مناسبات

الامام الرضا والتحدي السلمي للنظام الحاكم*

من الطبيعي اننا نخوض في حديث وموضوع لم يكن من السهل إن ينجز بيانه في غضون ساعة او اكثر لما له من اهمية واسعة في حياة الأمة، وكذلك في حياة الإمام الرضا، عليه السلام، لا يمكن لها أن تتلخّص بهذه العجالة، و إنما نأخذ من هذه السيرة العطرة جانباً واحداً ألا وهو جانب التحدي السلمي للنظام الحاكم في مدة زمان امامته، سلام الله عليه.

عصر الإمامة

عاش الإمام الرضا ،عليه السلام، عهدين مختلفين: الاول: وكان عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد يُعد لدى البعض “العصر الذهبي”، بينما عند اهل البيت، عليهم السلام، من أشد العهود قسوة وظلماً، عليهم وعلى شيعتهم ومواليهم.

أما العهد الثاني، فقد مر في مرحلة الخلاف والاضطراب بين الأخوة، وادى ذلك الى اضطراب الاوضاع السياسية والاجتماعية في الدولة الاسلامية، حيث كانت تعد تلك الفترة من أشد الفترات التي مرت على الامة، بسبب النزاع على السلطة بين ابني هارون.

فبعد استشهاد والده الإمام موسى الكاظم ،عليه السلام، كان له الإمامة لأربعة سنوات من حكم هارون العباسي. وقد همّ اللعين هارون، في قتل الإمام الرضا ،عليه السلام، ولكن ارادة الله عزّ وجل، حالت دون ذلك.

يروي ابو الصلت الهروي: كان الإمام الرضا ،عليه السلام، ذات يوم جالساً في منزله اذ دخل عليه رسول من هارون وقال له:

أجب امير المؤمنين..!

فقام: وقال لي: “يا أبا الصلت.. فوالله لا يمكنه ان يعمل بي شيئاً اكرهه لكلمات وقعت الي من جدي رسول الله”.

قال: فخرجت معه حتى دخلنا على هارون، فلما نظر اليه الرضا ،عليه السلام، قرأ هذا الحرز – وذكره- فلما وقف بين يديه نظر اليه هارون الرشيد وقال: يا ابا الحسن قد أمرناك بمائة الف درهم.. واكتب حوائج أهلك.. فلما ولّى عنه علي بن موسى الرضا ،عليه السلام، وهارون الرشيد ينظر اليه  في قفاه: قال: “أردت و أراد الله وما اراد الله خيرا”.

هذا وقد اشار يحيى البرمكي على هارون بقتل الإمام الرضا ،عليه السلام، كما اشار غيره بذلك فاستعظم الامر، وقال: ما ترى..؟! تريد ان اقتلهم كلهم..؟!

وبهذه الرواية يتبين لنا ان قضية العداء والقتل بالنسبة لأعدائهم هي قضية حقد دفين ورثوه من آبائهم، كما هو الحال في دولة بني أمية والتي أوغلت هي الاخرى في الجرائم ضد اهل البيت، عليهم السلام.

قبول الإمام الرضا، عليه السلام، ولاية العهد، كان للحفاظ على المصلحة العامة والتي تحفظ بيضة الاسلام وتحافظ على المسلمين من اختراق التيارات الفكرية الوافدة

أما العهد الثاني، وهو عهد الخلافة بعد هلاك هارون العباسي وبداية نشوب الخلاف بين ورثته. وفي هذه الفترة توفرت لدى الإمام، عليه السلام، قدر من الحرية النسبية. وكان هارون قد أوصى لثلاثة من أبنائه بولاية العهد وهم: الأمين والمأمون والمؤتمن بالترتيب.

 فأهتم بالأمين لمعرفته بميول العباسيين الى الامين نظراً الى كون والدته (زبيدة)، و أما المأمون فكان يخشى عليه لأنه كان يرى فيه كفاءة أكثر لإدارة البلاد فمنحه بعض المناصب في الدولة.

 بيد أن هذا لم يمنع من ظهور خلافات داخل الأسرة، وكانت “القومية” اهم عامل فيها، فقد كان الفرس المتنفذون في الدولة العباسية رغم نكبة البرامكة، يميلون نحو المأمون، نظراً لأن أمه منهم (فارسية) ولأنه تربى في احضانهم، أما الأمين فأمه (زبيدة)، وتنحدر من أصول عربية – عباسية، فكانت الارضية مهيأة لنشوب صراع دموي على  السلطة بين الجانبين.

وحصل ما حصل وشهدت بغداد معارك دامية بين الأخوين؛ الأمين والمأمون للسيطرة على الحكم، وحسمت المعركة لصالح المأمون وقتل الامين وسقوط الآلاف من المسلمين قتلى بسبب نزاع بين أخوين على الحكم.

وهذه صورة اخرى للواقع الذي عاشه الإمام الرضا ،عليه السلام، وتعد هذه الحرب اول حرب بين العباسيين ومن أسوأ الحروب الداخلية بين المسلمين مما زعزع الثقة بالنظام السياسي عند الجماهير وشجع المعارضة على الثورة.

التحدي العقائدي

في الوقت الذي حاول المأمون دفع الإمام، عليه السلام، نحو عجلة السياسة والحكم، من خلال منحه منصب “ولاية العهد”، كان، عليه السلام، يراقب بشدة وجود بوادر تحّدٍ عقائدي في الامة، فكان هو الحامل لراية الإصلاح والمحافظة على الشريعة والاحكام والقيم التي جاء بها جدّه رسول الله، صلى الله عليه وآله، لاسيما وان في تلك الفترة كان المسلمون قد خبروا بعض العلوم والمعارف القادمة من البلاد غير الاسلامية، بسبب التشجيع على الترجمة بدعم ومباركة من الحكام، وفي مقدمتهم المأمون العباسي.

 هذه الاوضاع الشائكة والمعقدة خلقت حالة من الفساد في الرؤى والعقائد لدى البعض، لذا كان، عليه السلام، يذكر الناس دائماً بالله عز وجل ويحذرهم عذابه في الدنيا وعقابه في الآخرة، وهذا هو السبيل لإصلاح الانسان وردعه عن الفساد بكل الوانه وانواعه.

ينقل الشيخ المفيد – رضوان الله عليه- صورة من هذا الإصلاح فيقول: “دخل الإمام الرضا، عليه السلام، يوماً عليه (المأمون) فرآه يتوضأ للصلاة، يُصب الماء على يديه: فقال لا تُشرك يا أمير المؤمنين بعبادة ربك احداً..”. فصرف المأمون الغلام وتولى تمام وضوء نفسه وزاد ذلك في غيظه ووجده.

و ايضاً اليك قصة “الجاثليق” الذي حاور الإمام الرضا، عليه السلام، في مسألة في النبوة، فلما دخل الإمام، عليه السلام، قام المأمون وقام محمد بن جعفر وجميع بني هاشم. فما زالوا وقوفاً والرضا، عليه السلام، جالساً مع المأمون حتى أمرهم بالجلوس فجلسوا فلم يزل المأمون مقبلاً عليه يحدثه ساعة فالتفت الى الجاثليق.

قال: يا جاثليق..! هذا ابن عمي علي ابن موسى بن جعفر. هو من ولد فاطمة بنت نبينا وابن علي بن ابي طالب، عليه السلام.. فأحب أن تكلمه وتحاججه وتنصفه..

فقال الجاثليق: يا أمير المؤمنين كيف أحاجج رجلاً يحتج علي بكتاب أنا مُنكره ونبي لا أؤمن به؟

فقال الإمام الرضا، عليه السلام:

يا نصراني..! فإن احتججت عليك بإنجيلك أتقر به؟

قال الجاثليق: وهل اقدر على دفع ما نطق به الإنجيل.. نعم والله أقر به على رغم أنفي.

ثم قرأ الإمام الرضا، عليه السلام، عليه الإنجيل وأثبت عليه بأن نبينا محمداً، صلى الله عليه وآله، جده مذكور فيه، ثم اخبره بعدد حواري عيسى ،عليه السلام، وأحوالهم واحتج بحجج كثيرة أٌقر بها، ثم قرأ عليه كتاب «شعيا» وغيره الى أن قال الجاثليق: ليسألك غيري فلا وحق المسيح ما ظننت في علماء المسلمين مثلك.

فالتفت الإمام الرضا، عليه السلام، الى رأس الجالوت واحتج عليه بالتوراة والزبور وكتاب شعيا وحيقوق حتى أفحم ولم يحر جواباً. (1)

 إقامة صلاة العيد

أما استجابته، عليه السلام، لأداء صلاة عيد الفطر، فقد شكلت إحدى التحديات السلمية للنظام الحاكم.

فلما حضر العيد، بعث المأمون الى الامام الرضا، عليه السلام، يسأله ان يركب ويحضر العيد ويخطب ويصلي بالناس، بهدف كسب الشرعية والتأييد الجماهيري، حيث يرى الناس أن الإمام الذي يتسنّم منصب ولي العهد – ولو ظاهرياً- يستجيب لطلب المأمون، فبعث اليه الامام، عليه السلام، وقال: علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخولي في هذا الامر؟!

فقال المأمون: “انما اريد بهذا ان ترسخ في قلوب العامة والجند هذا الامر، فتطمئن قلوبهم ويقروا بما فضلك الله تعالى به .”

فلم يزل يلحّ عليه، فقال: يا امير المؤمنين..! ان اعفيتني من ذلك فهو أحب إليّ. وان لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله، وكما كان يخرج امير المؤمنين، على بن ابي طالب، صلوات الله عليهما.

قال المأمون: اخرج كما تحب

وجاء في الرواية: “…و أمر المأمون القُواد والناس ان يبكروا الى باب ابي الحسن ،عليه السلام، فقعد الناس للإمام ،عليه السلام، في الطرقات والسطوح من الرجال والنساء والصبيان واجتمع القُواد على باب الإمام الرضا ،عليه السلام، فاغتسل وتعمم بعمامة بيضاء من قطن وألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفيه وتشمر، ثم قال لجميع مواليه: افعلوا مثل ما فعلت. ثم اخذ بيده عكّازة وخرج، وهو حاف قد شمر سراويله.. فلما قام رفع رأسه الى السماء، وكبر اربع تكبيرات فتخيل الينا إن الهواء والحيطان تجاوبه.. والقواد والناس على الباب قد تزينوا ولبسوا السلاح وتهيأوا بأحسن هيئة. فلما طلع عليهم بهذه الصورة، وقف على الباب وقال: «الله اكبر.. الله اكبر على ما هدانا.. الله اكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام.. والحمد لله على ما أبلانا”.

في الوقت الذي حاول المأمون دفع الإمام، عليه السلام، نحو عجلة السياسة والحكم، من خلال منحه منصب “ولاية العهد”، كان، عليه السلام، يراقب بشدة وجود بوادر تحّدٍ عقائدي في الامة، فكان هو الحامل لراية الإصلاح والمحافظة على الشريعة والاحكام والقيم

ورفع بذلك صوته ورفع الناس اصواتهم على أثره.. فاهتزت مرو من البكاء والصياح. فقالها ثلاث مرات فسقط القواد عن دوابهم. و رموا بخفافهم لما نظروا الى ابي الحسن، عليه السلام، وصارت مرو ضجة واحدة ولم يتمالك الناس من البكاء والضجة.

فكان ابو الحسن ،عليه السلام، يمشي ويقف في كل عشر خطوات وقفة، يكبر الله، اربع مرات فيتخيل الينا إن السماء والأرض والحيطان تجاوبه وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل: يا أمير المؤمنين إن بلغ الرضا، عليه السلام، المصلى على هذا النحو، افتتن به الناس فالرأي أن تسأله الرجوع.. فبعث اليه المأمون فسأله الرجوع فدعا ابو الحسن، عليه السلام، بخفه فلبسه ورجع. (2) 

وهذا يعطينا نموذجاً حياً للتحدي السلمي من الإمام عليه السلام، لدولة بني العباس وحكمهم .

خلاصة البحث

بعد المراجعة السريعة لسيرة الإمام الرضا، عليه السلام، في عهد المأمون العباسي، وكيف خاض التحدي السلمي لنظام الحكم العباسي الجائر، بإمكاننا استخلاص نتائج تتمثل في التالي:

1- عدم سماح الإمام الرضا، عليه السلام، من تكرار الحكام العباسيين لتجربة اضطهاد وسجن أبيه الامام الكاظم، عليه السلام، ثم اغتياله بالسمّ في مطامير السجون.

2- قبول الإمام الرضا، عليه السلام، ولاية العهد، كان للحفاظ على المصلحة العامة والتي تحفظ بيضة الاسلام وتحافظ على المسلمين من اختراق التيارات الفكرية الوافدة.

3- تحدي الإمام الرضا ،عليه السلام، للفساد الحاصل في الدولة سياسياً واقتصادياً و فكرياً وفي مجالات اخرى، كان ينظر اليها، عليه السلام، على انه من الواجب التصدي لها بالشكل السلمي .

4 – خروجه لإداء صلاة العيد، كان بهدف التأكيد للحاكم العباسي أنه هو الذي يقود القاعدة الجماهيرية، وليس هو، رغم انه لا يملك سلطة تنفيذية مباشرة.

وفي الختام: فان الدور الذي نهض به الإمام الرضا، عليه السلام، في فترة حياته كانت حافلة بالخير والعطاء، وقد علّم المسلمين تحدي الانحراف والضلال، سواء على الصعيد الاجتماعي او السياسي في أعلى مستوياته، دون خوف او تردد، متسلحاً بالحجة والدليل ومنهج السلم، لا العنف والدموية التي كانت الوسيلة الوحيدة لدى اعدائه، واعداء الدين، ولذا نرى قصر حكمهم ونهاية ذكرهم، بل ومتابعة الاجيال لهم باللعن والتبرؤ والشعور بالخزي والهوان من ان يكون هذا الحاكم او ذاك يمثل الدولة الاسلامية.

المصادر:

1- بحار الأنوار للمجلسي

2- مروج الذهب للمسعودي                                

3- النبي، صلى الله عليه وآله، وأهل بيته- المرجع المُدرسي           

4- التأريخ الإسلامي – المرجع المُدرسي.


  • منشور في العدد 273 ايلول 2014

عن المؤلف

الشيخ محمود عبد الرضا الصافي

اترك تعليقا