لقد أحدثت حركة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، عليهما السلام، هزة شديدة التأثير في حركة الفكر والوجدان الإنساني، وأحدثت زلزالاً مدوّياً في ثنايا الأفكار والمفاهيم المتعلقة بصراع المصالح والقيم بين بني البشر. وتعد هذه من المنعطفات الكونية الكبرى التي حوّلت مسار الفكر الإنساني وعدّلت إتجاهاته؛ حيث أبرزت قيماً ومبادىء جديدة وأعادتها إلى الواجهة بعد أن أريد لها أن تنطفىء أو أن تختبىء وراء طابور طويل من القيم والمبادىء الزائفة.
إن صراع المصالح والقيم بين بني البشر تنعكس مباشرة على تراتبية هذه القيم والمبادىء من حيث موقعيتها وأولويتها فيصبح الولاء للطاغوت والخضوع له قيمة لها الأولوية القصوى على قيم تتعلق بالكرامة والحرية والعدالة والإنسانية، وذلك عندما يكون الطاغوت حاكماً ومهيمناً على كرسي الحكم، كما أن المطالب الحيوية لأية أمة باتجاه العدالة والكرامة فإنها تهدّ جريمة وفق مقاييس من هم على سدة الحكم والسلطة، خاصة عند أولئك الذين يستولون عليها بفرض سلطة الأمر الواقع وليس بسلطة وقوة الشرعية.
هكذا تستمر دوامة الصراع بين القيم والمبادىء وتتغير تموضعاتها وفقاً لمستوى الصراع بين من يبحثون عن السيطرة والنفوذ، وبين من يسعون لتحقيق مجموعة القيم والمبادىء المتصلة بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
في كربلاء، كانت المجابهة الحقيقية بين اصطفافين: أحدهما يمثل منطقة السيطرة والنفوذ والهيمنة من خلال سلطة الأمر الواقع، حتى لو تطلب الأمر تنفيذ مجازر مروعة في المجتمعات الإنسانية، وبين إصطفاف آخر يمثل اتجاهاً آخر من القيم والمبادىء تتصل بالعدالة وحفظ الكرامة الإنسانية والحرية.
في تجربة الحسين بن علي بن أبي طالب، عليهما السلام، تجد المواجهة بحيوية وعنفوان كبير ووضوح قضية هذه المجابهة بين القيم والمبادىء. ولعل أهم ما أنجزه الحسين، عليه السلام، في ما حدث ظهيرة اليوم العاشر من المحرم سنة ٦١ للهجرة أنه وضع فكر وعقل ووجدان الأمة أمام فسطاطين واتجاهين متناقضين من القيم والمبادىء؛ فأحدهما قابع ومتمسك بثقافة السيطرة والنفوذ والهيمنة والسلطة، وأمامه الفسطاط الآخر فهو المُتسم بالشموخ والتألق في مجابهة فكر التسلط والهيمنة والحكم بغير ما أنزله الله عزوجل من قيم خلاقة ويدعو إلى العدالة والحرية وحفظ الكرامة الإنسانية ليعطي بذلك وهجاً لشرعية المجابهة من أجل الإصلاح والتغيير.
-
الحسين رائد مدرسة الإصلاح السياسي
منذ البدايات المبكرة لنشوء فكرة «الدولة» وبناء النظام السياسي، كان الغرض الأساسي هو تحقيق العدالة وحفظ الهوية وحماية الكيان الإجتماعي من الأخطار وتنمية موارده بما يحقق الرفاه والحياة الطيبة لجميع من يستظل بهذه الدولة والنظام السياسي، ولكي تقوم «الدولة» بدورها المناط بها، كان لابد من أن تستمد شرعية وجودها من إرادة الناس الذين تريد أن تمارس دور إدارة السلطة والموارد في حياتهم. ولذلك كانت الرقابة على أداء السلطة تمثل عموداً فقرياً لسلامة أية نظام سياسي قائم.
أما الطغاة والفاسدون ممن يصلون إلى سدة الحكم بدون هذه الشرعية فإنهم يلجأون إلى الإستبداد والديكتاتورية لفرض سلطة الأمر الواقع وبعيدا عن إرادة الناس وقرارهم وخيارهم، وذلك من أجل بسط النفوذ والسيطرة والهيمنة على مقدرات السلطة والموارد والتحكم بهما. وعادة ما يكون ذلك من خلال الإستغلال البشع للقوة التي تتيحها وتوفر إمكاناتها السلطة وذلك من أجل إخضاع إرادة الناس وإجبارهم على القبول بسلطة الأمر الواقع.
وهنا تبدأ منظومة جديدة من القيم كعبادة الطاغوت من خلال فرض قيمة أخلاقية مشوهة تتصل بطاعة الطاغوت وعدم جواز التمرّد عليه حتى مع ظلمه وفساده وجوره، لتحل مكان العدالة وحفظ الكرامة الإنسانية التي هي من أجل وأسمى غايات إقامة الدولة وبناء نظامها السياسي، وتتمثل القيم الجديدة في طاعة الطاغوت والخضوع التام له كشرط من شروط السلامة والأمن على النفس والعرض والمال والتي تفرض بقوة الحديد والنار للتغطية على الإستبداد ولحماية النظام الديكتاتوري وما يعنيه من تعزيز إحتكار السلطة والموارد وتكريس هيمنة السلطة في حياة المجتمع.
ولذلك جاءت نهضة الإمام الحسين، عليه السلام، لتضع حداً فاصلاً بين قيم يدعيها الطاغوت، وقيم تتصل بالكرامة الإنسانية ودين الله عزوجل، وتحديداً عندما كسر يزيد بن معاوية «الشرعية» للوصول إلى سدة الحكم والإستيلاء على السلطة، وعندما عمد إلى فرض سلطة الأمر الواقع بقوة الحديد والسيف، ليؤسس لدولة الظلم والفساد والجور والحكم بغير ما أنزله الله عزوجل بغية الإستئثار بالسلطة وإحتكار موارد المجتمع.
وكان الموقف المعارض للإمام الحسين، عليه السلام، وخروجه من إيقاع منظومة الثقافة التي إستفاد منها يزيد بن معاوية لإسباغ الشرعية على إنقلابه على الشرعية وإستيلائه على السلطة، تمثل انطلاقة أول مجابهة بين مدرستين يُمثّل كل منهما قيماً خاصة، ليؤسس بذلك أول مدرسة إصلاح سياسي في تاريخ البشرية إنطلقت من اللحظات الأولى عندما أغتصبت السلطة وذهب الإنقلابيون لقلب القيم والمبادىء التي تأسست مع إنطلاقة الدولة والنظام السياسي في الإسلام التي قوامها الدين والعقيدة الإسلامية وإقامة العدل والمحافظة على حدود الله تعالى.
-
الانقلاب العسكري والانقلاب على المفاهيم
إن أكبر التجاوزات التي قام بها يزيد إضافة إلى التعدّي على الشرعية هو أنه جاء بقيم جديدة تضرب جوهر النظام السياسي وتدمر عمق بناء الدولة ونقلها من الشرعية المستمدة من إرادة الناس وإختيارهم وقرارهم إلى «التوريث» في عملية إنقلاب مفاهيمي وقيمي خطيرة لا تقف آثارها التدميرية عند حدود المال والسلطة والسيطرة وإنما تتجاوز ذلك إلى تدمير العقيدة والدين فقد حدثت مع سيطرة يزيد بن معاوية على الحكم وإنقلابه على الشرعية وفرضه سلطة الأمر الواقع أكبر عملية تشويش في فكر وعقل الأمة والتبس في أذهان الناس ما يتعلق بالمصدر الذي يأخذون منه تشريعات دينهم وعقيدتهم، خاصة وأن الدولة وبما تمتلكه من سطوة وقدرة تستطيع أن تتقمص دور الراعي والحامي للدين والعقيدة بينما هي تقدم مفهومها الخاص للدين والعقيدة وبما يتماشى ومصالح النظام ومنافعه الذاتية.
وهكذا كان فقد عمد يزيد ومنذ البداية أولاً؛ على إسقاط الشرعية التي تستمد من قرار الناس وإرادتهم الحرة في الإختيار، إلى تقديم دين جديد يبرر للحاكم الذي بيده السلطة كل سلوكه السياسي والإجتماعي، وهنا قد حدث اللبس والإرتباك في ذهن وعقل الأمة حول مصدر التعاليم والتشريعات الدينية، ومن أين يأخذون الحدود والأحكام المتصلة بدينهم وعقائدهم، بينما السلطة تمارس دورها تحت يافطة الدين وعنوانه؟! وكان هذا دافعاً أساسيا لحركة الحسين، عليه السلام، لإنقاذ دين جده محمد المصطفى، صلى الله عليه وآله، وإصلاح واقع الحال الذي آلت إليه أمور الأمة بعد أن استولى يزيد على السلطة، وبهذا التأسيس يكون الإمام الحسين، عليه السلام، قد أرسى ركائز الإصلاح السياسي وشيّد شرعية التمرّد على دول الإستبداد والظلم، وأسس لمشروعية مجابهتها لوضع حد ونهاية لإحتكار السلطة والموارد.
وبهذا يكون الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، عليه السلام، قد وضع أسس أول وأهم مدرسة إصلاح سياسي وإجتماعي في تاريخ البشرية، ومنها يقف العالم منذ ذلك اليوم تلميذا متواضعاً أمام فيوض هذه المدرسة التي جذّرت مفاهيم وقيماً حول «الشرعية» وكرّست المبادىء والقيم التي ترتكز عليها مفهوم الدولة والنظام السياسي، كما أعطى الشرعية، كل الشرعية لمجابهة سلطات الأمر الواقع ومواجهة الفساد ومحاربة الإستبداد والديكتاتورية.
وبذلك يكون قد أرسى دعائم ومعالم لمدرسة الإصلاح السياسي في الفكر الإنساني، والتي تضع في أحد تفاصيلها، وبوضوح شديد، قيوداً كبيرة على أي نظام سياسي وأية سلطة، وإثارة التساؤلات المشروعة حول شرعية النظام السياسي، ومدى تحقيقه للعدل وهل أنه يستمد شرعية وجوده من إرادة وإختيار الأمة؟ وهل أن ذلك يأتي بإرادتها الحرة دون فرض، أم بوسائل الفرض والإكراه والإجبار؟ وتساؤلات مشروعة آخرى ترتبط بسعي السلطة لتحقيق العدل في المجتمع والمحافظة على الدين والعقيدة وتكريس ثقافة الإلتزام بحدود الله عزوجل دون جور وظلم وعسف أو على قيم الفساد والظلم.