مناسبات

الإِمَامُ الْصَّادِقُ عليه السلام بَيْنَ مُعَارَضَتَين

السياسة: هي فن حكم المجتمعات وإدارة مواردها، وحفظها من المخاطر، وبناء مدنيتها وحضارتها وفق ..؟؟

  • تقديم سياسي

السياسة: هي فن حكم المجتمعات وإدارة مواردها، وحفظها من المخاطر، وبناء مدنيتها وحضارتها وفق رؤيتها الشاملة، ومبادئها الحاكمة، وعاداتها وثقافتها الموروثة، فالسياسة هي المسؤولة عن تربية الأمة وتهذيبها وتقويم الاعوجاج فيها.
ولكن أصحاب المطامع، قالوا: “أن السياسة لا أم لها ولا أب”، و “هي فن المراوغة والكذب للوصول إلى الأهداف”، وهذا الكلام صحيح ودقيق بمنظار السياسيين، والمشتغلين بالشَّأن السياسي، حيث تكون أعينهم على المنصب، أو الكرسي، الذي يُريدونه، فيقصدونه ليكون غايةً لهم، ولا يهمهم الوسيلة التي سيتوصلون إليها على تلك الغاية، فمعاوية وضع لهم دستوراً شيطانياً في ذلك؛ بما عُرف ب”شعرة معاوية” في التاريخ، أو بما أَطلقه ميكيافيلي بقاعدته؛ “الغاية تبرر الوسيلة” وهذا كله ليس من العقيدة والدِّين في شيء، بل هي فذلكات أهل السِّياسة للضحك على ذقون الناس، في كل زمان ومكان، وفي كل عصر ومصر، وأكبر كذبة نعيشها في هذا القرن الأغبر هي “الديمقراطية” فكل يُفسِّرها لصالحه، وبما يُحقق له مصالحه.

[ .. لم يتدخَّل الإمام جعفر الصادق عليه السلام بالشأن السياسي مباشرة، بل تابع مسيرة أباه الإمام الباقر عليه السلام العلمية، حيث وجد أن الفرصة سانحة ومواتية له من أجل استثمار التفجر العلمي والبَقر والنشر للعلوم التي فتحها وأفاضها والده الباقر عليه السلام ..]

والسياسة في الدِّين الإسلامي العظيم المؤهل لقيادة العالم؛ يرى بأن السياسة هي مهمة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، ومن بعده هي وظيفة شرعية من وظائف وصيه، ووليه، ووارثه، وهو ما نُسمِّيه ب(الإمام)، وهو المنصب الذي أمر به الله تعالى من فوق سماواته، وبيَّنه رسول الله طيلة فترة رسالته، ولم ينتقل إلى الرَّفيق الأعلى إلا وقد أخذ البيعة له في حياته وذلك في يوم الغدير الأغر في الثامن عشر من ذي الحجة، بعد حَجَّة الوداع، ولكن هذه الأمة ما أن وصلت إلى المدينة المنورة حتى أنكرت كل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله، بهدف الوصول إلى الحكم، والكرسي من فعل رجال قريش في سقيفة الأنصار.

فسياستنا دين وعقيدة، ومن أصول ديننا الإمامة والولاية، ومن فروعها الشأن السياسي، والقيادة السياسية وهو ما حصرت فيه الأمة مسألة الولاية العظمى بأئمة المسلمين عليهم السلام، فأنكرت الحق الإلهي لهم، لأجل الكرسي والخلافة، لأنهم لم يفرِّقوا بين الدِّين والعقيدة والسياسة فيها، فراحوا ينظرون على الخليفة، والحاكم، والسلطان، والرئيس، والملك، كأنه إمام ويعتقدون بإمامته وهو فاسق فاجر لا يُؤْمَن على كَسر درهم، فكيف يأمنونه على دينهم فهذا من أعجب العجب؟

  • الإمام جعفر الصادق عليه السلام

هذا الإمام الذي ملأ الدنيا علماً ونوراً، وشغل الناس دهراً طويلاً، الذي قاد الأمة في أحلك ظروفها وأعقدها لأنها كانت في فترة انتقالية ما بين الحكمين الأموي والعباسي، فعاش في نهاية الظلم والظلام الأموي البغيض، وقامت الدَّعوة العباسية باسمه (الرِّضا من آل محمد)، ولكنهم غدروا به كعادة أهل السياسة الذين يصلون إلى سدَّة الحُكم والسُّلطة فما أن تستقر بهم الكرسي حتى يُفكروا بالتخلُّص من المنافسين لهم بأي طريقة وأسلوب وهو ما يقولونه: “أن الثورات تأكل أبناءها”، والحقيقة أن الواصلين إلى الكرسي قبل غيرهم يتخلص من كل المنافسين، أو المساعدين لكي لا يكون لهم يد عنده، أو أن يخافهم على مكانه ومكانته، وهذه من واضحات الثورات الاجتماعية.

عاش الإمام جعفر الصادق عليه السلام ما بين (83 – 148 هـ)، وكانت فترة إمامته اربعة وثلاثين عاماً، حيث ولد في المدينة، واستشهد فيها وكان عمره يوم شهادته خمسا وستين، او ثمانية وستين عاماً، ودُفِنَ في البقيع إلى جانب أبيه الإمام الباقرعليه السلام، أي أنه له ميزتان هنا؛ أنه أطول الأئمة عليهم السلام عمراً، كما أنه من أطولهم في الإمامة مدَّةً، وهذا ما جعله محوراً للطائفة المحقَّة، وعَلَمَاً ورمزاً للشيعة (الجعفرية)، وأستاذاً لجميع أئمة المذاهب الإسلامية.

  • الإمام جعفر الصادق والأمويين

تزامنت حياة الإمام الصادق عليه السلام مع الخلفاء العشرة الأواخر لـبني أمية، وأما إمامته للأمة الإسلامية فكانت مع الخلفاء الخمسة الأواخر لبني أمية أي من خلافة هشام بن عبد الملك حتى مروان الحمار، فالحقيقة التاريخية تشهد؛ بأن الإمام الصادق عليه السلان عاصر أزمة انهيار السُّلطة الأموية البغيضة، التي أدخلت الأمة في أزمات كبيرة ومنعطفات خطيرة على حياتها ووجودها.

يقول سماحة السيد المرجع المدرسي (حفظه الله) فيها: “كانت الأزمة السياسية من أبرز الأزمات التي عصفت بالأمة الإسلامية التي كانت تضطرب وتموج بفعل الحركات المعارضة لسلطة بني أمية فهناك حركة في العراق، وحركة في الحجاز، وحركة في مصر، وحركة في المغرب، وحركات في غير مكان من البلاد الإسلامية.
فالسياسة لم تكن مستقرة حينها أبداً، وأبسط دليل على ذلك هو أنه وخلال نصف قرن – كما يُبيِّن التاريخ – تسارع هلاك الحكام؛ فمعدل عمر الحاكم كان ثلاث سنوات” (التاريخ الإسلامي دروس وعبر: ص38).

ولكن الإمام جعفر الصادق عليه السلام لم يتدخَّل بالشأن السياسي مباشرة، بل تابع مسيرة أباه الإمام الباقر عليه السلام العلمية، حيث وجد أن الفرصة سانحة ومواتية له من أجل استثمار التفجر العلمي والبَقر والنشر للعلوم التي فتحها وأفاضها والده العظيم في الأمة، فاستغلها وربَّى الآلاف من الطلاب والعلماء الذين كانوا ومازالوا حديث العلم والعلماء في مختلف الصفوف والصنوف.

[ .. الرِّضا من آل محمد يعني الدَّعوة إلى الرَّجل الذي تتوفر فيه المؤهلات الرِّسالية القيادية ولكن هذه الكلمة فضفاضة، تجمع شتات الفرق الثورية ولأن الدَّعوة كانت على درجة كبيرة من السِّرية فقد تجمّع تحت هذا الشعار العديد من الفرق الثورية ..]

ولكن كل المعارضات السياسية قامت باسمه الشريف، وأهمها كثورة الإمام زيد وولده يحيى ومن ثم الزيدية والحسنية بجناحها المسلح كما يُسميها سماحة السيد المدرسي، وجميل ما يقول: “العمل العسكري درع الحركة الرسالية؛ إن وجود جسد زيد مصلوباً في كُناسة الكوفة، وقيام ابنه يحيى بالدَّعوة كان ذلك ضرورياً لاستمرار الإمام الصادق عليه السلام في نشر الفقه الإسلامي، كما أن قيام الإمام الصادق بنشر العلوم الإسلامية كان ضرورياً لاستمرار دعوة زيد، فكانا كجناحي طائر لا يطير إلا بهما، ويسقط إذا كان أحدهما مفقوداً هذه الحقيقة هي التي عبّر عنها الإمام الصادق عليه السلام في كلمة موجزة لشيعته الذين كانوا يجدون هذا التناقض ويتساءلون عنه قال عنها: “ولا أزال وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد ، ولوددت أن الخارجي من آل محمد خرج، وعليّ نفقة عياله”. (التاريخ الإسلامي: ص108).
فوجود الإمام جعفر الصادق عليه السلام المبارك كان بالنسبة لبني أمية وجود معاضة مسلحة قوية تعمل ليل نهار ودون كلل أو ملل لإسقاطها، وبالفعل استمرت تلك الثورات حتى أسقطوا حكم الطغاة الأمويين ورموهم في مزابل التاريخ.

  • الإمام جعفر الصادق والعباسيين

قامت الدَّعوة العباسية باسم الإمام الصادق عليه السلام وهو الذي أشار إليهم، وبشَّر بعضهم بالحُكم، وذلك لأن المجتمع الإسلامي انقسم إلى ثلاثة طوائف يُبينها السيد المرجع المدرسي بقوله:
الجناح الأول: جناح الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو الجناح الرِّسالي الثابت.
الجناح الثاني: الجناح الجاهلي المتطرف، وهذا الجناح يضم بني أمية.
الجناح الثالث: جناح الوسط، ويضم أبا عبيدة الجراح وكثيراً من المسلمين ومنهم العباسيون.
ثم يقول سماحته: “إن الجناح الصحيح هو الجناح الثابت المستقيم على الفكر الإسلامي، الجناح المحافظ على القيم والمبادئ والملتزم بها التزاماً صارماً”، والمستفيد كان من الحركات المسلحة هو جناح الوسط حيث حافظوا على قوتهم حين استهلكت قوى الجناحين المتصارعين في القتال والنضال ولذا استطاع “الجناح العباسي التغلب على الساحة بوجود ظروف مهيأة له، إذ أن أغلب الناس لا يهمهم مَنْ يحكمهم إلاّ أنهم مجمعون على أمر واحد؛ هو رفض الحكم الأموي والشعور بالذنب تجاه آل محمد، وبنو هاشم سواء العباسيون، أو العلويون، أو أولاد جعفر، أو أولاد عقيل، كل هؤلاء أجمعوا أمرهم في إطار الدَّعوة إلى (الرِّضا من آل محمد).

والرِّضا من آل محمد يعني الدَّعوة إلى الرَّجل الذي تتوفر فيه المؤهلات الرِّسالية القيادية ولكن هذه الكلمة فضفاضة، تجمع شتات الفرق الثورية ولأن الدَّعوة كانت على درجة كبيرة من السِّرية فقد تجمّع تحت هذا الشعار العديد من الفرق الثورية”. (التاريخ الإسلامي: ص132).

والرَّجل المرضي من كل هؤلاء كان شخص الإمام الصادق عليه السلام دون غيره ولذا عندما لاحَ النَّصر للثورة فكتب أبو سلمة الخلال رسالة إلى الإمام الصادق قال فيها: “يا بن رسول الله، كنَّا ندعو إلى الرِّضا من آل محمد والرِّضا من آل محمد هو أنتَ وإنّا ندعو إليك والأمر قريب (النصر)، وقد نصبنا أبا مسلم وآخرين في مختلف الأمصار”.

وجاء هذا الرجل بالرسالة إلى الإمام الصادق عليه السلام وكان هناك مصباح زيتي فوضعها عليه فاحترقت، وقال الإمام عليه السلام: “وما أنا وأبو سَلمة؟ وأبو سَلمة شيعة لغيري”.
وعندما رأى الرجل ذلك المشهد قال: “يا بن رسول الله، الجواب: فأجابه عليه السلام: “عرِّف صاحبك بما رأيتَه”، فتعجَّب الرَّجل وقال: عجباً أن أحداً تُعرض عليه الخلافة فيرفض”. (التاريخ الإسلامي: ص134 بتصرف).
فالدَّعوة قامت باسم الإمام الصادق عليه السلام، ولكن الدُّعاة لم يكونوا مؤتمنين عليها، ولذا كانت سياسة الإمام الصادق الحكيمة أن ابتعد عن أولئك لمعرفته بهم وبحقيقة دعوتهم وبطلانها لأنها قامت على أساس سياسي وحب السُّلطة وليست دعوة دينية وإصلاح عقائدي وفكري في الأمة فرفضها وجلس يُعلم الناس دينهم، ويُلقنهم فكرهم الحق، ويُبين لهم ما يُصلحهم في الدنيا والآخرة.
وبذلك نجى الإمام الصادق عليه السلام من فَخَيِّ سياسة بني أمية السَّاقطة، وسياسة بني العباس الباطلة فعاش إماماً، وعُرف أستاذاً، وانتقل إلى ربه شهيداً وشاهداً على ظُلم السياسيين لأهل الدِّين.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا