أسوة حسنة

رَزِيَّةُ يَومِ الخَمِيسِ الكَارِثِيَّة .. شعارها، منطلقاتها، أهدافها (2)

  • مقدمة

التاريخ والسيرة النبوية العطرة، يشهدان؛ أن الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله وضع منهجاً ربانيَّاً قويماً، أساسه القرآن الحكيم، ولم يدع شيءً يُقرِّبهم إلى الله والجنة إلا وأمرهم به، ولا شيء يهوي بهم في جهنم والنار إلا ونهاهم عنه، بل كان قاموساً من المَكرمات، ومعجماً من الفضائل في القول والعمل، ولذا أمر الله الإنسانية باتخاذه قدوة حسنة في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}. (الأحزاب: 21).

 

هذا الرسول العظيم، والإنسان المثال، والشَّخص الكامل من كل نواحيه، خلقه الله من نور ذاته، وبعثه رسولاً إلى خلقه، برسالة الإسلام العظيم وهو خُلاصة رسالات السماء، وأمر الإنسانية بأن تقتدي به وتتأسى بسيرته العطرة لتحقق إنسانيتها في هذه الحياة، وتعيش سعادتها المنشودة على هذه الأرض التي تعجُّ بالشياطين الفاسدة والمفسدة ولا خلاص للإنسان من الشيطان إلا بالاعتصام بالله، والأخذ بما بيَّنه رسول الله، صلى الله عليه وآله، في الحديث المتواتر فقد روي الحديث بألفاظ مختلفة لأنها في مواطن مختلفة ففي حجة الوداع هناك لا أقل من ثلاثة خطب، عدا عن غيرها، إلا أنّها جميعها تتفق على أنّ النبي الأعظم ترك من بعده خليفتين سمَّاهما؛ (الثقلين)هما؛ القرآن الحكيم، والعترة الطاهرة، مؤكداً على أنَّهما لن يفترقا إلى يوم القيامة وقدومهما عليه عند حوض الكوثر، وأمر الأمة الإسلامية بالتمسّك بهما إن أرادت النجاة من الضلال، والافتراق والضعف والتشتت.

 

إِنِّي تَارِك فِيكمْ أَمْرَينِ إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا- كتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَهْلَ بَيتِي عِتْرَتِي، أَيهَا النَّاسُ؛ اسْمَعُوا وَقَدْ بَلَّغْتُ إِنَّكمْ سَتَرِدُونَ عَلَيّ الْحَوْضَ فَأَسْأَلُكمْ عَمَّا فَعَلْتُمْ فِي الثَّقَلَينِ، وَالثَّقَلَانِ كتَابُ اللَّهِ جَلَّ ذِكرُهُ، وَأَهْلُ بَيتِي

 

 

وقد تواتر هذا الحديث الشريف فقد ورد في أصول الكافي، قال صلى الله عليه وآله: “..إِنِّي تَارِك فِيكمْ أَمْرَينِ إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا- كتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَهْلَ بَيتِي عِتْرَتِي، أَيهَا النَّاسُ؛ اسْمَعُوا وَقَدْ بَلَّغْتُ إِنَّكمْ سَتَرِدُونَ عَلَيّ الْحَوْضَ فَأَسْأَلُكمْ عَمَّا فَعَلْتُمْ فِي الثَّقَلَينِ، وَالثَّقَلَانِ كتَابُ اللَّهِ جَلَّ ذِكرُهُ، وَأَهْلُ بَيتِي‏..”. (الكافي، ج1، ص294).

كما روي في سنن النسائي بلفظ: “كأني قد دعيت فأجبت، إني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض” (سنن النسائي: ح 8148).

وهذا الأصل مروي في مسند أحمد، وابن راهويه، وأبي يعلي، وفي صحيح الترمذي، وطبقات ابن سعد، والمعجم الكبير للطبراني، ومصابيح السنة للبغوي، وجامع الأصول لابن الأثير.

والرواية عن كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار وهم: الإمام علي عليه السلام، وخزيمة بن ثابت، سهل بن سعد، عدي بن حاتم، عقبة بن عامر، أبو أيوب الأنصاري، أبو سعيد الخدري، أبو شريح الخزاعي، أبو قدامة الأنصاري، أبو ليلى، أبو الهيثم بن التيهان.

 

روى الحديث صاحب كتاب غاية المرام وحجة الخصام عن تسعة وثلاثين طريقاً من طرق أهل السنة.

رصد صاحب كتاب غاية المرام وحجة الخصام المصادر الشيعية التي أوردت الحديث بألفاظه المختلفة، فكانت اثنين وثمانين حديثاً كلها تتحد مع حديث الثقلين مضمونا، وفي شتّى المصادر.

 

فالحديث متواتر بأعلى درجات التواتر اللفظي والمعنوي، المقالي والمقامي، ويأتيك بدوي نجدي بوَّال على عقبيه خرج من قرن الشيطان يعبد ابن تيمية، وشيطانه ابن عبد الوهاب ليقول لك: الحديث غير صحيح، أو يُشكك فيه، ويضع مكانه حديث مقطوع مروي في الموطأ لمالك يقول: (كتاب الله وسُنتي) وكأن أهل البيت الأطهار خرجوا عن سنَّة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله!

والتواتر يعني الصدور القطعي من مقام الرسول الأعظم، ووجوب العمل به نصَّاً وتشريعاً، ولا يجوز مخالفته ولا الاجتهاد مقابله لأن القاعدة تقول: (لا اجتهاد في مورد النص)، والمجتهد مأثوم بعمله إذ أنه يعتمَّد المخالفة لرسول الله صلى الله عليه وآله، ولا يُتابع عليه بل يجب جهاده والوقوف في وجهه ليرجع إلى النص الصحيح والقول الصَّريح لرسول الله المتواتر.

 

 

  • شعارهم؛ (حسبُنا كتاب الله)

كتب القوم جميعها تروي منشأ هذه النظرية الاجتهادية مقابل النص النبوي المتواتر، تلك النظرية التي وضع أسسها رجل قريش المعروف بفظاظته وغلظته وبدويته الجاهلية قبل وفاة وانتقال الرسول الأعظم عن هذه الدنيا بأربعة أيام فقط، وذلك بما يُعرف ب (رزية يوم الخميس) كما سماها عبد الله بن عباس وكان يبكي عليها حتى يبلَّ دمعه الحصى، كما ورد في مسلم: قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: “يَوْمُ الخَمِيسِ، وَما يَوْمُ الخَمِيسِ، ثُمَّ بَكَى، حتَّى بَلَّ دَمْعُهُ الحَصَى، فَقُلتُ: يا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَما يَوْمُ الخَمِيسِ؟ قالَ: اشْتَدَّ برَسولِ اللهِ وَجَعُهُ، فَقالَ: ائْتُونِي أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّوا بَعْدِي، فَتَنَازَعُوا، وَما يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ، وَقالوا: ما شَأْنُهُ أَهَجَرَ؟ اسْتَفْهِمُوهُ، قالَ: دَعُونِي فَالَّذِي أَنَا فيه خَيْرٌ” (مسلم: ح1637، الحديث صحيح).

 

وورد في البخاري في ثمانية روايات، عنه: “لَمَّا حُضِرَ رَسولُ اللَّهِ وفي البَيْتِ رِجالٌ، فقالَ النبيُّ: هَلُمُّوا أكْتُبْ لَكُمْ كِتابًا لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ، فقالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ رَسولَ اللَّهِ قدْ غَلَبَهُ الوَجَعُ، وعِنْدَكُمُ القُرْآنُ؛ حَسْبُنا كِتابُ اللَّهِ؛ فاخْتَلَفَ أهْلُ البَيْتِ واخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يقولُ قَرِّبُوا يَكْتُبُ لَكُمْ كِتابًا لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ، ومِنْهُمْ مَنْ يقولُ غيرَ ذلكَ، فَلَمَّا أكْثَرُوا اللَّغْوَ والِاخْتِلافَ، قالَ رَسولُ اللَّهِ: قُومُوا قالَ عُبَيْدُ اللَّهِ، فَكانَ يقولُ ابنُ عبَّاسٍ: إنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ، ما حالَ بيْنَ رَسولِ اللَّهِ وبيْنَ أنْ يَكْتُبَ لهمْ ذلكَ الكِتابَ، لِاخْتِلافِهِمْ ولَغَطِهِمْ”. (صحيح البخاري: 4432، والحديث صحيح).

 

الشعار القرشي (حسبنا كتاب الله) كان يهدف إلى فصل أهل البيت والعترة الطاهرة عن حياة الأمة بإبعادهم، وبتجميد القرآن الحكيم ليبقى كنص جامد يتحكَّمون بتفسيره كما يحلوا لهم، أو يمنعوا تفسيره إذا لم يَرُقْ لهم بالدُّرة، فكان إسفين الخميس تهيئة لمصيبة السقيفة

 

 

هذه رواية القوم الصحيحة لذاك الموقف الرَّهيب، في يوم عصيب على أهل الأرض لأنهم يفقدون نور الله، وكلمته، ورسوله إليهم، وهم يردُّون عليه كلامه ويمنعونه من كتابة وصيته في آخر عمره الشريف، تلك الوصية الحافظة لهم من الضياع والضلال في معترك هذه الحياة التي تضجُّ وتعجُّ بالشياطين من الإنس والجن الذين يُحاولون حرف الناس عن دينهم، وعقيدتهم الحقَّة التي أرادها الله لهم وبلَّغها رسوله صلى الله عليه وآله، إليهم بأوضح بيان، وأفصح لسان يوم غدير خم.

فلماذا رفعوا هذا الشعار في هذا اليوم وهذا الوقت بالذات، ووجهاً لوجه أمام رسول الله؟

وكيف يرفعون هذا الشعار الذي هو مخالف لنصِّ حديث الثقلين المتواتر، وقد سمعه الرجل مراراً وتكراراً من رسول الله صلى الله عليه وآله، وفي مناسبات وأماكن مختلفة، وهو يعني لا يمكن أن يتم لهم السعادة في هذا الدِّين، بالقرآن الحكيم لأنه حمَّالٌ ذو وجوه ـ كما يروون ـ فهو بحاجة إلى مَنْ عنده علم الكتاب ليُفسره لهم، ويُؤوله في حياتهم؟

وكيف يرفع هذا الشعر مَنْ لا يُحكم آية من كتاب الله، وكل الناس أفقه منه حتى ربَّات الخدور والحجال، ومات ولم يعرف معنى (الكلالة)، وفي آخر أيامه ختم سورة البقرة الشريفة فذبح ثوراً أو جزوراً، وكما يروون عنهما، فعندما سُئلا عن كلمة من القرآن لم يعرفاها، وقوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}، فقال: “أيُّ سماءٍ تُظلُّني وأيُّ أرضٍ تُقِلُّني إذا قلتُ في كتابِ اللهِ تعالى ما لا أعلمُ“. (أعلام الموقعين: 1/87، هو صحيح).

 

وقرأ الثاني الآية فقَالَ: “كُلُّ هَذَا قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ رَمَى عَصًا كَانَتْ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ التَّكَلُّفُ، يا عَمَر فَمَا عَـلَيكَ أَلَّا تَدرِي مَا الأبُّ“، ومرَّة قال: “دَعُونَا مِنْ هَذَا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدَ رَبِّنَا“، وثالثة: “أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالدِّرَّةِ“، ووصل ببعض عشاقه من حثالات الأمة أن يقول: (إِنَّهُ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ، وَيُؤَيِّدُهُ خَفَاؤُهُ عَلَى مِثْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ)، فالرجل لا يقول بقلَّة علمهما وفهمهما للقرآن العربي المبين، فقال: أنها غير عربية إنقاذاً لهما ودفاعاً عنهما، وأما العالم في كتاب الله عندما نقل له تلميذه عبد الله بن عباس ما جرى مع الخليفة على المنبر قال: “سبحان اللّه أمَا عَلِمَ أنّ الأبّ هو الكلأ والمرعى“. (الميزان، ج20، ص319).

 

فرفعت رجال قريش هذا الشعار لغرس إسفين عميق في النظرية الإلهية في الدِّين الإسلامي العظيم، التي تقوم على شقين أساسيين (الثقلين)، لا يستغني أحدهما عن الآخر؛

  • الشق النظري؛ المتمثِّل بالقرآن الحكيم كتاب الله الصامت كنص محفوظ بين الدفتين.
  • الشق العملي؛ المتمثِّل بالعترة الطاهرة، كتاب الله الناطق، كأئمة وقادة منفذون للبرنامج السماوي في هذا الحياة، وعلى هذه الأرض.

وبذلك تكتمل النظرية العلمية، بالتطبيق العملي في الواقع، وهذا الأمر الخطير جداً على مسيرة النظرية الإسلامية الذي قصمه، وفصمه رجال قريش بكلمتهم الشنيعة وشعارهم العجيب الذي رفعوه في يوم الخميس؛ (حسبنا كتاب الله)، وفي بيت ومجلس رسول الله صلى الله عليه وآله، وأكثروا بالرَّدِّ عليه حتى طردهم من بيته الشريف.

فالشعار القرشي كان يهدف إلى فصل أهل البيت والعترة الطاهرة عن حياة الأمة بإبعادهم، وبتجميد القرآن الحكيم ليبقى كنص جامد يتحكَّمون بتفسيره كما يحلوا لهم، أو يمنعوا تفسيره إذا لم يَرُقْ لهم بالدُّرة، فكان إسفين الخميس تهيئة لمصيبة السقيفة المشؤومة، إذ أنه لو كتب رسول الله الوصية لما تبادروا إلى السقيفة كما دبَّروا ذلك بليل، وتآمروا على رسول الله، ليُخرجوا سلطانه ـ كما سموه وما هو إلا سلطان الله وأمره ـ من عترته الطاهرة إلى بيوتهم الجاهلية التي أوصلتها بعد اثني عشر سنة إلى صبيان بني أمية الشجرة الملعونة في القرآن.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا