مناسبات

الإِمَامِ الرَّضَا وَمُوَاجَهَةُ بِدْعَةُ التَّرجَمَةِ العَبَاسِيَّةِ

الأمم كما الأشخاص يُقاسون بعقولهم وأفكارهم، والذين يبنون الحضارات ينطلقون من فكرة حضارية تستحق العيش والنَّماء، فيتبناها شخص ..؟؟

 

  • مقدمة فكرية

الأمم كما الأشخاص يُقاسون بعقولهم وأفكارهم، والذين يبنون الحضارات ينطلقون من فكرة حضارية تستحق العيش والنَّماء، فيتبناها شخص مفكر وينشرها فيمَنْ حوله حتى إذا أقنعهم بها فاعتنقوها وراحوا يدافعون عنها ويتبعون صاحبها حتى تنتشر في كل الأوساط الاجتماعية وتلاقي تجاوباً متزايداً ومتنامياً كالحَجرةِ التي تُلقيها في بركة ماء راكدة فكيف ترى دوائر التأثير تبدأ من نقطة ولكن تنتشر حتى تعمَّ البحيرة كلها بدوائرها وتأثيراتها على الماء.
والأمم والشعوب الحيوية هي التي تنتج أفكاراً حضارية وحيوية جديدة ولا تستوردها من الخارج، فالأفكار هي من أرقى المواد فإما تُنتج محلياً أو تُستورد من الخارج فتأتي ممسوخة لأنها ممهورة بطابع المجتمع والأمة والشعب الذي أنتجها، فلماذا تنشط الترجمة؟ هل هي للتلاقح الثقافي أم نوع من الغزو الفكر والثقافي كما يجري لمتنا العربية في هذا العصر؟
في الحقيقة؛ الترجمة مفيدة كتجربة بشرية إنسانية، تُعطينا فكرة، أو ترشدنا إلى طريقة في التفكير، أو العمل قد تكون مفيدة، أو منتجة في مرحلة من المراحل ولكن الترجمة تنشط عادة في المجتمعات الراكدة فكرياً، والخاملة اجتماعياً، التي تفقد الإبداع الفكري والأدبي والعلمي وحتى الصناعي وغيره من المجالات الحيوية الضرورية للمجتمعات البشرية، كحال أمتنا العربية اليوم.

 

 

  • بدعة الترجمة في العصر العباسي

من يراجع التاريخ الإسلامي يجده غنياً فكرياً وعلمياً وثقافياً؛ فهو الذي فجَّر الأفكار في المجتمعات الجاهلية التي كانت لا تُفكر إلا بالكلام والشِّعر خاصة، وإن أعوزها الجوع والحاجة كانت تُفكر بالغزوِ والسَّطوِ على الآخرين حتى على أقرب المقربين، ولكن عندما جاء الإسلام العظيم ونزل فيهم القرآن الحكيم وقرأه عليهم رسول الله الكريم، صلى الله عليه وآله، فأخرجهم من تلك الظلمات الظالمة المظلمة إلى بحبوحة الأنوار الشاسعة الواسعة، فانطلقوا في الحياة يبنون الحضارة بتلك الأفكار البكر التي نزل بها القرآن الحكيم وبيَّنها لهم الرسول العظيم، فخلال عقد من الزمن فقط استطاع رسول الله صلى الله عليه وآله، أن يُطبِّق تلك الفكرة الحضارية (الإسلام) على مدينة يثرب فانتشرت حتى عمَّت الجزيرة العربية وصارت المدينة المنورة برسولها وأفكاره الحضارية الراقية.

 

[.. السلطات العباسية والنظام العباسي دفعت بالناس إلى التمرد ضد الإسلام وذلك لأنها جيّرت الفكر الإسلامي لصالحها ..]

وهذا ما أدهش علماء القرن العشرين في أوربا حتى كتب مايكل هارت كتابه (المائة الأوائل) ووضع الرسول محمد صلى الله عليه وآله في رأس القائمة رغم كل الاعتراضات عليه، فكان جوابه أن محمد بن عبد الله هو الأجدر بأن يكون الشخصية الأكثر تأثيراً في تاريخ البشرية بسبب نجاحه المنقطع النظير، بإخراج أهل الجاهلية بكل ما فيها وفيهم من مفاسد إلى العلم والحضارة الإنسانية بكل ما فيها من قيم وأفكار وعقائد.
فالإسلام عظيم جداً والقرآن الحكيم نبع فيَّاض بالأفكار فنحن منذ أربعة عشر قرناً نحاول أن نفسِّر القرآن حتى كتب العلماء أكثر من ألف تفسير، ودوائر معارف، وموسوعات تفسيرية وصل بعضها لأكثر من ستين مجلداً – وأنا شخصياً رأيتُ موسوعتين بهذا الحجم وقرأتُ بعض أبحاثها القيمة – ولكن لم يدَّعِ أحدٌ أنه استكمل تفسير القرآن الحكيم ونشر جميع علومه واستنبط كل أحكامه وأفكاره، وانَّى للبشر مثل ذلك والقرآن كالشمس كما يصفه الإمام الرضا (ع) فهو كل يوم غضُّ جديد..
وعليه فلماذا نشطت حركة الترجمة في العصر العباسي “الذهبي” كما يُسمونه، لا سيما في عصر عبد الله المأمون الذي شجَّع الترجمة وراح يُعطي بوزن الكتاب ذهباً؟
هل هي ندرة الأفكار في الأمة الإسلامية، أو ندرة المفكرين فيها؟
والمطلع على التاريخ الإسلامي يجد أن الفترة ما بين آخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الذي حكم فيها المأمون كانت من أغنى حقب التاريخ الإسلامي فكرياً وعلى كل المستويات، لا سيما الفقه، والعقائد، والتفسير، والتاريخ، والكلام، وما يدُّلنا على ذلك هي مجالس المأمون الفكرية،فلماذا شجَّع الترجمة في دولته التي ابتدأت من خراسان الفارسية، وأمه وقادته وأنصاره جميعاً من الفرس؟

سماحة المرجع الكبير والمفكر القدير سماحة السيد المدرسي (دام عزه) أجاب عن هذا السؤال وبيَّن فلسفة المأمون العباسي من تلك البدعة التي أحدثها في عصره حيث قال: “وقد استغل المأمون العباسي ذلك الوضع فابتدع في الإسلام بدعة، وهي أنه أمر بترجمة الكتب الأجنبية القديمة، وبذلك أصبحت سياسة سن القوانين، وطريقة إدارة الدولة، تعتمد أساسا على القواعد غير الإسلامية، فأنشأ في خراسان ونيسابور وغيرها من المناطق دوراً للترجمة، وأخذ يصرف عليها الأموال الطائلة ولقد قام بهذا العمل لأحد سببين:
السبب الأول: أن المأمون العباسي حينما وجد أن الأفكار الثورية قد انتشرت في الأمة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها، لم يجد بداً من الاعتماد على خلفية فكرية معينة يُحارب بها تلك الأفكار الثورية، هذه الخلفية شكلتها الأفكار التي تحملها الكتب المترجمة خصوصاً من اللغة الفارسية، ونتساءل ما هي تلك الكتب التي تُرجمت؟

 

[ .. في هذا الجو المضطرب جاء الإمام الرِّضا عليه السلام، منقذاً للأمة من جوِّ الاضطراب السياسي الذي ينعكس بدوره على الاضطراب الفكري وانتشار الأفكار اللا دينية في الأمة الإسلامية، التي غذَّتها ترجمة النظام للكتب الغربية والشرقية المشحونة بالشرك، والكفر، والأفكار الإستسلامية ..]

كانت هذه الكتب تدعو إلى الاستسلام وتقول: “الله في السماء والشاهنشاه (ملك الملوك) في الأرض”، وكذلك تقول: “صلاح مملكت خويش.. خسروان دانند” وتعني هذه العبارة (أن الحكم، لا يعرف أصوله وطرقه إلاّ الكبار)، وكذلك تقول هذه الكتب أن العائلة المالكة ضرورية لاستقرار البلد. (أي أنها تمجِّد الملك وترفعه عن الخلق، وتُنزل الشعب وتضعه تحت الأرض ليستسلم).
هذه الأفكار هي التي استطاعت التغلب على إرادة الجماهير وتخديرها والسيطرة عليها سيطرة كاملة، وقد اطلّع المأمون على تلك الأفكار في خراسان التي عاش فيها واتصل ببقايا ممالك فارس، ووجد في تلك الأفكار خير عامل على تثبيت سلطانه. (المهزوز أصلاً وفصلاً).

السبب الثاني: بسبب ما ظهر في البلاد الإسلامية من (موجات تشكيكة)، نتيجة الخيبة التي مُني بها من دخل الإسلام من اتباع الدِّيانات الأخرى، وهم ينشدون العدالة الاجتماعية والحرية السياسية والرحمة، فإذا بهم رأوا أن الإسلام من حيث الواقع هو مجموعة من الأفكار يُسيطر بها بنو أمية، وبنو العباس على رقاب الناس، فاندفعوا راجعين إلى دياناتهم السابقة، أو إلى معتقدات جديدة نسبوها إلى الإسلام.

ومع أن العباسيين اتبعوا بحق أصحاب تلك الأفكار سياسة التقتيل، إلا أنهم في نفس الوقت كانوا يحتاجون إلى ما يجابهون به تلك أفكار التي وجدت لها آذاناً صاغية في أوساط المجتمع الإسلامي، الذي حُرم من الفكر الإسلامي الأصيل المتمثل بمدرسة أئمة أهل البيت عليهم السلام، لذلك عمدوا إلى تشجيع حركة الترجمة.
في الحقيقة؛ أن السلطات العباسية والنظام العباسي هي التي دفعت بالناس إلى التمرد ضد الإسلام وذلك لأنها جيّرت الفكر الإسلامي لصالحها، فالمأمون العباسي كالخلفاء الذين من قبله، حينما رأى تلك الحركات، أراد الاستعانة بالفكر الغربي أو الشرقي في سبيل إعادة التوازن داخل الفكر الإسلامي عن طريق تطعيم الأفكار والعقائد الإسلامية وعلم الكلام الإسلامي بأفكار أرسطو وأفلاطون، وغيرهم، فهو أشبه بالأنظمة (المعاصرة) التي ترتدي لباس الإسلام والتي تأتي بسائر أنواع النبيذ ثم تعاقب مَنْ يشربه، أو تقطع يد السَّارق مع أنها هي التي تدفعه إلى السَّرقة بسبب سياستها الاقتصادية السيئة، لأنه حينما ننقل أفكار الغربيين والشرقيين إلى الفكر الإسلامي وهو يعيش حالة اضطراب، فان ذلك يعني أننا ساعدنا الأمة الإسلامية على الانحراف”. (التاريخ الإسلامي دروس وعبر: ص273 بتصرف).

 

 

  • الإمام الرضا عليه السلام هو المنقذ

في تلك الحقبة الحرجة من حياة الأمة الإسلامية التي اهتزت فيها من كل النواحي الفكرية، والعقائدية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، ومن كل الجوانب من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ثورات، ودول، ومقاطعات، وحروب دامت سنوات، وأكلت الأخضر واليابس، وأهلكت الحَرثَ والنسل، وما استقرَّ حكم عبد الله المأمون إلا بعد آلاف القتلى ودمار العديد من المدن لا سيما بغداد عاصمتهم ومدينتهم التي سموها (مدينة السلام) فصارت مدينة الرُّكام.
يقول سماحة السيد المرجع المدرسي: ” في هذا الجو المضطرب جاء الإمام الرِّضا عليه السلام، منقذاً للأمة من جوِّ الاضطراب السياسي الذي ينعكس بدوره على الاضطراب الفكري وانتشار الأفكار اللا دينية في الأمة الإسلامية، التي غذَّتها ترجمة النظام للكتب الغربية والشرقية المشحونة بالشرك، والكفر، والأفكار الإستسلامية”. (التاريخ الإسلامي دروس وعبر: ص273).
فقد روي أن الإمام الرضا عليه السلام، حين مرَّ بمرو اجتمع عليه العلماء، على رأسهم الحافظان أبو زرعة الرازي ومحمد بن أسلم الطوسي ومعهما خلائق لا يُحصون من طلبة العلم وأهل الأحاديث وأهل الرواية والدراية، ينقلها عن آبائه الأطهار، عن جبرائيل عن رب العزة والجلال: “كلمة لا إله إلا الله حصني، فمَنْ قالها دخل حصني، ومَنْ دخل حصني أمِنَ من عذابي
فعدُّوا أهل المحابر والدوي الذين كانوا يكتبون فأنافوا على عشرين ألفا، هكذا واجه الإمام الرضا عليه السلام حركة الترجمة ببث العلوم الإسلامية والعقائد الحقة في الأمة، وبذلك أنقذها من متاهات الحيرة والضلال وغزو الأفكار الباطلة والعقائد المنحرفة التي راحت تنخر في أفكار الناس وعقولهم نتيجة تلك الترجمات.
فآلاف التحية والسلام على الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في يوم مولده الشريف.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا