يقول الإمام زين العبادين، عليه السلام، في دعاء مكارم الأخلاق: “اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَسَدِّدْنِي لأَنْ أُعَارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْحِ، وَأَجْزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرِّ، وَأُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ، وَأُكَافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ، وَأُخَالِفَ مَنِ اغْتَابَنِي إِلَى حُسْنِ الذِّكْرِ، وَأَنْ أَشْكُرَ الْحَسَنَةَ، وَأُغْضِيَ عَنِ السَّيِّئَةِ“.
هل يمكن تطبيق القوانين الفيزيائية في علم الأخلاق؟
ثمة قاعدة فيزيائية معروفة: “لكل فعل ردة فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه”.
يبدو أن الإمام زين العابدين، عليه السلام، من خلال هذا المقطع من الدعاء، يريد أن يطبق هذه الضابطة في علم الأخلاق، فمن الطبيعي أن تكون لديك ردة فعل إزاء أي فعل في الحياة، ولكن؛ بدلاً من أن تكون ردة الفعل بنفس الشكل، فلتكن بالاتجاه المعاكس تماماً، بمعنى أن تكون ردة الفعل من غير سنخ الفعل، ومختلفة تماماً عنه، حتى وإن كانت بنفس القوة، المهم؛ أن يكون الانسان ضابطاً لنفسه، وهو مطلب جوهري واساس في علم الاخلاق، بل وحتى في غير هذا العلم.
-
المصارع الشاب المغرور والمصارع العجوز الحكيم
يروي أحد المصارعين، وكان كبيراً في السن، أن شاباً صادفه ذات مرة، وأراد الانتقاص منه لكبر سنّه، وطلب منه المصارعة ليظهر عضلاته وفتوته عليه، وما هي لحظات إلا والشاب طريح الأرض! وفي المحاولة الثانية حيث استجمع قواه وأراد رد الاعتبار، واذا بهذا المصارع العجوز بحركة بسيطة يطرحه أرضاً مرة ثانية! فقال لي (المصارع العجوز) إن ذلك الشاب كلما أظهر قوة عضلية أكثر كلما استفدت من هذه القوة أكثر، فقد قلبت القوة القادمة منه عليه.
وهذا يعني؛ رباطة الجأش، وضبط النفس في علم الأخلاق، وعلينا أن نمتلك هذه الصفة. ولكن!
كيف نمتلك هذه القوة والمنعة، بحيث لا يستفزني هذا بكلامه، ولا ذاك بغيبته، ولا حتى بالكلام الفاحش وغيرها كثير؟
لابد أولاً؛ انتزاع روح الانتقام من قلبك، وهي تلك الروح التي تدفع الانسان لأن يستغل الفرصة للانتقام من الطرف المسيئ، كأن يكون في دائرة حكومية، او في مكان عمل، او سوق، أو أي مكان آخر.
بينما الإمام زين العابدين، عليه السلام، يوصينا بأن نستفيد من الفرصة التي تمكننا من إسداء النصيحة لمن غشنا، وهكذا بقية الافعال المثيرة.
هنا يقفز السؤال الآخر!
وكيف نقتلع روح الانتقام هذه من نفوسنا؟
بكل بساطة؛ أن نؤجل ما هو للدنيا الى الآخرة، فاذا غشني انسان، أحيل حسابه الى يوم القيامة، ولا استعجل العقوبة.
إن قراءة الأدعية والروايات تعمّق فينا الإيمان بيوم الحساب، وأن هناك يوم لا مفّر منه، وهو يوم الحساب الأكبر، ولا فائدة من الحساب في هذه الحياة، نقرأ في زيارة آل ياسين: “واشهد أن الحشر حق والحساب حق والجنة حق والنار حق والوعد والوعيد بهما حق”.
الامام موسى بن جعفر الكاظم، عليه السلام، كتب الى هارون رسالة قال فيها: “يا هارون! إنه لن ينقضي لي يومٌ في العذاب إلا وينقضي عند يومٌ في الرخاء حتى نفضي الى يوم ليس فيه انقضاء وهنالك يخسر المبطلون”.
فاذا اقتلعنا روح الانتقام سنوفر لدينا رباطة الجأش وضبط النفس إزاء أي فعل مشين او سيئ يرتكب ضدنا، فهناك يوم تُرد فيه الحقوق.
وذات مرة رأى الامام الحسن المجتبى، عليه السلام، شاة وقد كُسر ساقها، فسأل عمن فعل هذا، فقالت جارية له: أنا يابن رسول الله! فقال: ولِمَ: قالت: لأغضبك! فابتسم الإمام، فقال: إذن؛ لأسرّكِ، أنتِ حرّة لوجه الله.
“وَأُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ”
ومن أروع الأمثلة ما فعله أمير المؤمنين، عليه السلام في حرب صفين عندما سيطر على عيون ماء في تلك المنطقة بعد ان كانت في يد جيش معاوية، فقال أصحابه: انها فرصة لنحرم هؤلاء من الماء ونحسم الحرب لصالحنا فرفض الإمام ذلك بشكل قاطع، وسمح لجند معاوية بأن يشربوا من تلك الماء وهو في حالة حرب معه!
“وَأُكَافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ”
كذلك الحال بالنسبة لقطع الصلة بين الارحام والاقارب، فالبعض يقول: أن الطرف المقابل هو المسبب للقطيعة، فهو الذي يجب ان يزورني! في هذه الحالة، أين الفضيلة لهذا الاخير؟ فذاك بدأ المقاطعة وهذا قبل بها.
“وَأُخَالِفَ مَنِ اغْتَابَنِي إِلَى حُسْنِ الذِّكْرِ”
أحد علماء الدين الكبار بلغه أن احد الاشخاص يغتابك! فقام هذا العالم واشترى هدية جميلة وارفقها برسالة شكر بأن “اشكرك على اغتيابك لي ورفعك اجزاء من ذنوبي”. وكان في هذا نصيحة وترحيل الحساب الى يوم القيامة.
” وَأَنْ أَشْكُرَ الْحَسَنَةَ وَأُغْضِيَ عَنِ السَّيِّئَةِ “
الكثير من الاشخاص شأنه شأن من يضع نظارة سوداء على عينيه، فلا يرى سوى العتمة والظلام والسلبيات. بينما المطلوب إظهار الاعمال الحسنة والترويج لها، أما السيئات والمنكرات فكأني لم أرها اساساً.