مما لا يقبل الشك أن التركيبة العشائرية تُعد جزءاً مهما من المنظومة الاجتماعية للشعب العراقي الأصيل؛ حيث تتصف هذه العشائر بصفات كريمة، مما مكنها أن تكون مدرسة للقيم النبيلة وتتصف بالجوُد والكرم والشهامة والشجاعة وإطعام الضيف وإيواء الدخيل ونصرة المظلوم، وكانت ومازالت تلك العشائر، مشاريع استشهاد دائمة للحفاظ على الأرض والعرض وسائر المقدسات، وخير دليل على ذلك وقوفها صفاً واحداً لتلبية نداء المرجعية الرشيدة في الجهاد الكفائي الذي حفظ العراق والعراقيين من أقوى هجمة بربرية شهدها التاريخ المعاصر من قبل عصابات داعش الاجرامية التي عاثت بالأرض فسادا.
-
عادة دخيلة
ولا يخفى على القارىء الكريم أن هناك ممارسات استفحلت في الآونة الاخيرة وهي دخيلة على العُرف العشائري، وتتنافى مع الاحكام الشرعية والضوابط القانونية، وشكلت تهديداً مباشراً للحياة الآمنة للشعب العراقي، منها؛ ما يعرف بالدكة العشائرية، وهي أن يتوجه أعداد من رجال عشيرة معينة، يطلقون النار من اسلحتهم الخفيفة والمتوسطة في الهواء، ثم يوجهون فوهات بنادقهم إلى دار مقصودة من عشيرة لهم معها خلاف، وهم يرددون شعارات تمجّد بعشيرتهم وتبرز قوتها، مفتخرين بما يقومون به من تهديد سافر يتعارض مع كافة القوانين السماوية والوضعية والعشائرية العقلائية التي تنبذ الإعتداء على الآخرين دون وجه حق، بصورة عقاب جماعي لأهل تلك الدار ونشر الرعب وتعميمه على البيوت المجاورة، والله – سبحانه وتعالى – يقول:
“بسم الله الرحمن الرحيم”
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ}، (سورة فاطر: 18)، بل يصل التمادي الى أكثر من ذلك، حيث يُبلّغ اهل الدار ان لهم مهلة سيكون بعدها الموت الزؤام لجميع أفراد تلك العائلة.
والطريف أن بعض العشائر تقوم برد الدكّة من خلال تكليف بعض رجالها بإطلاق النار على دار منتخبة من العشيرة المهاجمة، ويحرصون ان تكون الدكة أشد من خلال عدد الاطلاقات النارية أو أعداد الرجال المشاركين في تلك الحملة البائسة.
من خلال كل ذلك نقول؛ ان هذه الممارسة هي ظاهرة دخيلة على عشائرنا الكريمة التي تتحلى بالمروءة العربية؛ من نصرة المظلوم، وإشاعة روح التسامح، وحفظ حقوق الناس والتعامل مع الإنسان كقيمة عليا كما أراد البارئ – عز وجل -.
-
لا إجماع بين العشائر على الدكّة
وهنا لابد من الاشارة إلى أن الدكّة العشائرية تمارس بشكل كبير في جنوب العراق وبشكل اقل بكثير في الفرات الاوسط والمنطقة الغربية، حيث شكل التداخل السكاني وحركة السكان دورا مهما في انتقال هذه الظاهرة إلى عموم مناطق العراق وبشكل متفاوت حيث كانت أغلب مناطق الفرات الاوسط لاتعرف الدكة إلى وقت ليس ببعيد.
وهنا لابد ان أشير بالبنان إلى بعض العشائر العربية الكريمة المتواجدة في جنوب العراق ووسطه، بل وفي عموم العراق التي تترفع عن ممارسة الدكة العشائرية تماشيا مع قواعد العدل والإنصاف التي أمرنا بها الباري – عزّوجل – واكدتها بشكل لا يقبل التأويل اعرافنا العشائرية التي لا تخالف الشرع المقدس.
إن الارتفاع الهائل في أرقام هذه الممارسة عند بعض العشائر أصبح يشكل تهديداً مباشراً لأمن المجتمع بل وأمن الدولة بشكل عام؛ مما يتوجب على الحكومة العراقية القيام بواجباتها في توفير الأمن لمواطنيها كما جاء بالمادة (١٥) من الدستور العراقي لسنة ٢٠٠٥ الذي يقول: «لكل فرد الحق في الحياة والأمن والحرية ولا يجوز الحرمان من هذه الحقوق أو تقييدها إلا وفقا للقانون».
إن أغلب الذين يمارسون الدكة العشائرية يعرفون انها محرمة شرعا وتعارض الشرع المقدس كونها تفضي إلى عقاب جماعي لمجموعة من الأبرياء ليس لهم ذنب اقترفوه سوى قربهم النسبي من أحد الجناة، وكذلك القانون لا يسمح بهذا، بل وعدّ هذا العمل عملاً إرهابيا يخل بأمن المجتمع، وقد تعاطف جميع الناس مع القرار القضائي الأخير الذي يجرّم القائمين بهذا العمل، وجعلهم بمصاف الارهابيين، واعتقد جازما ان هذا يليق بهم، حيث لابد من رادع لهؤلاء الخارجين عن الشرع والقانون وكذلك الأعراف العشائرية النبيلة.
وللخلاص النهائي من هذه الممارسة لابد أن تتضافر الجهود وتتوحد في نبذ هذه الظاهرة من خلال التطبيق الفعلي والحاسم للقانون ليطمئن المواطن العراقي أنه يعيش في دولة لا مكان للظالم فيها، وايضاً لعلماء الدين والخطباء دورٌ في تنبيه المجتمع إلى حرمة ممارسة هذا العمل الذي يتعارض مع الشريعة السمحاء للدين الإسلامي الحنيف، ودور مهم آخر على عاتق شيوخ العشائر، ووجهاء المجتمع في توجيه أبناء عشائرهم للكف عن القيام بهذه الأعمال التي تعارض الشرع والقانون، بل وحتى العرف الأصيل لعشائرنا العربية الاصيلة التي كانت وما تزال تضع نصب اعينها مخافة الله.