مناسبات

حَاجَتُنا لِزَينَبَ الصَّابِرَةُ المُحتَسِبَةُ فِي هَذَا العَصر

  • مقدمة في الولادة الميمونة

عندما تتكامل وتتفق الجينات الوراثية بين الوالدين، وتتجمع خصال الخير تولد العبقرية، وعندما تشترك عناصر السماء مع عناصر الأرض الطيبة تولد الطيبة، والبركة، بمخلوقة استثنائية، تُزهر لأهل السماء كما تُزهر الكواكب لأهل الأرض، تلك هي الحوراء الإنسية، فاطمة الزهراء المرضية، أم أبيها، وكفؤ بعلها وفخر بنيها صلوات ربي عليها.

تلك الحوراء الإنسية وَلدت لنا نسل خير البرية، صلى الله عليه وآله، وكان ثالث أولادها السيدة الحوراء زينب، عليها السلام، فخر المخدرات، وعقيلة بني هاشم الأكارم، والعرب تقول: (الولد سرُّ أبيه)، وعليه فالبنت سرُّ أمِّها، ولكن فاطمة الزهراء هي سرِّ الوجود، فما حال السيدة الحوراء؟

يقول الشيخ باقر شريف القرشي (رحمه الله): “ووضعت الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السّلام وليدتها المباركة التي لم تولد مثلها امرأة في الإسلام إيماناً، وشرفاً، وطهارةً، وعفةً، وجهاداً، وقد استقبلها أهل البيت، وسائر الصحابة بمزيدٍ من الابتهاج والفرح والسرور، وأجرى الإمام أمير المؤمنين على وليدته المراسيم الشرعية، فإذّن في أُذنها اليمنى، وأقام في اليسرى.

لقد كان أوّل صوت قرع سمعها هو: (الله أكبر، لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله) وهذه الكلمات أُنشودة الأنبياء، وجوهر القيم العظيمة في الأكوان، فانطبعت هذه الأُنشودة في أعماق قلب حفيدة الرسول، صلى الله عليه وآله، فصارت عنصراً من عناصرها، ومقوماً من مقوماتها.

وحينما علم النبي، صلّى الله عليه وآله بهذه المولودة المباركة سارع إلى بيت بضعته، فأخذها ودموعه تتبلور على سحنات وجهه الكريم، وضمَّها إلى صدره، وجعل يوسعها تقبيلاً، وبُهرت سيّدة النساء فاطمة عليها السّلام من بكاء أبيها، فانبرت قائلةً: “ما يبكيك يا أبتي؟ لا أبكى الله لك عيناً“. فأجابها بصوت حزين النبرات: “يا فاطمة، اعلمي أنّ هذه البنت بعدي وبعدك سوف تنصبّ عليها المصائب والرزايا“. (السيدة زينب (ع) رائدة الجهاد الشيخ القرشي: ص3، عن الطراز المذهّب: 38).

 

كان أمير المؤمنين، عليه السلام، يمشي بين يديها وأخويها من خلفها، وإذا وصلت إلى قبر جدِّها كان أمير المؤمنين، يطفئ السراج غِيرةً عليها، وحتى لا يرى أحد خيالها، وهذا ما شهد به أحدهم حينما كانت في الكوفة فقال: جاورتها سنوات فلم أسمع لها حسَّاً، ولم أرَ لها خيالاً قط

 

  • جبال الصبر زينب

زينب تلك النَّسمة الطاهرة، والنفحة الزهرائية، والبضعة العلوية، التي ولدت ثالثة ثلاثة لا نظير لهم في الوجود، فأخواها الكبيران هما سبطا هذه الأمة وسيدا شباب أهل الجنة، وأبواها العظيمان أمير المؤمنين عليه السلام، وسيدة نساء العالمين، وتاج الكون جدها رسول الله محمد، فحازت الفخر والشرف من كل جهاته، سماءه وأرضه، مع ما اجتمعت عليه عناصرها النورانية، وقابلياتها الشخصية، فنشأت في الأرض، ولكن برعاية وتربية وأنوار السماء.

السيدة زينب الكبرى، عليها السلام كانت قُرَّة عين أمها فاطمة، وزين أبيها أمير المؤمنين، وشقيقة أخويها الحسن والحسين عليهما السلام، فمَنْ يُدانيها وهي درَّة أهل البيت، ومفخرة بني هاشم؟

فلماذا يجري عليها شيء من القسوة والعذاب وهي أرقُّ من النَّسمَة في الصباح؟

ومَنْ يجرؤ على إيقاظها إن كانت نائمة وأخوها سيد شباب أهل الجنة، أبو عبد الله الحسين، كان يقف عليها ويُفيِّي لها ويُظللها حتى لا تُصيبها الشمس، فلربما تؤذيها فيقف في الشمس حباً واحتراماً لها؟

ومَنْ يستطيع أن يقرب لها وأسود الشَّرى تُحيط بها، فكانت إذا خرجت للزيارة ـ على صغر سنِّها ـ كان أمير المؤمنين، عليه السلام، يمشي بين يديها وأخويها من خلفها، وإذا وصلت إلى قبر جدِّها كان أمير المؤمنين، يطفئ السراج غِيرةً عليها، وحتى لا يرى أحد خيالها، وهذا ما شهد به أحدهم حينما كانت في الكوفة فقال: جاورتها سنوات فلم أسمع لها حسَّاً، ولم أرَ لها خيالاً قط.

ومَنْ يتجرَّأ على أن يتقرَّب من هودجها وشبل حيدرة أبو الفضل العباس، عليه السلام حاميها، وراعيها، وحارسها، وكافلها، والقائم على خدمتها بوصية من أبيه أمير المؤمنين وطلبها؟

ورغم ذلك كله تجرَّأت صبيان النار الأموية عليها بعد أن قتلوا جميع أهلها ورجالها وحماتها في يوم عاشوراء، حيث المأساة الخالدة، جرأة على الله ورسوله، صلى الله عليه وآله، وما كان منهم ذلك إلا انتقاماً من جدها رسول الله، الذي سفَّه أحلامهم، وكسر أصنامهم، وأبيها أمير المؤمنين الذي ضرب خراطيمهم، وقتل شياطينهم، فانتقموا منهما شرَّ انتقام وعملوا على دفن الإسلام في مهده وإعادة الجاهلية إلى سابق عهدها.

 

يجب أن تبعث الأخوات الزينبيات في عصرنا المضطرب هذا وواقعنا المأزوم الطمأنينة في قلوبنا وتعيد السكينة إلى بيوتنا وأسرنا ومجتمعاتنا الإسلامية المستهدفة بهذه الحرب الظالمة التي يُسمونها بالناعمة5

 

  • أم المصائب والرزايا

وهذه نأخذها من سماحة السيد المرجع المدرسي (دام عزه) حيث يقول: “لم يشهد التاريخ امرأة أعظم صبراً من زينب سلام الله عليها، لقد ذُبح أبناءها عون ومحمد، وقيل عبد الله على مشهد منها فلم تجزع، ثم استشهد عبر ساعات وأمام عينها إمامها الحسين وأخوتها وأبناء إخوتها فصبرت وكانت مثلاً في رباطة الجأش والحكمة في تدبير الأمور، وقيادة الموقف الصعب.

إنها كانت أسيرة وربما مكبلة، وكانت قد أنهكتها المصائب والمتاعب الروحية والجسدية، ولكنها كانت تقود المعارضة من موقع الأسر، كما تدبر شؤون الأسارى فياله من صبر عظيم لا يمكن أن يناله بشر إلا بفضل الله وحسن التوكل عليه”.

نعم؛ كانت مصائب تهدُّ الجبال ولكن سيدتنا زينب، عليها السلام كانت على وعي تام، وإدراك حقيقي من أن لها رسالة تجاه ربها ودينه، ومسؤولية تجاه إمامها وإرث الرسالة، مع كل هذه النساء والأطفال الذين كانوا جميعاً يلوذون بها، ويستغيثونها لأنها المفزع والموئل والمرجع، ولعلها هذه من أعظم الأمور عليها إذ أنها أسيرة كسيرة لا جناح لها وهي بحاجة للحماية والرِّعاية أكثر منهم جميعاً.

 

  • زينب الرِّسالية المسؤولة

هنا الدرس الذي يجب على نسائنا وبناتنا أن يتعلمنه، ويقفن أمامه طويلاً حتى يعرفن حقيقة الموقف الزينبي فيصرن زينبيات في أوقات الشدة والأزمات، ولا ينكسرن أمام العواصف العاتية، والحروب الظالمة، ويُحافظن على هدوئهن وتوازنهن في ساحات المواجة والجهاد إذا تطلب الأمر حضورهن إلى جانب المجاهدين من الأزواج والأخوة والأبناء.

فالسيدة زينب، عليها السلام، هزَّت عروش الطغاة والظالمين بصبرها وصمودها وكلماتها التي كانت تنزل عليهم كالصواعق المحرقة، فتدك عروشهم وتكاد تبقر كروشهم، ومواقفها مازالت شاهدة بين عيوننا من كربلاء الصمود حيث أبكت عمر بن سعد حين ندبت ونادت على أخيها، إلى الكوفة حيث صغَّرت عُبيد الله بن زياد بموقفها، ثم إلى الشام – وآه من الشام – حيث صبَّت جام غضبها كله وقرَّعت الطاغية يزيد وهو في زهوِّ الانتصار فأحالت نهاره إلى ليل وفرحه إلى حزن طويل فكان أول مجلس عزاء يُقام على سيد الشهداء، عليه السلام في بيته من قبل زوجته كما يقال.

ويروي سماحة السيد المرجع المدرسي (حفظه الله) موقفاً عظيماً عن العقيلة زينب، عليه السلام، الذي يقول: “أنها ما استطاعت أن تتعرَّف على جسد أخيها سيد الشهداء، عليه السلام، بعد أن رضَّته الخيول الأعوجية إلا من خلال الرائحة، فكانت تشمُّ ريح الأخوة منه فعرفته”، ويقول: “عندما نودي بآل الرسول بالرحيل من وادي كربلاء ومروا بالأسرى على أجساد ذويهم نكاية بهم، فألقى الإمام زين العابدين نظرة وداع أليمة على جسد أبيه المقطع فاستبد به الحزن، ورمقته الصديقة زينب وأحست أن حجة الله وإمام زمانها علي بن الحسين في خطر إذ يكاد الحزن يقضي عليه فأدركت الموقف وتوجهت إليه قائلة: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وأخوتي؟

فقال الإمام زين العابدين عليه السلام: “وكيف لا اجزع وأهلع، وقد أرى سيدي وإخوتي وعمومتي وولد عمي وأهلي مضرَّجين بدمائهم مرمَّلين، بالعراء مسلبين لا يكفنون ولا يوارون، ولا يُعرِّج عليهم أحد، ولا يقربهم بشر كأنهم أهل بيت من الدَّيلم والخزر.

فقالت عليها السلام: “لا يجزعنك ما ترى فوالله إن ذلك بعهد من رسول الله إلى جدك وأبيك وعمك، وقد أخذ الله ميثاق أُناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة، وينصبون لهذا الطفِّ علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا ظهوراً، وأمره إلا علواً“. (بحار الأنوار: ج 45 ص 179).

وهكذا بعثت السيدة زينب روح السكينة في قلب الإمام سلام الله عليهما”. (الصديقة زينب  شقيقة الحسين السيد المدرسي: ص15).

 

وهكذا يجب أن تبعث الأخوات الزينبيات في عصرنا المضطرب هذا وواقعنا المأزوم الطمأنينة في قلوبنا وتعيد السكينة إلى بيوتنا وأسرنا ومجتمعاتنا الإسلامية المستهدفة بهذه الحرب الظالمة التي يُسمونها بالناعمة، وما هي إلا من أسوء وأشد أنواع الحروب عبر التاريخ، لأنها تستهدف قيمنا وديننا وثقافتنا، أي أنها تستهدف هويتنا ووجودنا في هذه الحياة.

والأخوات هن الطرف المستهدف بشكل خاص لأنهن الطرف الضعيف ولكن لا يدرون أن قوة المرأة بضعفها، وضعف الرجل بقوته أمام المرأة، فالمرأة الصالحة درع لزوجها وبيتها وأبنائها من هذه الحرب الشرسة، وهي درع من النار وغضب الجبار إذا ما وقفت وقفة زينبية في عصر الحضارة الرقمية، فمنذ أيام تناقلت وسائط التواصل موضوعاً مثيراً جداً؛ يقول المستشرق الأوربي، إدوارد مونتاغيوا: “اقتلوا كل زينب“، لأنها رمز العفة والصمود، لموقفها العظيم بوجه يزيد اللئيم.

واعلمن أيتها الزينبيات أن الأمة والبلاد والعباد بخير ما دمتن أنتن تقتدين بعفة، وطهارة، وشجاعة، وصبر، وعلم، السيدة زينب عليها السلام.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا