أسوة حسنة

بِشَارَاتٌ وإِشَارَاتٌ من وصية الإمام موسى الكاظم لهشام بن الحكم

  • مقدمة في العقل

كنتُ في مقتبل العمر وفي بداية طريقي الشاق والجميل بالبحث عن الحقيقة كثيراً ما أسأل نفسي، أو أحد الأحباب يسألني عن العقل، وكنتُ أبحث ولفترة طويلة عن هذا السر الذي يتحدَّث عنه الجميع، ويفتخر به كل الناس فالمجنون إذا قلت له: يا مجنون يزعل منك ويُخاصمك لأنه يظن أنه عاقل وكلمة مجنون مذمَّة ومسبَّة ومنقصة، فما هو العقل؟

بحثتُ عنه عند الفلاسفة وقرأتُ عقليات المعلم الثاني الفارابي ودختُ فيها ولم أحصل على نتيجة مرضية، وقرأتُ الكثير من غيره إلى أن قرأتُ كتاب (تحف العقول) لابن شُعبة الحراني، فراح يشفي غليلي بماء زلال، وعلم صافي عن أئمة الهدى وأعلام التُّقى، حيث وقفتُ على المعنى الحقيقي للعقل من خلال الروايات الشريفة كقوله، صلى الله عليه وآله، عندما سُئل عن العقل: “العمل بطاعة الله، وإن العمال بطاعة الله هم العقلاء“، أو قوله، صلى الله عليه وآله: “إن العاقل من أطاع الله وإن كان ذميم المنظر حقير الخطر“، ومَدَح أحد أصحابه نصراني فقال: ما أعقل هذا النصراني! فأسكته، صلى الله عليه وآله، وقال: “مِهْ، إن العاقل مَنْ وَحَّدَ الله وعمل بطاعته“، كما قرأتُ تلك الدُّرة العجيبة والجوهرة الغريبة من إمامنا الصادق، عليه السلام، حينما سُئل عن العقل فقال: “ما عُبد به الرحمن واكتسب به الجنان“، قال: قلتُ (الراوي): فالذي كان في معاوية؟ فقال: “تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل“، فكلما أقرأ هذه الكلمة أضحك مع نفسي وأُخاطبُ الإمام: سيدي ومولاي أكثر الناس يعدُّون هذا الشيطان من أعقل الناس بل من دُهاة العرب أيضاً.

وأما كلمات وحِكم الإمام علي، عليه السلام، في هذا الباب فلديه بساتين غنَّاء في وصف العقل والعقلاء، كقوله، عليه السلام: “العاقل من توَرَّعَ عن الذنوب، وتنَزَّهَ من العيوب“، وهكذا إلى أن قرأتُ تلك الوصية التي لم يُكتب مثلها في بابها عبر التاريخ، وهي وصية الإمام الهمام موسى بن جعفر، عليه السلام، لهشام بن الحكم في مكانة ودور العقل والعقلاء وكيف نميِّزهم أو نعرفهم في بني البشر.

 

يَا هِشَامُ ثُمَّ ذَكَرَ أُولِي الْأَلْبَابِ بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ وَحَلَّاهُمْ بِأَحْسَنِ الْحِلْيَةِ فَقَالَ‏: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ‏}

 

لأن البشر عادة كُثُر ولكن العقلاء أندر من الكبريت الأحمر، وأقل من القليل والعجيب أنه، عليه السلام، يتطرق ويُشير إلى هذه المسألة الدقيقة في الوصية العقلية، حيث يقول له: “الله سبحانه “ذَمَّ الْكَثْرَةَ فَقَالَ‏: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏}، وَقَالَ: ‏{وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ‏ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَشْعُرُونَ‏}.

يَا هِشَامُ ثُمَّ مَدَحَ الْقِلَّةَ، فَقَالَ‏: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُوَقَالَ:‏ {وَقَلِيلٌ ما هُمْ‏}، وَقَالَ‏: {وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}‏.

يَا هِشَامُ ثُمَّ ذَكَرَ أُولِي الْأَلْبَابِ بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ وَحَلَّاهُمْ بِأَحْسَنِ الْحِلْيَةِ فَقَالَ‏: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ‏}.

 

  • كيف عرفتُ العقل والعقلاء

عندما قرأتُ هذه الكلمات النورانية رحتُ أشربها وأنهل منها ولا أشبع من مَعينها، حتى وصلني في يوم من الأيام المجلد الأول من موسوعة سماحة السيد المرجع السيد المدرسي (حفظه الله)، (التشريع الإسلامي؛ مناهجه ومقاصده)، تلك الموسوعة الرائعة المظلومة المغمورة التي ما عرفنا مكانتها إلى الآن، حيث تناول سماحته في أوله تلك الوصية العقلية للإمام موسى الكاظم، عليه السلام، ويُعلِّق عليها بما يزيدها وضوحاً وبهاءً وجمالاً، فعرفتُ معنى العقل، ومَنْ هم العقلاء من تلك الوصية وذاك الكتاب الرائع جداً لسماحة السيد المرجع (حفظه الله تعالى).

فأذكر أنني قرأتُها مراراً وكنتُ كلما احتجتُ أعود إليها لأتزوَّد منها، فكراً وثقافة وعقلاً نيِّراً بأنوار الوحي، كقوله: ” لأن العقل نور مركّز فلا بدَّ من بَسْطه بالتفكر، لأن التفكّر هو إثارة كوامن العقل، واستخدام ضيائه في إنارة الظلام، وهكذا كان التفكر دليل العاقل، قال الإمام‏، عليه السلام: “يَا هِشَامُ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ دَلِيلٌ وَدَلِيلُ الْعَاقِلِ التَّفَكُّرُ وَدَلِيلُ التَّفَكُّرِ الصَّمْتُ وَلِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مَطِيَّةٌ وَمَطِيَّةُ الْعَاقِلِ التَّوَاضُعُ‏ وَكَفَى بِكَ جَهْلًا أَنْ تَرْكَبَ مَا نُهِيتَ عَنْهُ“.

أو قوله: ” التفكّر صعب على البشر مستصعب، وإذا رأيتَ المتفكّرين في الناس هم الأقلية فلأن الجهل هو الطبيعة الأولى عند البشر، ومقاومته ليست سهله، ومن أسباب صعوبة التفكر؛ خشية الإنسان من الآخرين، ونزوعه للتوافق معهم، مما يزلزل ثقته بنفسه، من هنا حذَّر الإمام من هذه الحالة، وقال: “يَا هِشَامُ لَوْ كَانَ فِي يَدِكَ جَوْزَةٌ وَقَالَ النَّاسُ فِي يَدِكَ لُؤْلُؤَةٌ مَا كَانَ يَنْفَعُكَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا جَوْزَةٌ وَلَوْ كَانَ فِي يَدِكَ لُؤْلُؤَةٌ وَقَالَ النَّاسُ: إِنَّهَا جَوْزَةٌ مَا ضَرَّكَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا لُؤْلُؤَةٌ“.

 

  • الإشارات الدَّالة على العقل

المتأمل في هذا الوجود يعرف ويُدرك أن الإنسان هو أشرف ما فيه فهو المخلوق المكرَّم والمفضَّل من الخالق تعالى على كثير من الخلق، وما كان ذلك إلا عندما وهبه هذه النعمة الكبرى وبها ميَّزه عن غيره من المخلوقات؛ ألا وهي نعمة العقل، وإرادة الفعل.

ولذا فإن الله سبحانه جعله حُجَّة ما بينه وبين خلقه، قال، عليه السلام: “يَا هِشَامُ إِنَّ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ حُجَّةً ظَاهِرَةً وَحُجَّةً بَاطِنَةً فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْأَئِمَّةُ وَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَالْعُقُولُ“، ولذا صدق مَنْ قال: أن النبي عقل من خارج الإنسان، والعقل نبي من داخله، وبذلك تكتمل الحجة عليه، من الظاهر والباطن بالعقل، ومنه انطلق التشريع؛ بالكتاب والسٌّنة والعقل.

فأرسل الله الرُّسل وبعث الأنبياء، عليه السلام، وأنزل الكُتُب ليعقل البشر، ويفهم، ويعي رسالته في هذه الحياة وأول شيء يجب عليه؛ الطاعة، والعبادة ليتكامل العقل النظري بالعقل العملي: “يَا هِشَامُ مَا بَعَثَ اللَّهُ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ إِلَى عِبَادِهِ إِلَّا لِيَعْقِلُوا عَنِ اللَّهِ فَأَحْسَنُهُمْ اسْتِجَابَةً أَحْسَنُهُمْ مَعْرِفَةً لِلَّهِ، وَأَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ أَحْسَنُهُمْ عَقْلًا وَأَعْقَلُهُمْ‏ أْرْفَعُهُمْ دَرَجَةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ“.

 

يَا هِشَامُ مَا بَعَثَ اللَّهُ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ إِلَى عِبَادِهِ إِلَّا لِيَعْقِلُوا عَنِ اللَّهِ فَأَحْسَنُهُمْ اسْتِجَابَةً أَحْسَنُهُمْ مَعْرِفَةً لِلَّهِ، وَأَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ أَحْسَنُهُمْ عَقْلًا وَأَعْقَلُهُمْ‏ أْرْفَعُهُمْ دَرَجَةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ

 

ولكن البشر عادة يترك الكتاب، ويُحارب الرسول، ويؤجِّر نفسه وعقله للشيطان، فيتحوَّل إلى مطية له فيركبه ويسوقه إلى الهلاك برجليه، فيعصي الله ولا يتركه إلا أن يكون رجيماً مطروداً مثله، وهو العدو الأول للإنسان قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}. (فاطر: 6).

وهنا يُعطينا إشارة راقية جداً يسندها إلى جده أمير المؤمنين، عليه السلام، بقوله: “يَا هِشَامُ مَنْ سَلَّطَ ثَلَاثاً عَلَى ثَلَاثٍ فَكَأَنَّمَا أَعَانَ هَوَاهُ عَلَى هَدْمِ عَقْلِهِ؛ مَنْ أَظْلَمَ نُورَ فِكْرِهِ‏ بِطُولِ أَمَلِهِ، وَمَحَا طَرَائِفَ حِكْمَتِهِ بِفُضُولِ كَلَامِهِ، وَأَطْفَأَ نُورَ عِبْرَتِهِ بِشَهَوَاتِ‏ نَفْسِهِ، فَكَأَنَّمَا أَعَانَ هَوَاهُ عَلَى هَدْمِ عَقْلِهِ وَمَنْ هَدَمَ عَقْلَهُ أَفْسَدَ عَلَيْهِ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ“، ثم يقول، عليه السلام، مستفهماً مستنكراً: “يَا هِشَامُ كَيْفَ يَزْكُو عِنْدَ اللَّهِ عَمَلُكَ وَأَنْتَ قَدْ شَغَلْتَ عَقْلَكَ عَنْ أَمْرِ رَبِّكَ، وَأَطَعْتَ هَوَاكَ عَلَى غَلَبَةِ عَقْلِكَ؟”.

ثم يُعزِّز المولى الفكرة بمزيد من البيان العلوي فيقول: “يَا هِشَامُ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، عليه السلام، يَقُولُ: مَا مِنْ شَيْ‏ءٍ عُبِدَ اللَّهُ بِهِ‏ أَفْضَلَ مِنَ الْعَقْلِ، وَمَا تَمَّ عَقْلُ امْرِئٍ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ خِصَالٌ شَتَّى؛ الْكُفْرُ وَالشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونَانِ‏، وَالرُّشْدُ وَالْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولَانِ،‏ وَفَضْلُ مَالِهِ مَبْذُولٌ، وَفَضْلُ قَوْلِهِ مَكْفُوفٌ، نَصِيبُهُ مِنَ الدُّنْيَا الْقُوتُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنَ الْعِلْمِ دَهْرَهُ، الذُّلُّ أَحَبُّ إِلَيْهِ مَعَ اللَّهِ، مِنَ الْعِزِّ مَعَ غَيْرِهِ، وَالتَّوَاضُعُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرَفِ، يَسْتَكْثِرُ قَلِيلَ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَسْتَقِلُّ كَثِيرَ الْمَعْرُوفِ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَرَى النَّاسَ كُلَّهُمْ خَيْراً مِنْهُ، وَأَنَّهُ شَرُّهُمْ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ تَمَامُ الْأَمْرِ“.

 

  • البشارات العُقلائية

البشارات تأتي من الله لتُعطينا نوراً إضافياً، وتُعطينا وَمضةً وتُشعل لنا شمعةً في طريقنا إذا أظلم بسبب أعمالنا وساقتنا شِقوتنا ودخلنا – لا سمح الله – في مسارب الشيطان، ومتاهاته التي يصعب الخروج منها إلا بتلك البشارات الرحمانية التي يُشعلها لنا الرحمن الرحيم، ومن أهم وأعظم تلك البشارات هي استخدام العقل في الحياة، قال، عليه السلام:‏ “إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏ بَشَّرَ أَهْلَ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ‏: {فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ‏}، والألباب هي العقول، فما أعظمها من بُشرى، ولكن ما أصعبها على النفس البشرية، لأنها تتنازع بين النفس الأمارة التي تأمره بطاعة الشيطان وهوى النفس، والنفس اللوامة، ولكن الإنسان لا يهدأ ولا يستقر له قرار إلا بالوصول إلى حالة من اطمئنان النفس، بالرضا النابع عن توازع العقل والقلب، والفكر والعاطفة.

 

  • النتيجة المطلوبة

ليُحقق الإنسان الغاية من وجوده عليه أن يعقل نفسه، ويُرضي ربه، قال، عليه السلام: “يَا هِشَامُ نُصِبَ الْخَلْقُ لِطَاعَةِ اللَّهِ‏، وَلَا نَجَاةَ إِلَّا بِالطَّاعَةِ، وَالطَّاعَةُ بِالْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالتَّعَلُّمُ بِالْعَقْلِ، يُعْتَقَدُ وَلَا عِلْمَ إِلَّا مِنْ عَالِمٍ رَبَّانِيٍّ، وَمَعْرِفَةُ الْعَالِمِ بِالْعَقْلِ“، ذاك هو الإمام المفترض طاعته.

فليس الأمر بالكثرة، كما أنه لم يكن بالكثير، بل بالكيفية والنوعية، “يَا هِشَامُ قَلِيلُ الْعَمَلِ مِنَ الْعَاقِلِ مَقْبُولٌ مُضَاعَفٌ وَكَثِيرُ الْعَمَلِ مِنْ أَهْلِ الْهَوَى وَالْجَهْلِ مَرْدُودٌ“، ولذا ورد عنه، صلى الله عليه وآله: “ركعتان يُصليهما العالم أفضل من ألف ركعة يُصليها العابد“، وعن الإمام الصادق، عليه السلام: “عالم أفضل من ألف عابد وألف زاهد“، وما ذلك إلا لفضل العلم والعقل في هذه الحياة.

فالعقل نور يهدي إلى الله، وجلاؤه وشعاعه طاعة الله وعبادته، وهذا ما نأخذه من الكتاب الحكيم والرسول العظيم، صلى الله عليه وآله، والناطقين عن الله بأمره ونهيه وهم عِدل القرآن، بل هم القرآن الناطق .

آلاف التحية والسلام على سيدنا ومولانا وإمامنا الكاظم، عليه السلام، إمام العقل والعقلاء.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا