أسوة حسنة

عَاشُورَاءُ نَهضَةُ أُخُوَّةٍ نَسّبِيَّةٍ وإِيمَانِيَّةٍ [6]

  • مقدمة أخوية

الأخوَّة هي من أجمل وأجل الروابط النَسبية في الحياة البشرية على الإطلاق، ومن أطهر العلاقات وأرقاها بين البشر، ولذا قال تعالى عن علاقة المؤمنين ببعضهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}. (الحجرات: 10).

وقد ألفت نظري ما طرحه سماحة المرجع الديني والمفكر الإسلامي السيد محمد تقي المدرسي (دام ظله الوارف)، في محاضرة له عنوانها: “أين نجد الإخوّة الحقيقية؟”، فسألتُ نفسي نفس السؤال وحاولت أن ابحث له عن جواب شافي وكافي، رغم أن السيد المرجع أضاء شمعة لنا في هذا السبيل الإنساني الكبير، وأعتقد أننا بحاجة إلى بحثين نطرحهما على حلقتين وذلك لأهمية هذا الطرح في هذا الظرف بالذات.

  • عَاشُورَاءُ نَهضَةُ أُخُوَّةٍ نَسّبِيَّةٍ وإِيمَانِيَّةٍ..
  • مَسِيرَةُ الأَربَعِين وَالأُخُوَّةُ فِي الإِنسَانِيَّة..

نتطرق في هذا المقال عن جوانب الأخوة النسبية الحقيقية التي تجلَّت بأجلى وأبهى وأرقى صورها في يوم عاشوراء، وفي أثناء النهضة الحسينية الشريفة، فكم فيها من لمحات ولفتات أخوية أغفلناها في أبحاثنا، ولم نشر إليها إلا في السياق التاريخي للحادثة الخالدة.

ولنا أن نأخذ في هذا السياق النسبي الخاص بالأخوة الحقيقية والنسبية، فكانت هذه العلاقة الحميمة مثالاً في الصفاء والنقاء في يوم عاشوراء، رغم أن التاريخ الإنساني العام يُحدِّثنا عن أول جريمة وقعت في هذه الحياة هي التي تحدَّث عنها أصدق القائلين في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.(المائدة: 30).

 

المتأمل في تاريخ النهضة الحسينية المباركة والدارس لها يجدها أن شطرها تماماً حسني، وذلك لأن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، هو الذي هيَّأ الأرضية، وسهَّل الطريق

 

هذه الصورة التي تنقلها الآيات الكريمة والتي تؤرخ لأول جريمة وقعت بين أخوين، وكانت بمستوى القتل، وهي أبشع جريمة في البشرية، فقتل إنسان هو بمثابة قتل الإنسانية، ولكن هذه الصورة ليست هي المثال الأجمل بين البشر، بل هي الصورة الأبشع والأشنع، فأين الصورة المثالية لهذه العلاقة الراقية في الحياة البشرية؟

هذا ما بحثتُ عنه في مطاوي التاريخ، وكتب التراث الإنساني، والإسلامي فلم أجد أخوين تجلَّت بهما صفة الأخوة الحقيقية كالإمامين الحسن والحسين عليهما السلام، سبطا رسول الإنسانية الخاتم، وابنا أمير المؤمنين الإمام علي، وسيدة نساء العالمين صلوات الله عليهم أجمعين.

فالتاريخ البشري حافل جداً، وبيوتنا الإسلامية مليئة – بحمد الله وفضله – بالأخوة والأخوات، وفيهم الفضلاء، والفاضلات بلا شك ولا ريب، ولكن هل سمعتم، أو قرأتم، عن علاقة قوية، ومتينة، وراقية كعلاقتها في هذه الدنيا؟

 

  • تجليات الأخوَّة في عاشوراء

المتأمل في تاريخ النهضة الحسينية المباركة والدارس لها يجدها أن شطرها تماماً حسني، وذلك لأن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، هو الذي هيَّأ الأرضية، وسهَّل الطريق، ومهَّد السبيل في أصعب وأقسى الظروف التي عاشها لعشر سنوات عجاف حتى قضى نحبه مسموماً شهيداً مظلوماً، في سبيل تلك النهضة الإلهية المباركة التي كانت مقررة من الباري تعالى أن تكون على يدي أخيه وصنوه في الشرف، والطهارة، والقيام؛ السِّبط الأصغر الإمام الحسين.

وفي الحقيقة الإمام الحسن المجتبى، عليه السلام تحمَّل الجزء الأصعب من النهضة الحسينية المباركة، وذلك لأن الإمام الحسين، كان بإمكانه الرَّفض ولكن الإمام الحسن لم يكن بإمكانه ذلك، فكانا – روحي لهما الفداء – كجدهما رسول الله، صلى الله عليه وآله، وأبيهما أمير المؤمنين في يوم الحديبية وصلحها مع قريش المشركة، فرسول الله هو القائد والمتصدي ولذا لا يستطيع أن يرفض عرض قريش له بمحي الرسالة من اسمه الشريف ولكن أمير المؤمنين كان بإمكانه ذلك، ولذا قال له: (ستُدعى لمثلها وتُجيب)، وهذا الذي حصل بعد التحكيم.

وكذلك الإمام الحسن المتصدِّي لقيادة الأمة لا يستطيع رفض الهدنة وفيها مصلحة للإسلام والمسلمين، ولكن الإمام الحسين كان له ذلك، ولذا عندما تصدَّى صبر كذلك عشر سنوات على حكم، وظلم معاوية بن هند، ولكن ما أن تسنَّم يزيد الشر كرسي السلطة حتى أعلنها لتسمعها الدنيا بأجمعها: (مثلي لا يُبايع مثله).

ثم قال كلمته المدوية: “لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل“، و”إن الدَّعي ابن الدَّعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذِّلَّة وهيهات منّا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنين، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام“.

 

الإمام الحسن المتصدِّي لقيادة الأمة لا يستطيع رفض الهدنة وفيها مصلحة للإسلام والمسلمين، ولكن الإمام الحسين كان له ذلك، ولذا عندما تصدَّى صبر كذلك عشر سنوات على حكم، وظلم معاوية بن هند، ولكن ما أن تسنَّم يزيد الشر كرسي السلطة حتى أعلنها لتسمعها الدنيا بأجمعها: (مثلي لا يُبايع مثله)

 

فالإمام الحسن عليه السلام وضع الخطَّة والإمام الحسين  نفَّذها.

الإمام الحسن  رسم الخرائط، والإمام الحسين  خاض المعركة.

الإمام الحسن  رسم الاستراتيجية، والإمام الحسين  قام بالتكتيك الميداني.

ولذا رأينا أن حضور الإمام الحسن  في كربلاء كان حضوراً حقيقياً، وفعلياً بأبنائه الخمسة، وبناته الطاهرات، وزوجته وكل عيالاته، وجرى عليهم كل ما جرى على الإمام الحسين  وعياله، حتى أنه قدَّم ثلاثة شهداء من أبنائه، والاثنين الباقيين كانا جريحين مدنفين على الموت، ولكن إرادة الله سبحانه حفظت الحسن بن الحسن المثنى ليكون نسل الإمام الحسن  منه، ولكن ما أن سرت الأيام وكبر هؤلاء الكرام حتى اتخذوا سبيل الجهاد والنضال في سبيل الله ليُكرسوا خط الولاية في الجهاد، كما كرسه أبناء الإمام الحسين  الأئمة بالعلم والفقه والقرآن.

 

  • أبو الفضل العباس وإخوته

وإذا تجاوزنا أمر المعصوم وقلنا بأننا قاصرون عن إدراكهما صلوات الله عليهما، إذ أننا بشر ناقصون، فنأخذ الصورة المشرقة الثانية التي لم يتحدث عن مثلها التاريخ البشري كله، وهو سيدنا ومولانا العباس بن علي وإخوته من أبيه وأمه الثلاثة.

فإذا تحدَّثنا عن علاقة العباس بأخيه الإمام الحسين، عليه السلام فإننا لا نرى منها إلا أرقى وأنقى صورة يمكن أن تكون بين أخوين ليسا شقيقين، وذلك للتربية الخاصَّة التي تربَّى عليها العباس من أبيه وأمه السيدة المكرمة أم البنين عليها السلام، التي كانت تُربي أبناءها على الفداء، والتضحية، والحب ليس للأخ بل للإمام، والسيد، والمعصوم المفترض الطاعة، فكانت تربيتها عجيبة، وأبناءها عجباً.

فأبو الفضل العباس رغم شجاعته، وبطولته، وعنفوانه، وشبابه، ورجولته التي كانت مضرب الأمثال تراه أما الإمام الحسين والسيدة زينب، عليها السلام وكأنه عبد رقيق عندهما، ولا ينادي أخاه إلا: يا سيدي، ومولاي، وإمامي، حتى سقط عن جواده فنادى أخاه ليُدركه.

وليس هذا فقط بل تراه كما في كتب السيرة قدَّم إخوته الثلاثة على مذبح الكرامة وأمام عينيه راضياً مرضياً شامخاً بشهادتهم أمامه، حيث قدَّمهم وهم عبد الله، وجعفر، وعثمان، وقال لهم: “يا بني أمي تقدموا حتى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله“. (الإرشاد للمفيد: ص 240).

قدَّمهم أمامه إلى الجنة، ورآهم بأم عينيه أنهم نصحوا لله ولرسوله ولإمامهم وابن والدهم الحسين عليه السلام، فهل سمعتَ بمثل هذا في تاريخ البشر، يُقدِّم شاب إخوته الثلاثة ضحايا وفداءً لأخيهم رغم أنهم كان لديهم أمان شخصي وموقَّع من الطاغية عُبيد الله بن زياد، ولكن العباس رفضه، ولعن حامله ومُعطيه وقال بموقف قلَّ نظيره في التاريخ: “لعنك الله ولعن أمانك أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له“؟

ولن نتحدَّث عن السيدة زينب، عليها السلام فإن موقفها تشيب منه الأطفال الرُّضَّع، فهي التي قدَّمت ولدين من أولادها، وقدَّمت نفسها للأهاويل مع أخيها، وتحمَّلت ما لم تتحمله الجبال الرواسي، لا سيما الأسر والسبي، ثم الدخول إلى مجالس الفساق والطغاة الظُلَّام كابن سمية، وابن ميسون في يزيد الشر في الشام، حيث مجلس الفسق والفجور، والغناء وشراب الخمور.

 

  • الأخوة في يوم الطف

واللافت في يوم عاشوراء الخالد، أن أبناء الإمام علي، عليه السلام كانوا إحدى عشر أخاً مع الإمام.

وأبناء الإمام الحسن المجتبى  خمسة إخوة.

وأبناء الإمام الحسين  ثلاثة إخوة.

أبناء السيدة زينب  أخوان.

وأبناء عقيل بن أبي طالب  أخوان.. وأبناء مسلم بن عقيل  أخوان.

وليس ذلك في الهاشميين الأكارم فقط بل حتى من أصحاب الإمام الحسين كان هناك أخوان غفاريان، والعبديان، والتغلبيان، فقد جاء في كتب المقاتل هذه الصورة المشرقة للأخوة: “وبرز عبد الله، وعبد الرحمن الغفاريان، فقالا: السلام عليك يا أبا عبد الله أحببنا أن نُقتل بين يديك.

فقال عليه السلام: “مرحباً بكما أدنوا مني”؛ فدنوا منه وهما يبكيان، فقال: “يا بني أخي ما يُبكيكما؟ فوالله أني أرجو أن تكونا بعد ساعة قريري العين“؟

فقالا: جعلنا الله فداك والله ما على أنفسنا نبكي ولكن نبكي عليك، نراك قد أُحيط بك ولا نقدر أن ننفعك، فقال الحسين: “جزاكما الله يا بني أخي بوَجدكما ومواساتكما إيّاي بأنفسكما أفضل جزاء المتقين”، ثم استقدما وقالا: السلام عليك يا ابن رسول الله، فقال: وعليكما السلام ورحمة الله وبركاته“، وقاتلا حتى قتلا.

هذه هي الأخوَّة النسبية الطيبة التي تقتضي أن يكون الأخ عضيد أخيه وناصره، والأخ مثل عمود الظهر بالنسبة لأخيه، ولذا قال الإمام الحسين عند شهادة أخاه العباس: “الآن انكسر ظهري وقلَّت حيلتي وشمت بي عدوِّي“.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا