حوار

السيد المدرسي في حوار مع قناة العراقية: المنبر ليس مجرد كرسياً عالياً وإنّما مؤسسة ثقافية تعليمية

الخطابة الحسينية.. مواجهة التحديات و دور ريادي في بناء المجتمع

 

أجرت قناة العراقية حواراً متلفزاً مع سماحة السيد مرتضى المدرسي، نجل المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي، خلال أيام عاشوراء، تركز على المنبر الحسيني، وأدواره الاجتماعية والثقافية، وأساليبه في طرح القضية الحسينية، وسبل توثيق العلاقة بينه وبين الجمهور.

ونظراً لما احتوى الحوار من نقاط مهمة تجيب على كثير من الاسئلة حول المنبر الحسيني، ارتأت مجلة الهدى الالكترونية تدوين الحوار ليكون على صحفاتها خدمة للقارئ الكريم وتعميماً للفائدة، فكان هذا الحوار:

 

س1: ما الأدوار التي مرّت بها الخطابة الحسينية في تاريخها؟

قبل بيان الأدوار التي قامت بها الخطابة الحسينية، علينا أولاً؛ معرفة المراحل التي مرت بها السيرة الحسينية، ويمكن تقسيم هذه المسيرة الى ثلاث مراحل أساسية، أو ما يعبّر عنها بالمنعطفات في السيرة الحسينية:

المرحلة الاولى: مرحلة التوثيق؛ والتي بدأت مبكراً من خلال الرواية والتنقيح، وقد أخذت صوراً شتى، فمنذ ولادة الإمام الحسين، عليه السلام، بدأ النبي الاكرم، صلى الله عليه وآله، برواية ما سيجري في كربلاء في مناسبات عديدة، ويمكن بمراجعة بسيطة لما نقله ابن عساكر في تاريخه، أو ابن سعد في طبقاته، الإطلاع على ما روي منه، صلى الله عليه وآله، ومن ثمَّ، بعد وقعة الطف الأليمة استمرت الرواية من خلال رواة الطف بفئاتهم الستة.

 

 

الهدف الأساس من هذه المرحلة هو توثيق الأحداث وحفظها من الطمس، وقد أخذ صوراً مختلفة من رواية الأحداث مفصلاً، ونقل بعض المصائب في مناسبات خاصة، وكذلك توثيقها من خلال الشعر، كما نجد ذلك في كتاب المراثي لجعفر بن عفّان الطائي المتوفى 150 للهجرة، وكتاب ومحمد بن عمران المرزباني الخراساني المتوفى 384.

المرحلة الثانية: التدوين والتصنيف؛ وقد ظهرت هذه المرحلة مبكراً مع وفاة الأصبغ بن نباته، والذي يعد أقدم مقتل لسيد الشهداء، إذ أن الأصبغ يُعد من أصحاب أمير المؤمنين، عليه السلام، والمتوفى عام 70 للهجرة، واستمر التصنيف حتى القرن الثالث الهجري، ومع تطور ‏سائر الحقول ‏العلمية في هذا القرن، وظهور ‏الجوامع الروائية، تطور التصنيف للسيرة الحسينية أيضاً فقد بذلت ‏جهود كبيرة في ‏تأليف المقاتل ‏سواء على يد ‏الخاصة أو العامة، فكتب في هذا القرن ـ أعني القرن الثالث ـ سبعة عشر مصنفاً مستقلا في السيرة الحسينية، وأما في القرن الذي تلاه فقد بلغت المصنفات الى عشرين.

 

إذا كانت سعادتنا بالإمام الحسين، عليه السلام، كما ورد في الحديث الشريف عن النبي ص الذي أورده ابن شاذان في كتاب المناقب: “بالحسين تسعدون”، فإن المهمة الكبرى للخطابة الحسينية هو الوصول بالجمهور إلى تلك السعادة

 

 

نعم؛ يعزو بعض المؤرخين هذه الزيادة إلى محاولات الإخفاء والتحريف للحقائق من قبل السلطات، فقد تطلب الأمر إهتماماً مضاعفاً من قبل العلماء لتوثيق الأحداث وحفظها من الإندثار أو الدس.

المرحلة الثالثة: مرحلة الخطابة الحسينية؛ والتي يمكن تسميتها بمرحلة النشر، هكذا فقد بدأت الخطابة الحسينية بأولى أدوارها وهي نشر الأحداث، وكان يصب الاهتمام في هذه المرحلة على نشر الأحداث المدونة في المصنفات إلى الملأ، وبطبيعة الحال فإن تحولاً كبيراً طرأ على السيرة بعد القرن السابع للهجرة إذا أن نقل الأحداث كان يتطلب أسلوباً في العرض يختلف عن أسلوب الرواية الموجود في أغلب المقاتل، وهكذا كان للخطابة الحسينية هنا الدور الكبير في أساليب عرض هذه السيرة.

وبعد انتشار الأحداث بصورة واسعة وسهولة وصول المتلقين إليها في الكتب انتقلت الخطابة الحسينية إلى لعب دور أكبر في مسيرة الوعي الحسيني، ومن هنا بدأ الخطاب الحسيني بأخذ منحى آخر وهو ما يمكن التعبير عنه بمرحلة الاستثمار، اي الانتقال من نقل مجرد الأحداث إلى تحليلها ومحاولة تطبيقها مع الحاضر.

 

س2: كيف تقرأون التطور الحاصل في منظومة الخطابة الحسينية على مدى القرنين الأخيرين؟

في الحقيقة إن المفاهيم الدينية، والأدوات، بل وحتى الروح التي بثها الائمة، عليهم السلام، والتي شكلت هذه المنظومة المعرفية، كانت قابلة للتكيّف والتطور ومراعاة متطلبات الواقع وهذا ما جعل للخطابة الحسينية دوراً كبيراً في القرنين الأخيرين.

فالحديث عن القرنين السابقين، حديثُ عن ظروف المجتمع الشيعي في فترة ما بعد الدولة الصفوية في محيط هذه البلدان “الشيعية” إن صح التعبير، وبالتالي هي المرحلة التي كان الشيعة يواجهون ثلاثة تحديات أساسية:

التحدي الأول: الإضطهاد الديني والعقائدي

التحدي الثاني: الإضطهاد الإقتصادي

التحدي الثالث: تقاطع هذه الفترة مع مرحلة الإستعمار

وبالرغم من أنَّ الخطابة الحسينية في هذه الفترة ركّزت بشكل كبير على جانبي الإبتلاء، والمصيبة، إلا أنّه لا يمكن إنكار الدور الكبير الذي لعبته الخطابة الحسينية في مواجهة هذه التحديات الثلاث، ويمكن لأي منصف أن يرى دور المنبر وخصوصاً الحسيني منه، في مواجهتها.

 

هناك تجربة قام بها بعض الخطباء هذا العام وذلك بطرح استطلاع رأي عام لجمهور متابعيه من خلال صفحاته الشخصية واستقراء الآراء، وهذه نقطة مهمة جداً بأن يوجد وسائل تواصل مستمرة بين الخطيب وجمهوره

 

فالمنبر لم يكن مجرد كرسي أعلى من سائر الكراسي، وإنّما كان مؤسسة ثقافية تعليمية، ومن هنا فكان له دور مشهود في تكريس العقائد عند الشيعة الإمامية مع فقدان سائر الوسائل وفي أحلك الظروف، هذا من جانب؛ ومن جانب آخر نجد دور الخطابة الحسينية في شحذ الهمم وبعث روح النهضة في الأمة، لمواجهة الضغط الإقتصادي الذي كانت تواجهه المجتمعات الشيعية.

وأما دورها في ثورتي التنباك والعشرين لمواجهة الاستعمار فلا حاجة لبيانه، إذ نرى كيف أنَّ الخطابة بل وحتى القصائد الحسينية تناغمت في هذه الفترات مع الأحداث.

أما في التاريخ المعاصر، فحضور المنبر مشهود في دفع الناس تجاه روح النهضة مع بناء الدولة الحديثة و تعبئتهم للتصدّي للطغيان والاستبداد، مستثمرين القيم المنبثقة من واقعة الطف والنهضة الحسينية.

 

س3: ما أبرز التحديات التي تواجه الخطيب الحسيني اليوم؟

التحديات التي يواجهها الخطيب الحسيني هي تحديات ما يعبر عنه بـ”سمات العصر” الذي نعيشه، من فوضى المعلومات وتداخلها، وسهولة الوصول الى المعلومات المغلوطة والمتناقضة، وايضاً؛ التداخل بين المعلومة والثقافة بمختلف اتجاهاتها.

فالتحدي الأهم الذي يواجه الخطيب، أن يكون بمستوى هذه التحديات، وهذا يتعلق بمدى وعي الخطيب الحسيني، وعمقه العلمي والثقافي في الحوزة العلمية، وهنا يمكن الإشارة الى كلام المستشرق الفرنسي، “جان فرانسوا كولوزيمو”، صاحب كتاب “المفارقة الفارسية”، حيث قال في مقابلة معه في صحيفة “لوبوان” في عام 2009، أن التشيع (الحوزات العلمية) هو من سينقذ الإسلام.

وعزا السبب في ذلك إلى أن هذه الحوزات منذ البدايات كانت منفتحة على مختلف النصوص الشرقية والغربية والمذهبية، فالمكون الشيعي منفتح ومتعود على هذا الجو، فيكون تحدي الخطيب الحسيني الأساسي، هضم المادة الحوزوية وأصولها المتثملة بالقرآن الكريم والسنة الشريفة، والى جانب هذا؛ فهم الواقع الذي يعيشه.

نعم؛ ظهر في الآونة الأخيرة، تحدي جديد، وهو في النقل الفضائي للمجالس بل والمجالس المباشرة عبر السوشال ميديا، خصوصا في هذا العام مع الجائحة -كما تعلمون- فإنَّ الكثير من الخطباء تحولت خطاباتهم ـ بسبب صعوبة تنقل الخطباء من جهة وكذلك عدم إمكان توفر البروتوكولات الصحية من جهة أخرى ـ عبر التطبيقات الحديثة وشكل هذا تحدي جديد للخطيب من حيث المحتوى والأسلوب، كما أنه كان تحدياً حقيقياً من خلال التقييم والنقاشات التي تأتي من الجمهور، وبالطبع شكّل ذلك فرصة لتطوير الخطاب أيضاً.

 

س4:  كيف يمكن للخطيب الحسيني مراعاة الوعي المتراكم لدى الناس؟

أتصور هنا يجب أن نتسائل أولاً: هل هناك وعي متراكم لدى الناس؟

هل الناس اصبحوا أصحاب وعي؟ أم أن الناس اصبحوا متعلمين ويقرأون ومتخصصين، وليس بالضرورة أن يكون ذلك سبباً لتراكم الوعي؟

إن كثرة التخصص أحيانا أفقد الناس الوعي، ومن ثمّ، فكما كان الخطيب في أغلب حالاته متقدماً على مجتمعه، ويقدم لهم الرؤية في محاولة لاستنهاضهم، يأتي دوره هنا في لملمة هذه المعارف باتجاه معين لصنع إرادة لدى المجتمع والنظر الى الامام وتحقق الطموحات والقيم الحسينية.

نعم؛ سهولة وصول الناس إلى المعلومة جعل من الضروري أن يأخذ الخطيب الحسيني المعلومات من المصادر الأساسية دون الاعتماد على النقولات، ولعمري ما أسهل ذلك مع توفر الموسوعات على الإنترنت.

 

س5: المراوحة بين التلغيز والتعقيد في صياغة المحاضرة وبين البساطة المُقرحة لهيبة النهضة؟

لا ريب أن المجتمعات متنوعة، فهنالك ما هو بسيط من الافكار يحتاج إلى طرح بسيط مثله، وما هو تخصصي وعميق من الافكار فيحتاج الى طرح يناسبه، والمنبر حالياً فيه التنوع المطلوب، فهناك خطباء يعرضون بالتفصيل ما يريدون بيانه خلال موسم محرم مثلاً، كما نجد ذلك في كثير من خطباء الخليج وايران، وبين خطباء يتحدثون بلغة بسيطة تراعي الثقافة العامة للناس.

نعم؛ لا ريب أن التعقيد في الألفاظ وفي الطرح العام غير مطلوب، وأسلوب القرآن الكريم والروايات هو الأنسب، فالقرآن الكريم يعرض أعقد القضايا المعرفية بلغة بسيطة جداً.

و ثمة دعوات لفتح باب التخصص، فالمنبر التاريخي له جمهوره، وكذلك المنبر الوعظي، وايضاً المنبر الفكري والثقافي، ومع وجود الفضائيات والوسائل الحديثة يسهل على كل جمهور متابعة الخطاب الذي يستسيغه بكل سهولة.

 

س6: ما المهمة الكبرى للخطابة الحسينية؟

إذا كانت سعادتنا بالإمام الحسين، عليه السلام، كما ورد في الحديث الشريف عن النبي، صلى الله عليه وآله، الذي أورده ابن شاذان في كتاب المناقب: “بالحسين تسعدون”، فإن المهمة الكبرى للخطابة الحسينية هو الوصول بالجمهور إلى تلك السعادة، أما كيف فيمكن معرفة خارطة الطريق من خلال النقاط الثلاث التالية:

الاولى: ما قاله الإمام زين العابدين عليه السلام ليزيد: “يَا يَزِيدُ ائْذَنْ لِي حَتَّى أَصْعَدَ هَذِهِ الْأَعْوَادَ فَأَتَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ لِلَّهِ فِيهِنَّ رِضاً وَ لِهَؤُلَاءِ الْجُلَسَاءِ فِيهِنَّ أَجْرٌ وَ ثَوَابٌ”، فإن المنبر يجب أن يراعي رضا الله والأجر والثواب للمستمعين.

الثانية: ورد في زيارة الإمام الحسين عليه السلام عن الإمام الصادق: “وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبَادَكَ مِنَ الضَّلَالَةِ وَ الْجَهَالَةِ وَ الْعَمَى وَ الشَّكِّ وَ الِارْتِيَابِ إِلَى بَابِ الْهُدَى مِنَ الرَّدَى”، ومن هنا فإن من المهام الكبرى للخطابة الحسينية هو المساهمة في صناعة الوعي في الأمة، في قبال محاولات التجهيل المستمرة.

الثالثة: فهي الوصفة الرباعية للسرد التاريخي الذي ورد في قوله تعالى: [وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ]، والذي بهذه الوصفة الرباعية في سرد السيرة الحسينية يمكن أن يؤدي الخطاب الحسيني دوره في دفع أو رفع الشبهات، دفعها من خلال التأصيل الفكري أو رفعها من خلال الطرح والمناقشة.

 

س7: كيف يلتقي الخطيب الحسيني بجمهوره؟

هناك تجربة قام بها بعض الخطباء هذا العام وذلك بطرح استطلاع رأي عام لجمهور متابعيه من خلال صفحاته الشخصية واستقراء الآراء، وهذه نقطة مهمة جداً بأن يوجد وسائل تواصل مستمرة بين الخطيب وجمهوره، وبتعبير آخر يجب أن يتفاعل الخطيب مع جمهوره ويطور فاعليته من خلال هذا التواصل، ليكون بذلك قد أدى دوره في شعوره بالمسؤولية الشرعية تجاه الأمة.

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا