أسوة حسنة

الإِمَامُ مُحَمَّدُ الجَّوَّاد شَوكَةٌ فِي عُيونِ العَبَّاسَيين

  • مقدمة

الحديث عن أئمة المسلمين من آل بيت محمد، صلى الله عليه وآله، هو حديث عن الطهارة والنزاهة والشرف والمعصومية، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب: 33)، بهذا الخطاب وهذا المكان الذي بوَّأهم الله تعالى به دون خلقه جميعاً ولذا قال أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام، : “نحن أهل البيت لا يُقاس بنا أحد، فينا نزل القرآن، وفينا معدن الرسالة“، وفي حديث طويل جميل عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال له الإمام الباقر، عليه السلام، : “ويحك يا جابر لا يُقاس بنا أحد، يا جابر بنا والله أنقذكم الله، وبنا نَعَشَكم، وبنا هداكم“.

وهذه ليست من أهل البيت فقط بل عن كبار الصحابة فعن علي بن زيد قال: كنا عند عبد الله بن عمر نُفاضل، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن فعلي، قال: “علي من أهل بيت لا يُقاس بهم أحد من الناس، علي، عليه السلام، مع النبي، صلى الله عليه وآله، في درجته“.

وأحمد بن حنبل، قال: “علي بن أبي طالب من أهل بيتٍ لا يُقاس بهم أحد“.

والإمام محمد الجواد، عليه السلام،  الإمام التاسع من أئمة المسلمين وآل محمد، صلى الله عليه وآله، الذي كان آية من آيات الله في كل شيء خَلقاً وخُلُقاً، رغم صغر سنه، وقلَّة جرمه، ونحيل جسمه الشريف.

 

  • الإمام الجواد، عليه السلام،  آتاه الله العلم صبياً

نعم؛ إنه عطاء من الله تعالى ولذا نقول بأن علم الإمام الجواد، عليه السلام،  كان لدنِّي أي من عند الله كما قال عن العبد الصالح الذي تعلم موسى الكليم ووصيه منه بقوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}. (الكهف: 65).

فهو الجواد الذي جاد عليه الباري سبحانه بالعلم والفهم صبياً كما فعل بعباده المخلَصين كالسيد المسيح، عليه السلام،  قال سبحانه عنه: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} (مريم: 29)، ويحيى بن زكريا، عليه السلام،  قال تعالى عنه: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} (مريم: 12)، فأمر الله لا يتوقف على العمر الزمني للشخص، ولا على أي شيء من أمور الدنيا لأنه أمر الله بين الكاف والنون إذا أراد للشيء أن يكون أمره فكان.

يقول سماحة السيد المرجع المدرسي (حفظه الله): “والعمر وإن كان مقياساً للناس في الأغلب ولكنه ليس بمقياس عند الله، فليس الأكبر سناً أعظم عند الله دائماً، وربَّ شيخ بغيض عند ربه ولربَّ شاب أو طفل محبوب عند بارئه أضف إلى ذلك أن القول بالنبوة والإمامة لا يمكن إلاّ بعد الإيمان الكامل بقدرة الله تعالى على أن يجعل من فرد واحد مجمعاً للفضائل، ومرجعاً للمعارف، وقدوة للناس، وأسوة للخلق، فالاعتقاد بالنبوة يفرض على الإنسان الإيمان بالمعجزة”. (الإمام الجواد، عليه السلام،  قدوة وأسوة: ص6)

 

الإمام محمد الجواد، عليه السلام،  كان شوكة في عيون العباسيين الحاقدين الحاسدين له ولآبائه الطاهرين، عليه السلام،  وهذا ما يعرفونه جميعاً ولكن كانوا أجبن من أن يُصرِّحوا به فصرَّح به المأمون لإغاظتهم وتحديهم

 

والإمام الجواد، عليه السلام،  من آل محمد، صلى الله عليه وآله، الذين خلق الله الخلق لأجلهم وكرامتهم فلماذا لا يُعطيه الله سبحانه العلم والفهم وهو في تلك السن المبكرة من عمره، وليس هو بدعاً من ذلك بل ولده الإمام علي الهادي، عليه السلام،  آتاه الله الولاية في الثامنة، وحفيده الإمام المهدي، عجل الله تعالى فرجه الشريف، في الخامسة، فالأمر بآل محمد، أبلغ وأوضح لأنهم أولياء الله وحُججه على الخلق جميعاً.

ولكن المشكلة في الأمة الإسلامية أنهم ما آمنوا بآل محمد، صلى الله عليه وآله، ولكنهم أسلم بعضهم واستسلم البعض الآخر تحت ضغط الواقع والانتصارات الكبيرة التي حققها المسلمون بقيادة رسول الله، فخضعوا للإسلام كأمر واقع وأقروا لرسوله الكريم بالرسالة رغماً عنهم، وهذا ما أقرَّه وبيَّنه ربنا سبحانه وتعالى في قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (الحجرات: 14)، كان منهم ذلك في زمن وعصر رسول الله، صلى الله عليه وآله، وانتصارات ومعجزاته الباهرة فما رأيك في زمن الإمام محمد الجواد، عليه السلام،  في عصر المأمون العباسي أي بعد قرنين من الزمن فهل سيؤمنون بإمامته وأنه أعلم أهل الأرض وهو في السادسة من عمره الشرف؟

 

  • اختبار عبد الله المأمون للإمام الجواد

وكان المأمون يُبرر موقفه من الإمام علي بن موسى، عليه السلام،  بنقل فضائله التي عجزت شفاه المأمون وغيره عن أن تحصيها عداً قائلاً: “بأن أهل هذا البيت قد ورثوا العلم من آبائهم كما ورثوا المكارم والخُلق الرفيع”، ولذا عندما دسَّ السَّم إلى الإمام علي الرضا، عليه السلام،  تحدَّى العباسيين جميعاً بولده الإمام محمد الجواد، عليه السلام،  وذلك بفرض تزويجه من ابنته أم الفضل ونأخذ الرواية كلها لروعتها من سماحة السيد المرجع المدرسي (دام عزه): “عن الرَّيان بن شبيب قالَ: لمّا أَرادَ المأمونُ أَن يُزوِّج ابْنَتَه أمَّ الْفَضْل أَبا جعفر محمد بن عليّ، عليهما السلام، بَلَغَ ذلك العباسيّين فغَلُظَ عليهم و اسْتَكْبَروه، وخافُوا أَنْ يَنْتَهِيَ الأمرُ معه إِلى ما انتَهى مع الرضا، عليه السَّلام، فخاضوا في ذلك، واجْتَمَعَ منهم أَهلُ بيته الأدْنَونَ منه.

فقالوا له: ننشدُك اللّهَ – يا أَميرَ (المواطنين) – أَنْ تُقيمَ على هذا الأمرِ الذي قد عَزَمْتَ عليه من تزويج ابن الرضا، فإنّا نخَافُ أَن يَخْرُجَ به عنّا أَمرٌ قد ملَّكَنَاهُ اللّهُ، ويُنْزَعَ مِنّا عزٌّ قد أَلبَسَناه اللهُّ، وقد عَرَفْتَ ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاءُ الراشدون قَبْلَكَ من تبعيدهم والتصغيرِ بهم، وقد كُنّا في وَهْلةٍ من عَمَلِك مع الرضا ما عَمِلْتَ، حتى كَفانَا اللّهُ المهمَّ من ذلك، فاللّهَ اللّهَ أَنْ تَرُدَّنا إِلى غمٍّ قد انْحَسَرَ عنّا، واصْرِفْ رَأْيَك عن ابن الرضا واعْدِلْ إِلى مَنْ تراه من أَهل بيتك يَصْلَحً لذلك دونَ غيره.

فقالَ لهم المأمونُ: أَمّا ما بينكم وبينَ آل أَبي طالب فأَنتُمُ السَبَبُ فيه، ولو أَنْصَفْتُمُ القَوْمَ لكانَ أَولى بكم، وأَمّا ما كان يَفْعَله مَنْ كانَ قبلي بهم فقد كانَ قاطِعاً للرحِم، أَعوذ باللهِّ من ذلك، وواللّهِ ما نَدِمْتُ على ما كانَ منّي من استخلافِ الرضا، ولقد سَألته أنْ يَقوُمَ بالأمْرِ وأنزَعُه عن نفسي فأَبى، وكانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مَقْدُوراً، وأَمّا أَبو جعفر محمّدُ بن عليّ فقد اخْترْته لتبريزه على كافةِ أَهْلِ الْفَضْلِ في العلمِ والْفَضْلِ مع صِغَرِ سِنِّه، والأعجُوبة فيه بذلك، وأَنا أَرْجُو أَنْ يَظْهَرَ للناسِ ما قد عَرَفْتُه منه فيَعْلَموا أَنّ الرأيَ ما رَأَيْتُ فيه.

فقالوُا: إِنَ هذا الصبي وإنْ راقَكَ منه هَدْيُه، فإِنّه صبي لا معرفةَ له ولا فِقْهَ، فأَمْهِلْه ليتأَدَّبَ ويَتَفَقَّهَ في الدِّين، ثم اصْنَعْ ما تراه بعد ذلك.

فقالَ لهم: ويحْكُم إِنّني أَعْرَفُ بهذا الفتى منكم، وِإنّ هذا من أَهل بَيْتٍ عِلْمُهم من اللّه ومَوادِّه والهامه، لم يَزَلْ آباؤه أَغنياءَ في علمِ الدِّينِ والأدبِ عن الرعايا الناقصةِ عن حدِّ الكمالِ، فإنْ شِئْتُمْ فامْتَحِنُوا أَبا جعفرٍ بما يَتَبَيٌنُ لكم به ما وَصَفْتُ من حالِهِ.

قالوا له: قد رَضِيْنا لك يا أَميرَ (المواطنين) ولأنفُسِنا بامْتِحانِه، فخلِّ بيننا وبينه لنَنْصِبَ مَنْ يَسْأله بحَضْرَتِك عن شيءٍ من فِقْه الشريعة، فإِنْ أَصابَ في الجواب عنه لم يَكُنْ لنا اعتراض في أَمْرِه وظَهَرَ للخاصةِ والعامَّةِ سَديد رَأْي أَميرِ (المواطنين)، وإنْ عَجَزَ عن ذلك فقد كُفْينا الخَطْبَ في معناه.

فقالَ لهم المأمونُ: شأنَكم وذاك متى أَرَدْتُم.

فخَرجوا من عنده وأَجْمَعَ رَأيهُم على مسألةِ يحيى بن أَكْثَم وهو يومئذٍ قاضي القضاة على أَنْ يَسْألَه مسألةً لا يَعْرِفُ الجوابَ فيها، ووَعَدوهُ بأَمْوالٍ نفيسةٍ على ذلك، وعادُوا إلى المأمونِ فَسَأَلوه أَنْ يَخْتارَ لهم يوماً للاجتماع، فأَجابَهُم إلى ذلك.

واجْتَمَعُوا في اليوم الذي اتفَقوا عليه… فقالَ يحيى بن أَكثم للمأمونِ: يَأذَنُ لي أَمير المؤمنينَ أَنْ أَسْأَلَ أَبا جعفر؟ فقالَ له المأمونُ: اسْتَأْذِنْه في ذلك، فأَقْبَلَ عليه يحيى بن أَكثم.

فقالَ: أَتَأْذَنُ لي – جُعِلْتُ فداك – في مَسْألَةٍ؟

فقالَ له أَبو جعفر،عليه السَّلام: (سَلْ إِنْ شِئْتَ).

قالَ يحيى: ما تَقولُ – جُعِلْتُ فداك – في مُحرِمِ قَتَلَ صَيْداً؟

فقال له أَبو جعفر: “قَتَلَه في حِلٍّ أَو حَرَم؟ عالماً كانَ المُحْرِمُ أَم جاهلاً؟ قَتَلَه عَمْداً أَو خَطَأ؟ حُراً كانَ المُحْرِمُ أَم عَبْداً؟ صَغيراً كانَ أَم كبيراً؟ مُبْتَدِئاً بالقتلِ أَمْ مُعيداً؟ مِنْ ذَواتِ الطَّيرِ كانَ الصيدُ أَمْ من غيرِها؟ مِنْ صِغارِ الصَّيد كانَ أَم كِبارِها مصُرّاً على ما فَعَلَ أَو نادِماً؟ في الليلِ كانَ قَتْلَهُ للصيدِ أَم نَهاراً؟ مُحْرِماً كانَ بالعُمْرةِ إذْ قَتَلَه أَو بالحجِّ كانَ مُحْرِماً؟”

فتَحَيَّرَ يحيى بن أَكثم وبانَ في وجهه الْعَجْزُ والانقطاعُ ولَجْلَجَ حتى عَرَفَ جمَاعَةُ أَهْلِ المجلس أمْرَه.. فقالَ المأمونُ: الحمدُ لله على هذه النعمة والتوفيقِ لي في الرأْي، ثم نَظَرَ إِلى أَهْلِ بَيْتِه وقالَ لهم: أَعَرَفتمُ الآنَ ما كُنْتُم تُنْكِرُونَه؟”

فالإمام محمد الجواد، عليه السلام،  كان شوكة في عيون العباسيين الحاقدين الحاسدين له ولآبائه الطاهرين، عليه السلام،  وهذا ما يعرفونه جميعاً ولكن كانوا أجبن من أن يُصرِّحوا به فصرَّح به المأمون لإغاظتهم وتحديهم، وبيَّن لهم أنهم هم السبب بالعداوة لبني عمومتهم وأسيادهم، ولهذا عندما أجاب الإمام، عليه السلام،  بهذا الجواب القاطع اعتبر المأمون أنه فوزه وصحَّة رأيه فيه، عليه السلام، .

فآلاف التحية والسلام على معجزة الولاية إمامنا محمد الجواد، عليه السلام،  في يوم مولده الشريف.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا