أسوة حسنة

رَزِيَّةُ يَومِ الخَمِيسِ الكَارِثِيَّة .. شعارها، منطلقاتها، أهدافها (1)

  • مقدمة عقائدية

من البديهيات الفكرية والعقائدية لدى أهل الشرائع السماوية ـ وحتى عند القادة والساسة ـ أن يُطاع ولاة الأمر ولا يُعصى القائد في شيء من أوامره، لأن الطاعة أوَّل درجات الولاء، وأولى خطوات النصر، والنجاح في أي عمل اجتماعي، أو أُسري تُريد أن تقوم به.

ثمة موارد عدة بالطاعة لله تعالى في القرآن الحكيم، وفي معظمها مقرونة بطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله، وجعلها الله سبحانه لكل الخيرات، والبركات، وحتى المحبَّة والمغفرة، فطاعة الله ورسوله؛ {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، و{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، و{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}، و{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}، و{فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، وجاءت على لسان معظم الأنبياء والرسل الكرام قولهم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}، فمسألة الطاعة هي أهم مسألة في الدِّين، والقانون، بل وفي الحياة الاجتماعية كلها وإلا فهي الفوضى المدمِّرة، ولذا حرص عليها ربنا سبحانه، وأمر بها مقرونة بطاعته، وعيَّن القيادة، في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}. (النساء: 59) .

 

وأولي الأمر بيَّنهم رسوله الكريم صلى الله عليه وآله، ونصَّبهم بالاسم حتى لا تجهلهم الأمة وكان رأسهم وأولهم سيد الأوصياء، وولي الأتقياء، ووالد الأصفياء من هذه الأمة أسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، حيث عيَّنه من اليوم الأول لنزول الوحي في الغار، ثم بيَّنه لعشيرته الأقربين يوم أمره الله بإنذارهم، بما يُعرف بحديث الدار حيث قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}. (الشعراء: 214).

فجمعهم مرتين وقال لهم: “يا بني عبد المطلب، أطيعوني تكونوا ملوك الأرض وحكامها، وما بعث الله نبياً إلا جعل له وصياً وأخاً ووزيراً، فأيكم يكون أخي، ووزيري، ووصيي، ووارثي، وقاضي ديني؟ فقال أمير المؤمنين، وهو أصغر القوم سناً: أنا يا رسول الله“.

فأخذ برقبتي، ثمّ قال: إنّ هذا أخي، ووصيّي، (ووارثي، ووزيري)، وخليفتي، فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع) (تاريخ الطبري: 2/321-319).

 

إنّ في قلب كل إنسان جذور النفاق، فالإنسان يولد وفي قلبه فطرة الإيمان، وجذور النفاق في نفس الوقت، فهذه التجلّيات الظاهرة التي نجدها في الدنيا إنّما تدلُّ على وجود جذورها في قلوب البشر، إلّا أنّ بعض الناس يُنمُّون الإيمان في قلوبهم

 

 

  • الغبن والغش بالطاعة

ولكن الله سبحانه وتعالى يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، فإنه يعلم كثير من أولئك الذين التحقوا بركب رسول الله، صلى الله عليه وآله، كانوا منافقين، ومدسوسين من قبل طغاة قريش بعضهم، ومن قبل اليهود البعض الآخر، وآخرين كانوا مدفوعين طمعاً بحطام الدنيا لأنهم كان لديهم علم بأنه سيفتح الجزيرة العربية، ويبلغ حكمه مبلغ الخِفِّ والحَافر، ولذا كان الله سبحانه يُبيِّنهم ويُحذِّر من المنافقين لأنهم أخطر الناس على الرسالة والرسول، لما يحملونه من تكذيب، ويُخططونه من مؤامرات تنطلي على الكثيرين من المسلمين في حينها، وهي تنطلي عليهم حتى الآن، لبساطتهم في التفكير، وسذاجتهم بحُسن الظن بهم، ومن هؤلاء الذين يصفهم الله تعالى بقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا * وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}. (النساء: 81).

 

فمَنْ هؤلاء الذين يغشُّون المسلمين بإظهار الطاعة، وإخفاء المعصية؟ ألا يحق لنا أن نعرفهم، وإذا عرفناهم أشرنا إليهم بأصابع الاتهام، بل بالتهمة مباشرة كائناً مَنْ كانوا فالمعصية هي معصية ولا أحد منهم على رأسه خيمة، أو أنه معصوم، فالمعصوم مَنْ عصمه الله في كتابه، ونزَّهه في آياته، وطهَّره تطهيراً من كل رجسٍ ودنسٍ فهؤلاء فقط منزَّهون من الله وما تبقى فالكل بشر إن أطاعوا قلنا وأعلنا بطاعتهم، وإن عصوا شهَّرنا بمعصيتهم ليرتدع الناس ولا تأخذهم الطغاة والسلطات بالقوة والعنف، أو باللين والرَّشوة، أو بالنِّفاق والدَّجل، فكفانا دجلاً يا أمة الإسلام.

 

ومن أجمل ما كُتب في القرطاس ما خطَّه أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام، القرآن الحكيم، ونصوص خلَّدها التاريخ، ومنها ما كتبه إلى عامله على مصر الشهيد محمد بن الخثعمية، يقول في نهايته: “مَنِ اسْتَهَانَ بِالأَمَانَةِ، وَرَتَعَ فِي الْخِيَانَةِ، وَلَمْ يُنَزِّهَ نَفْسَهُ وَدِينَهُ عَنْهَا، فَقَدْ أَحَلَّ بِنَفْسِهِ فِي الدُّنْيَا الْخِزْيَ، وَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَذَلُّ وَأَخْزَى، وَإِنَّ أَعْظَمَ الْخِيَانَةِ خِيَانَةُ الأُمَّةِ، وَأَفْظَعَ الْغِشِّ غِشُّ الأَئِمَّةِ” (نهج البلاغة: ك 26).

 

* وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى

 

فالكثير من أولئك الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله ، ليله ونهاره، لا سيما الذين أعطوه بناتهم ليكُنَّ عيوناً عليه، وعوناً لهم على رسول الله، كما ظهر في رزيَّة يوم الخميس، قُبيل شهادة الرَّسول الأعظم عن هذه الدنيا وهو مَكلُوماً، جريحاً قلبه من البعض، ثم رماه الرَّجل بأبشع تهمة؛ (الهَجر والهذيان) لم تتهمه بها قريش في شركها وجاهليتها بل كانت تُسميه الصَّادق الأمين، ولكن في آخر أيام حياته جاء هذا الجلف الجافي القرشي وقال عنه: “إن نبيَّكم يهجر“.

 

  • دعوة رسول الله حياة

حاشا وكلا أن يكون رسول الله، صلى الله عليه وآله، كما قال عنه ذاك القرشي، بل هو الذي وصفه الله تعالى في محكم كتابه الحكيم بقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}. (النجم: 5)، فمَنْ يُعلِّمه شديد القوى، لا ينطق عن الهوى النفسي بل كل كلامه وحي من الله، والوحي أنواع وأشكال كما يقول العلماء الأعلام، فقول الله سبحانه نوعان؛ قرآن حكيم، وأحاديث قدسية، ثم يأتي كلام رسول الله، صلى الله عليه وآله، وأفعاله وتقريراته، (السُّنَّة)، فكلها وحيٌ من الله، فلماذا رماه الرَّجل بتلك التُّهمة الباطلة، وهو أحقُّ بها، ألا يعلم أنه كان رسول الله عندما يوحى إليه تُصيبه مثل الغشوة، ويتصبَّب من العرق في قلب الشتاء؟

 

فدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله، كانت حياة حرة كريمة، بعزة وكرامة وشرف، قال تعالى فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.(الأنفال: 25).

 

فالاستجابة لتلك الدَّعوة تجعل من الإنسان عبداً طائعاً لله تعالى، ولكن أهل المعصية والنفاق الذين أسلموا خوفاً أو طمعاً لا إيماناً مطلقاً بالرِّسالة والرَّسول القائد صلى الله عليه وآله، ولذا تراهم كما يصفهم القرآن الحكيم في سورة  التوبة: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}

فمَنْ هؤلاء الذين تصفهم الآيات الكريمة؟ بل مَنْ هم الصَّحابة التي تفضحهم سورة التوبة الفاضحة للمنافقين؟ ومَنْ هؤلاء الذين كانوا يستهزؤون برسول الله صلى الله عليه وآله، وبالقرآن الكريم وآياته وسوره، أليسوا جميعاً من الصَّحابة الذين يصفونهم بالتعظيم والإجلال والتكريم والله يصفهم بالنفاق والخذلان والعار يُحيط بهم من كل نواحيهم؟

 

فسورة المنافقين المباركة هل نزلت بعبد الله بن أبي بن أبي السلول فقط، كما يدَّعي البعض؟ ألم يكن معه ثلث الصحابة الذين انخذل بهم ورجع من نصف الطريق يوم معركة أحد، ويوم قال كلمته في بني المصطلق في المسيريع، هل كان وحيداً فريداً أم أن أصحابه وأتباعه ربما كانوا يفوقون أتباع رسول الله، حقاً ولكن كانوا يخافون من الفضيحة أن تنزل بهم والوحي يُثبت أسماءهم في الكتاب الحكيم وهم أصحاب مشروع بعيد المدى لا يمكن التفريط فيه؟

 والسؤال المحوري هنا: من أين ينبع النفاق، وما هو مصدره؟

يُجيب سماحة السيد المرجع المدرسي (حفظه الله): “إنّ في قلب كل إنسان جذور النفاق، فالإنسان يولد وفي قلبه فطرة الإيمان، وجذور النفاق في نفس الوقت، فهذه التجلّيات الظاهرة التي نجدها في الدنيا إنّما تدلُّ على وجود جذورها في قلوب البشر، إلّا أنّ بعض الناس يُنمُّون الإيمان في قلوبهم، فإذا به يتحوّل إلى شجرة وارفة الظِّلال، متشعّبة الفروع، ومثمرة في قلوبهم، ولكن البعض الآخر يزرعون بذرة الكفر والنفاق في قلوبهم (مرضاً).

إلى أن يقول: “وللأسف فإنّ الشيطان يُحيط بقلوبنا من جهة، ومن جهة أخرى تُسيطر علينا شياطين الإنس أمثال الإذاعات، ومحطّات التلفزة والفضائيات وما فيها من برامج تشغلنا عن قضايانا الأساسية ونحن بين هذا الشيطان وذاك ضعفاء مساكين، ولو لم يكن الأمر كذلك لما قضينا أوقاتنا في الأعمال الثانوية التافهة، في حين أنّ علينا أن نكون جدّيين في الحياة، فالإنسان المؤمن يجب أن يكون جدّياً لكي يستطيع المحافظة على استقلاله، ودينه، وشرفه”. ( الإنسان و آفاق المسؤولية؛ السيد محمد تقي المدرسي: ص46).

أما آن لهذه الأمة أن تعرف الحق وأهله، والمنافقين وترفضهم، وترجع إلى دينها القويم، وقرآنها الحكيم، ورسولها الكريم وأهل بيته الأطهار الأبرار الذين جعلهم الله أولياءهم وحججه عليهم في الدنيا والآخرة؟

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا