لو تذكر كل واحد منا بعض حالاته السابقة، وكيف احتياجه لعون الله، في أمر من الأمور، أو نظر الى الآخرين، كيف أن البعض ـ بلطف من الله ـ نالته يد الرحمة الالهية، لو تذكر كل ذلك، لأيقن أن الثقة بالله سر عظمة الإنسان في الحياة، وسر كبير في تحقيق نجاحاته المختلفة، الدنيوية منها أوالأخروية.
لكن المشاكل التي تحيط بالإنسان تجعله يفقد روح الأمل والثقة بالله، إن كان إيمانه وتوكله على الله ضعيف، لذلك نرى البعض يفقد توازنه عند أقرب مشكلة تلم به، فإذا تعرض لابتلاء في ماله، أو أهله ..، ينسى الله تعالى، ويتغافل عن كثير من النعم الإلهية المتوالية عليه. وكأنه نسي أن الله تعالى بالأمس اخرجه من محنة، ليبتليه اليوم بمشكلة أخرى، ليرى مدى صبره وتحمله.
وجزع الإنسان وقلّة صبره، ناشئ من جهله بسنن الله تعالى في هذا الكون، فالله تعالى لم يخلق الإنسان عبثا ولا لعبا، يقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ}. يقول الإمام الحسن العسكري: “ما خُلقنا للعب”. ولهذا فإن جهل الكثير من الناس بسنن الله تعالى يجعلهم يصطدمون معها، وبالتالي رفضها.
والثقة بالله تعالى إحدى مفردات الإيمان العملي بالله تعالى، ومن تجليات المعرفة بالله تعالى وبسننه في هذه الحياة. وإذا ما عدنا الى آيات القرآن الكريم، نجدها تقرن الإيمان بالله تعالى بالعمل، فالإيمان ليس تقولات على الألّسن فقط، بل تجسيد عملي في حياة المؤمن، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}.
إذا عرف العبد أن الله تعالى حي قيوم يفعل ما يشاء، وأنه يتولى الصالحين، وهو حفيظ لكتابه، وأنه عزيز حكيم، إذا وعى المؤمن ذلك فإنه يتوكل على الله، ويتيقن بوعده ويسكن إلى نصره، ويعتمد توفقيه
-
لماذا نحتاج الثقة بالله؟
خُلقت الحياة على أساس أنها مرحلة لاختبار الإنسان، في أحسن أعماله التي سيقدمها خلال هذا الإختبار، يقول الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}، وهذا الإمتحان يحمل في طياته صعوبات شتى، ليُختبر بها الإنسان، وبالتالي يتجازوها بما أعطاه الله من الإيمان.
ولأن الله تعالى قد خلق الإنسان من ضعف، ومن عجل، كما سطر ذلك القرآن الكريم في بعض آياته الكريمة، يقول الله تعالى: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً}، ويقول تعالى في آية اخرى: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ}، وهذا الضعف والعجل يشكلان عائقا أمام تكامل الإنسان، كسائر الصفات التي تحول من سمو الفرد ورُقِيّه.
“والعجلة من ذات الإنسان، حيث أنها نابعة من الجهل بالمستقبل، والاحتجاب عن غيب الزمن، بينما الصبر وليد العقل، والعلم بالنتائج المستقبلية، ومعلوم أن ذات الإنسان جهل، والعلم من الله”. (من هدى القرآن، المرجع المدرسي ج4، ص: 424).
يقول رسول الله، صلى الله عليه وآله: “إنما أهلك الناس العجلة، ولو أن الناس تثبتوا لم يهلك أحد”، وقال أيضا: ” الأناة من الله، والعجلة من الشيطان”.
والثقة بوعود الله وهي من أحدى الأمور المهمة الكفيلة بجبرضعف الإنسان وعجلته، ومما وصلنا من الحضارة المادية الحديثة، التشاؤم تجاه الواقع المعاش، بعيدا عن وعود الله بتغير الواقع، إن سعى الناس لإصلاحه، يقول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}؛ ويقول تعالى: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}.
ومما يؤسف له أن هناك ثقافة بدأت تنتشر بين طلاب الشباب، وطلاب الجامعات بالتحديد، فإذا قلت له: لماذا لا تتزوج وقد بلغت من العمر ما يؤهلك للزواج؟
فيرد فوراً، بالإجابة المعلبة التي اصطنعها من اصطنعها ـ لابقاء الشباب في وحل الرذيلة، بداعي توفير كل المتطلبات ـ : كيف اتزوج، وليس لدي وظيفة؟ ولا أملك سيارة خاصة بي؟ وكيف اتزوج ولا املك بيتا لي وزوجتي بعيدا عن أهلي؟
صادفت بعض الشباب أيام الدراسة الجامعية، وكانوا من عوائل ذات مدخول مالي جيد جداً، فكنا نتجاذب اطراف الحديث؛ فكان من المواضيع التي عادة ما يطرحها الشباب هي الزواج وما يتعلق به.
فسألت أحد هؤلاء: لماذا لا تتزوج وانت تملك سيارة خاصة بك؟
وأنت تسكن أنت واخوك زوجته وأمك فقط؟
وتملكون بيتا واسعا؟
فقال: لابد أن أهيأ مستقلبي، ولن اتزوج حتى أوفّر كل شيء مما احتاجه!
فلا بد أن أتوظف، ولابد لي من أن أسكن في بيت خاص بي وحدي!
ولابد من .. ومن ..!
كيف غفلنا عن كلام الله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. والذي وعد فيه أن يغني من يسعَ للزواج.
و”إذا تدبرنا في هذه الآية، ومن خلالها في سنن الله في الحياة، عرفنا أن عجلة الحياة لم تكن لتدور من دون الزواج، الذي هو أبرز مظاهر التعاون عند الجنس البشري أوليست الحاجة أم الاختراع، أوليس الإحساس بالمسؤولية صاعق القوى الكامنة عند الإنسان؟! إن رزق الله كامن في الأرض، وقدرات الإنسان كامنة في نفسه، إنما تتفجر تلك القدرات فتستخرج رزق الله بالأمل والحاجة والسعي”.( من هدى القرآن، ج6، ص: 46).
يقول صلى الله عليه وآله: مَن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله تعالى
ومن هنا جاء في رواية مأثورة عن النبي صلى الله عليه واله:
“مَنْ تَرَكَ التَّزْوِيجَ مَخَافَةَ الْعَيْلَةِ فَقَدْ أَسَاءَ ظَنَّهُ بِالله عَزَّ وَ جَلَّ إِنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ”.
بل إن النبي كان يوصي الفقراء بالزواج لكي يوسع الله عليهم.
يروي الإمام الصادق عليه السلام أنه:
“أَتَى رَسُولَ الله صلى الله عليه واله شَابٌّ مِنَ الْأَنْصَارِ فَشَكَا إِلَيْهِ الْحَاجَةَ فَقَالَ لَهُ: تَزَوَّجْ، فَقَالَ الشَّابُّ: إِنِّي لَأَسْتَحْيِي أَنْ أَعُودَ إِلَى رَسُولِ اللِه صلى الله عليه واله فَلَحِقَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: إِنَّ لِي بِنْتاً وَسِيمَةً فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ، قَالَ: فَوَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ [قَالَ] فَأَتَى الشَّابُّ النَّبِيَّ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه واله يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ عَلَيْكُمْ بِالْبَاهِ”.
ولقد بلغ من تحريض الإسلام على الزواج: أن يقول الإمام الصادق عليه السلام:
“رَكْعَتَانِ يُصَلِّيهِمَا الْمُتَزَوِّجُ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ رَكْعَةً يُصَلِّيهَا أَعْزَبُ”.
ويروى عن رسول الله صلى الله عليه واله قوله:
“مَنْ تَزَوَّجَ أَحْرَزَ نِصْفَ دِينِهِ”.
وقال صلى الله عليه واله:
“رُذَالُ مَوْتَاكُمُ الْعُزَّابُ”.
-
الثقة بالله سر نجاح الإنسان
مع ما يوجهه الإنسان من صعوبات ومآسٍ في حياته الشخصية، فهو بحاجة الى ركن قوي يلجئ إليه ظهره، ليستند عليه في أشد الظروف، وفي هذه الظروف فهو بحاجة الى الثقة بالله، ولا تنمو الثقة بالله إلا بالمعرفة، لأنه العلم والمعرفة تشكل الخطوة الأساس في هذا السبيل.
يقول الإمام علي، عليه السلام في وصيته لكميل بن زياد: ما من حركة إلا وأنت بحاجة إلى معرفة”.
“فكل عمل تحتاج فيه إلى معرفة، والتوكل على الله تعالى يستلزم معرفته تبارك وتعالى، وكلما تدرج المؤمن في معرفة الله، كلما ازداد ثقة به، وتوكلا عليه.
فإذا عرف العبد أن الله تعالى حي قيوم يفعل ما يشاء، وأنه يتولى الصالحين، وهو حفيظ لكتابه، وأنه عزيز حكيم، إذا وعى المؤمن ذلك فإنه يتوكل على الله، ويتيقن بوعده ويسكن إلى نصره، ويعتمد توفقيه.
وقد جاءت صفة التوكل كأبرز صفات الؤمنين العارفين؛ يقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}. ( بتصرف من هدى القرآن؛ المرجع المدرسي).
إن التوكل على الله، والثقة بوعوده سلاح الإنسان في مواجهة المخاوف التي قد تعترض طريقه، فبالتوكل على الله ينسف المؤمن الخوف من الطبيعة ومن المجهول الذي ينتظره، فما دام الإنسان متوكلا على الله تعالى، فإن هذا التوكل يدفعه الى العمل والجد، لأن أساس فكرة التوكل على الله قائمة على العمل، وإلا فإن من يدعُ الله بأن يرزقه، ثم يبقى حبيس داره فإنه نوع من التواكل!
وجميل ما قاله النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، عن التوكل وكيف أنه قوة لا تضاهيها قوة أخرى؛ يقول صلى الله عليه وآله: مَن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله تعالى “.( ميزان الحكمة – محمد الريشهري – ج ٤ – الصفحة ٣٦٥٩).
كذلك فإن التوكل على الله، والثقة به، يجعل الإنسان يبتعد عن حالة التشاؤم ـ التي وقع فيها غالبية أبناء المجتمع ـ فهناك من وضع على عينيه نظارة سوداء، فيرى كلما يقع الى نظره أسودا! حتى المستقبل الذي هو جزء من الغيب، فإنه البعض يبني تصورا سلبيا عنه، وهذا بحد ذاته مداعاة الى التكاسل والخمول. في قبال ذلك فإن التوكل مع العمل، ينشر التفاؤل في النفس الإنسانية، وهذا ما يجعلها تحدو نحو العمل والجد في الحياة.