أسوة حسنة

الغدير

ربما يقرأ البعض الغدير، على أنه حادثة تاريخية يؤخذ منها العبرة والتجربة ليس إلا، في حين لو قرأنا الغدير …

ربما يقرأ البعض الغدير، على أنه حادثة تاريخية يؤخذ منها العبرة والتجربة ليس إلا، في حين لو قرأنا الغدير، كقضية رسالية ومشروع حضاري يستمد عنوانه من الهدف الحقيقي لخلق هذه الواقعة، ربما تفتخر منطقة «غدير خم» بين مكة والمدينة، بين بقاع الأرض، على أنها شهدت على ترابها واقعة كادت تكون منعطفاً تاريخياً في حياة البشرية، لولا عوامل الانحراف والتشويه التي ضيعت هذه الفرصة.
من هنا كان لابد من تسليط الضوء على المنهج الذي يمثله «الغدير» في مقابل المنهج الآخر الذي وقف بالضد – وما يزال – لنعرف أولاً: قيمة المنهج الذي نتبعه ودوره في الحياة، ثم نعرف حقيقة المنهج المقابل وامتداداته عبر الاجيال.

  • «تُعرف الأشياء بأضدادها»

هنالك قاعدة تقول: ان الأشياء تعرف بأضدادها وبأمثالها؛ فاذا أردنا معرفة أهمية الشيء وعظمته، علينا معرفته من خلال المقارنات، فالمقارنة تُظهر موقع الشيء وحقيقته، وإذا أردنا أن نعرف منهج الغدير وحقيقته، علينا أن نقوم بعملية مقارنة، وما تجدر الاشارة اليه هنا؛ أن المقارنات على نحوين: ونعتقد أن هذين النحوين متكاملان، أحدهما يكمّل الآخر ونحن بحاجة إلى كلا النحوين:
النحو الأول: المقارنات التاريخية
عندما نريد أن نقيّم فرداً أو نقيّم منهجاً بشكل دقيق، يجب أن يتم ذلك ضمن الظرف التاريخي الذي وُجد فيه هذا الفرد وهذا المنهج، لا أن نلاحظ المنهج بشكل تجريدي.
للمثال على ذلك؛ إذا أردنا تقييم الشيخ مرتضى الانصاري، فهل نقيّمه من خلال كتاب «فرائد الأصول» الذي يُدرس اليوم في الحوزات العلمية؟ لربما يأتي عالم دين، وبعد مئتي عام من وفاة الشيخ الانصاري، ويكون أعلم منه، ثم يؤلف كتاباً أقوى من كتاب الشيخ، وهو أمر طبيعي، لأن العالم الموجود حالياً سيبدأ من حيث انتهى الآخرون، مع ذلك؛ فان هذا لا يعني أن هذا الفقيه أو العالم سيكون أقوى من الشيخ الانصاري، إذ للوصول الى معرفة عظمة الشيخ الانصاري، ينبغي ملاحظة الكتب التي كُتبت في عهده، والتي كُتبت قبله وبعده.
من هنا؛ اذا اردنا معرفة عظمة منهج أمير المؤمنين، عليه السلام، يجب أن نلاحظ الاجواء التي كان يعيشها، والحكام الذين تقدموه، والذين تأخروا عنه في تلك الفترة؛ حينها سيتجلّى جانب من جوانب عظمة أمير المؤمنين، عليه السلام، علماً أن هذا من هوان الدنيا على الله – تعالى – أن يُقارن عليٌ بأنداده، يقول الامام، عليه السلام، في نهج البلاغة: «… متى أعترض الريبُ فِيَّ مع الأول منهم حتى صرتُ أُقرَن إلى هذه النظائر…».
ولإعطاء صورة عن المنهج المقابل لمنهج أمير المؤمنين، عليه السلام، نذكر مثالاً واحداً مذكوراً في مصادر تاريخية عدّة منها: «تاريخ دمشق»، وفي «شرح ابن أبي الحديد»، حيث ورد أن رجلاً جاء إلى «الثاني»، وسأله قائلاً: أخبرني عن {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا}، (سورة الذاريات: 1) فما معنى الذاريات؟ قال: إنها الريح تذرو، ثم قال الرجل: أخبرني عن الحاملات وقرا، {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا}، (سورة الذاريات: 2) فقال: السحاب، ثم قال: أخبرني عن الجاريات يسرا {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا}، (سورة الذاريات: 3) فقال: السفن تمشي بسهولة فوق المياه، بعدها وكما جاء في هذه المصادر التاريخية، أمر به فضربه مئة ضربة، حتى شجّه وأدمى رأسه وجعل الدم يسيل على وجهه»! لأن حسب المصادر، فان «الثاني» كان قد أصدر قراراً صارماً بأن لا يسأل أحد من المسلمين عن شيء يجهلونه، حتى لا يُحرجوه في عدم قدرته على الاجابة.
في مقابل هذا المنهج نلاحظ منهج أمير المؤمنين، عليه السلام، فقد جاءه أحد الخوارج -التكفيريين – وقال معلقاً على جواب الامام لمسألة فقهية استعصت على الجميع: «قاتله الله من كافرٍ ما أفقهه»! فوثب إليه الأصحاب ليأدبوه، فقال: «دعوه إنما هو سبٌ بسب أو عفوٌ عن ذنب وأنا أولى بالعفو».
النحو الثاني: المقارنات المعاصرة
بناءً على هذه المقارنة، فان منهج الغدير أولاً: يمثل منهجاً رائداً ومتفوقاً حتى هذا اليوم، حتى إذا افترضنا ان العالم الحاضر وصل إلى بعض مفردات هذا المنهج، فالإمام كان عنده هذا المنهج في عهود الظلم والظلام، وقبل ألف وأربعمئة عام. وثانياً: توجد في هذا المنهج مفردات لمّا يصل اليها العالم حتى هذا اليوم.

  • مفردات التفوّق في المنهج

نذكر مفردات كان للإمام الريادة في بعضها، والبعض الآخر كان الامام متفوقاً فيها، وهو ما لم يحققه العالم حتى اليوم:
أولاً: الجماهيرية
كان الإمام أمير المؤمنين، عليه السلام، حاكماً يعيش مع الناس كأحدهم، وله اتصال مباشر معهم؛ فلا يحضر في ذهني أنه يوجد حاكم في العالم على الإطلاق، لا مسلمٌ ولا مسيحيٌ، ولا يهوديٌ، ولا كافرٌ، لا في البلاد المستبدة ولا في البلاد الديمقراطية، له هذا المنهج، والنموذج المصغر لهذا المنهج، وهذا ما يفعله مراجع التقليد الذين مضوا على خط أمير المؤمنين، عليه السلام، وعلى منهج رسول الله، صلى الله عليه وآله، في أن يأتي مرجع التقليد ويجلس مع الجميع ليتمكن أي شخص من التحدث معه، وربما يقول البعض: إن الدنيا قد تغيّرت وتطوّرت، وهناك مخاطر ربما تهدد المراجع، ولكن؛ ألم يكن أمير المؤمنين مهدداً بالقتل وهو في تلك الظروف العصيبة، حيث الخوارج في الداخل ومعاوية في الخارج؟
ليس هذا وحسب، بل كان يوصي اصحابه بعدم الاحتجاب عن الناس، فقد جاء في عهده المشهور بمالك الأشتر بأن «لا تحتجب عن الناس، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبةٌ من الضيق وقلة علمٍ بالأمور».
ثانياً: العفو العام
وهذا المنهج لم يحققه العالم حتى الآن؛ ففي عالم اليوم اذا قبضوا على شخص متهم بزعزعة الامن، او تهديد حياة شخصية سياسية كبيرة، فهل يتركونه وشأنه؟! بينما النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، عفا عن أبي سفيان الذي كان قائد المؤسسة العسكرية – إن صحّ التعبير- التي خاضت وحرضت على أكثر من ثماني حروب وغزوات ضد النبي، وكذلك فعل أمير المؤمنين في حرب الجمل عندما عفا عن عائشة وطلحة والزبير وعبد الله بن الزبير، علماً أن هذا الأخير كان ألدّ أعداء أهل البيت، عليهم السلام.
ثالثاً: الرفاهية
جاء في «بحار الانوار»، وفي «المناقب»، وفي «فضائل الصحابة» لأحمد بن حنبل، وفي «كنز العمال»، أن أمير المؤمنين، عليه السلام، قال: «ما أصبح أحدٌ بالكوفة إلا ناعماً»، وقد كان عدد نفوس الكوفة آنذاك حوالي أربعة ملايين نسمة، أي إن كل هؤلاء كانوا يعيشون النعيم والرفاهية.
أما في الوقت الحاضر، وحسب الاحصائيات، فإن خمسة وعشرين ألف إنسان يموت كل يوم في العالم.
رابعاً: التوزيع العادل للثروة
لم يكن أمير المؤمنين، عليه السلام، ليحجز أموالاً في خزينته او ما يعرف اليوم بخزينة الدولة، إنما يوزعها سريعاً على المسلمين بشكل متساوٍ، بينما الملاحظ في عموم البلاد الاسلامية اليوم تعرض الشعوب لعمليات «شفط» غريب للاموال بذرائع غريبة، مثل الرسوم والضرائب والغرامات.
وننقل هذه الرواية من كتاب «الأمالي» للشيخ الطوسي: «…شهدتُ عليَّ بنَ أبي طالب، أُتي بمالٍ عند المساء، فقال اقسموا هذا المال فقالوا: قد أمسينا يا أمير المؤمنين، فأخّرَه إلى غد، قال أتضمنون أنّي أعيش إلى غد؟ قالوا ماذا بأيدينا؟ قال: فلا تأخّرُوه حتى تقسّموه، فأُتي بشمع وسط الظلام فقسموا ذلك المال في ليلتهم». وفي رواية من «أنساب الأشراف»، تقول ان الامام عليّاً، عليه السلام، كان يقسم بيننا كل شيء حتى العطور بين نسائنا!
واذا تواجه شعوبنا الاسلامية اليوم المآسي والويلات من بعض حكامها الدعاة الى الاسلام ظاهرياً – ونقول من يدّعي الاسلام فقط – فهي ليست من شخص هذا الوزير او ذاك، او من وجود هذا الحزب أو ذاك في السلطة، وإنما من التخلّي عن منهج الغدير واستبداله بمناهج أخرى.
————————–

  • مقتبس من محاضرة لآية الله السيد محمد رضا الشيرازي – قدس سره -.

عن المؤلف

اترك تعليقا