة التاريخية كانت أيقونة التربية والتعليم، وسيدة الحياء، والعفَّة، والطهارة في النساء فإن عباءتها المقدسة، وخمارها النوراني الذي لاثته، وجاءت لتأمر الأمة وحكامها الإنقلابيين بالمعروف، وتنهاهم عن أعمالهم المنكرة، وتُؤدي رسالتها الاجتماعية..

يجب أن تكون لنا قدوة وأسوة في كل أقوالها وأعمالها وتربيتها لأبنائها الغر الميامين، الذين كانوا مثالاً للتربية الصالحة في طول التاريخ البشري، رجالاً ونساء على حدٍّ سواء، فهل تجد في بيوت الأنبياء والمرسلين كبيت فاطمة الزهراء، عليها السلام؟

فهل قرأتَ، أو سمعتَ بأسرة نبوية، أو رسالية، من أبينا آدم وحتى آخر ولد من أولاده، كأسرة فاطمة الزهراء، عليها السلام، وأمير المؤمنين الإمام علي، عليها السلام، بهذه العظمة وهذا الصفاء والنقاء والتربية الرسالة لجميع أفرادها؟

أبداً لا يوجد في التاريخ البشري كله مثل هذه الأسرة المثال، والمقياس، والمعيار، فكل أفرادها معصومين طاهرين مطهرين من الله رب العالمين، وحتى الذين لم يرد فيهم نص بالعصمة فكانوا في القمَّة الشاهقة، والمكانة السَّامقة في الفضل والفضيلة والإنسانية كالسيدة زينب الكبرى، عليها السلام، الذي يذهب العلماء إلى عصمتها الغير الواجبة، والصغرى لعظمتها وعفتها وحكمتها وتدينها.

ولذا أعتقد أن الله سبحانه وتعالى جعل بلطفه وكرمه ومنِّه على البشرية عامة، والأمة الإسلامية خاصة هذه الأسرة الكريمة، والعائلة العظيمة، لتكون لهم نبراساً، ومقياساً للدِّين والفضيلة، فالأب أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام، والأم سيدة النساء فاطمة الزهراء، عليها السلام، والنتاج الإمامين الهمامين (الحسن والحسين ، عليها السلام، سيدا شباب أهل الجنة)، وسادة الدنيا في هذه الحياة، فأين تجد مثلهم؟

فاطمة الزهراء  عليها السلام تربية السَّماء

والعجيب الغريب في تاريخ سيدة النساء فاطمة الزهراء، عليها السلام، أنها ولدت في السنة الخامسة من البعثة النبوية الشريفة، أي في بداية الدَّعوة العلنية لأبيها رسول الله، صلى الله عليه وآله، في مكة وحيث أن الدنيا قامت ولم تعقد عليه من طغاتها وجبابرتها، ولم تقبل نساء مكة أن يلين من أمها ولادتها كما في حديث الولادة المباركة لها، فكانت وهي في بطن أمها تُحدِّثها وتُؤنسها لأن النساء هجرنها ولا يدخلن عليها، فكيف كانت تربيتها من أمها خديجة الكبرى؟

ومتى استطاعت السيدة خديجة أن تغرس فيها كل هذه القيم الراقية، وهي في حصار خانق في البيت، ثم شِعب أبي طالب ، عليها السلام، ثلاث سنوات عجاف أكلوا فيها العشب وأوراق الشجر، ولذا ما خرجت منه حتى توفيت هي وأبو طالب خلال أيام من عام الحزن كما سماه رسول الله، صلى الله عليه وآله، لأجلهما وفضلهما، وكرامتهما عليه وعلى الله والرسالة؟

فكيف تسنى لهذه الطفلة المباركة التي رحلت عنها أمها وهي لما تبلغ الحلم، وكانت تحلم بأن تراها عروسة لتقف معها في زواجها كما تفعل الأمها الصالحات ببناتهن، فمَنْ ربَّاها بعد أمها، وعلَّمها، وغذَّاها تلك القيم التربوية الرائعة، وأبوها رسول الله، صلى الله عليه وآله، مشغول بنفسه، ورسالة ربه، وأحوال أمته الذين هجَّرتهم قريش في كل مكان حتى هاجر بنفسه وقدسه إلى مدينة يثرب خوفاً من شياطين قريش وتآمرهم عليه لقتله؟، لقد رعتها يد السماء الحانية وربَّتها قيم الحق والإيمان..

فمَنْ يبحث في تلك الفترة العصيبة والحرجة من سيرة ومسيرة سيدة النساء فاطمة الزهراء، عليها السلام، ثم ما لبثت أن انتقلت مع الفواطم برعاية فتى الإسلام ابن عمِّها علي بن أبي طالب ، عليها السلام، إلى يثرب حتى طمع فيها الطامعون، وجاء إليها الزاحفون، راجين قربها، وطالبين ودَّها، وراغبين بها ولكن هيهات لهم ذلك وهي لم تُخلق من هذه الدنيا، ولا لها بل هي الحوراء الإنسية التي جاءت نطفتها من الجنة، وغذَّتها الرسالة بآيات القرآن، وربَّاها رسول الله، صلى الله عليه وآله، وأدَّبها بآدابه، لتكون قرينة الرجولة، والشهامة، والبطولة، والإيمان كله، ذاك فتى الفتيان وأمير الأنام الذي كان كفؤ فاطمة ولولاه لما كان لها كفؤ آدم فما دونه، علماً أن هذا الحديث الشريف هو من الأحاديث القدسية وليست لا النبوية ولا الولائية عن أبنائها الأطهار ، عليها السلام، كما في بعض النصوص عنهم عليهم السلام.

ففي رواية لأمير المؤمنين الإمام علي ، عليها السلام، يقول فيها: قال لي رسول اللَّه، صلى اللّه عليه وآله: “يا عليّ، لقد عاتبتني رجال من قريش في أمر فاطمة عليها السلام وقالوا: خطبناها إليك فمنعتَنا، وتزوّجت عليّاً، فقلت لهم: واللَّه ما أنا منعتكم وزوّجته، بل اللَّه تعالى منعكم وزوّجه، فهبط عليَّ جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا محمّد، إنّ اللَّه جلّ جلاله يقول: لو لم أخلق عليّاً لما كان لفاطمة ابنتك كفو على وجه الأرض؛ آدم فمَن دونه“. (عيون أخبار الرضا: 1/225/3).

   فأمر فاطمة الزهراء ، عليها السلام، كله كان من السماء، فزواجها عقده الرَّب سبحانه في السماء قبل أن يعقده الرسول الأعظم في الأرض، ففي حديث أم أيمن عن النبي، صلى الله عليه وآله: “وعقد جبرئيل وميكائيل في السماء نكاح عليٌّ وفاطمة، فكان جبرئيل المتكلم عن عليٍّ، وميكائيل الراد عنِّي“.

وفي حديث خباب: “إن الله تعالى أوحى إلى جبرائيل: زوج النور من النور، وكان الولي الله، والخطيب جبرائيل، والمنادي ميكائيل، والداعي إسرافيل، والناثر عزرائيل، والشهود ملائكة السماوات والأرضين”. (بحار الأنوار: ج 43 ص109).

فكل ما يتعلق بفاطمة الزهراء ، عليها السلام، جاء من السماء، وإذا تزوج النور بالنور فهل يُنتج إلا أنواراً؟

أليس هذا هو التفسير والتأويل الحقيقي والواقعي لآية النور الذي ضربه الله مثلاً لنوره الأقدس في هذه الحياة الدنيا؟ فهم نور الله، ويتقلَّبون في النور، وأصلهم النور الفاطمي الأزهر. فما أجدرنا وأحرانا أن نتَّخذ تلك الأيقونة التربوية المقدسة قدوة لنا لتربية أجيالنا على القيم والفضيلة، لتُنقذنا من مهاوي الهلكة التي يُريد الأعداء أن يرمونا فيها في هذا الزمن الأغبر، فالسيرة التربوية لسيدتنا فاطمة الزهراء ، عليها السلام، هي التي تُعلمنا كيف نُربِّي أبناءنا وبناتنا على الحق والعدل والإنسانية.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا