منذ بدء الخليقة وللآن يعيش الانسان التطور والارتقاء والتقدم جيلاً بعد جيل، وكل جيل لاحق يحقق أهدافا وتوجهات جديدة، ويفتح ابوابا لم تكن موجودة من قبل، بل لم تكن متخيلة اصلا منهم؛ وذلك شيء بديهي، لوجود نعمة العقل لدينا كبشر نسعى للتغيير والانفتاح وتطوير أنفسنا ومجتمعاتنا… وهذا يلقي بظلاله الجميلة والنافعة على الحياة برفاهية أكثر.
-
مخاوف قد ترد بالحسبان
ولعل المخاوف تلوح في الأفق في اختلاف تفكير وطريقة التطور بين الآباء والأبناء.. الأمر الذي قد يوجد فجوة بين جيلين، فالاب تعود على مستوى تفكير والابن نشأ مع مستحدثات العصر، ومسألة الصواب والخطأ لا ترتبط بالضرورة بأحد الطرفين (الآباء او الابناء)، فنحن نقرأ على مستوى الجيل الاول من المجتمع الاسلامي في بدايات الدعوة، حيث من الابناء من آمن وصَدّقَ، ومن الآباء مَن كفر وكذّب، وقد جسد القرآن الكريم هذا الواقع في آيات عدة، وبين طريقة تفكير البعض، {…بل نتبع ما الفينا عليه آباءنا}.
وعلى الصعيد التربوي قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: «أوصيكم بالشباب خيراً فإنهم أرق أفئدة، إن الله بعثني بشيراً ونذيراً فحالفني الشبان وخالفني الشيوخ».
-
تحقق الاحلام
يعيش الانسان ما يعيش منتظرا حالما بالقبول المجتمعي الذي يشكّل له السيرة الطيبة الممتدة بجذورها الى التربية والاسرة الصالحة، محققا له الاطمئنان النفسي والسعادة المنشودة، كونه فردا نافعاً مفعما بالنشاط، مملوءاً بالخير والعمل به وله، موطنا نفسه على التغيير للافضل والتمازج مع الاجمل من السلوكيات التي تنقله لركاب الصالحين والعابدين والسائرين بطريق الفطرة الحقة التي تقودنا بإشراقاتها الطيبة لتحقيق سبب الوجود والتكامل وهو العبادة:
أحبُ الصالحين ولست منهم لعلّ الله يرزقني صلاحا
قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ}، (سورة الذاريات:56- 57).
-
كيف ندعو الى الله؟
في خضمّ طريق الوصول لله تعوّدنا اساليب كثيرة وطرقاً للدعوة متشعبة، ومازالت تتسع كلما كبرت الفجوة بين جيلين، أحدهما تربى على شيء والآخر إستجدت معه اشياء لم يألفها الاباء، ولايستسيغها الابناء!
من بين تلك الاساليب الاكثر انتشارا؛ أسلوب الامر، والنهي، والزجر على أنها روادع من بعض المنزلقات، وقد نلمس الانكى؛ أن الاب يمنع فيما الأم تشجّع على نفس العمل كونه يأخذه من زاوية مغايرة ومختلفة!
هذا النوع من التعامل له تفسيرات عدّة، ربما يكون الوضع الاقتصادي والمعيشي للأسرة مؤثراً فيه، فالكثير من الآباء عاشوا في ظروف الفقر والعوز والحرمان لسنوات عدّة مما ولد تداعيات كبيرة في نفوسهم، فتارة نرى لديهم حرصاً شديداً على ما يحصلون عليه، وتارة اخرى يكون التوجه نحو البذخ والإسراف كون الانسان حصل على ما مُنع منه لسنوات، ويريد التعويض مع اولاده، وفي جانب آخر نلاحظ التحولات في السلوك والتعامل بسبب ظروف الحياة أدت الى تغلغل الخوف والقلق في حياتنا بدون وعينا، وتسللت في اللاوعي مسجونة خلف بوابات الالم وصورة الحاجة بالصغر.
-
شرخٌ وفجوة
هنا اتسعت مسافة البعد بين ماعشناه وبين مايعايشه أبناؤنا من انفتاح على كل المستويات، فلا مجال للمقارنة ولاجدوى من المنع، بل يقف الآباء احياناً عاجزين عن صدّ التيارات العاتية التي جاءت بدعوى التغيير والخروج على التقاليد القديمة، او كونها من مستلزمات العصر ومتطلبات المرحلة، منها محو أمية الحاسوب، والالعاب والانترنت وعوالمه الشاسعة، وشاشات التلفاز التي تغمرك بسيل من الافكار والاقوال لا هوادة فيها، ولا رد عندنا كاشخاص كبار، فكيف بالابناء الغضة الطرية افكارهم، التي من الممكن تلوثها عبر كل قول وتصرف خاصة مع الادمان والاعتياد القاتل، خاصة مع انشغال الوالدين بأعمالهم وترك الاولاد فريسة سهلة تحت انياب وبراثن الغزو اللاخلاقي المنحرف الموجه عن بعد.وهذا يدعونا للتمعّن في هذه الرواية العظيمة المنقولة عن أمير المؤمنين، عليه السلام، والتي طالما يلهج بها الجميع، ربما منهم؛ من هو ليس بملمّ بأسس وطرق التربية الحديثة، يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام: «لا تربوا أبناءكم كما رباكم آباؤكم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم».
والمشكلة في عدم وجود التفهّم لدى الآباء إزاء ابنائهم، فإن وجد أحدهم رافضاً لفكرة او طلب معين، وجدنا هدراً بصوته، وانهال عليه بإلصاق تهم ربما لا تليق به، مثل؛ أنك عاق، ولا تفهم، لا تعي مصلحتك، وغيرها من الاحكام القاسية، والالفاظ التي تفقد الأبناء هيبتهم وثقتهم بأنفسهم، وهم يرومون الاعتداد بطاقاتهم ومواهبهم أمام أقرانهم.
فاين التفهم والتقبّل والمرونة بالتربية؟
لذا أصبح من الضروري بمكان ردم الهوة النفسية والفكرية بين الجيلين بأنفسنا وعلى مستوى عقولنا، ومحاكاة مشاعرهم، والتكلم معهم وفق مستوى عقولهم.
فمن المهم جداً أن تكون قناعاتنا غير متحجرة ومتقولبة بقالب واحد، بل متحركة مرنة، ومشعّة بالحب والتفهّم لانفسنا وابنائنا، ومنسجمة مع تطورات العصر، وبما هو نافع.
عن النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله وسلم: «من كان عنده صبي فليتصاب له».
والسعي والعمل بكل ذلك من وراء قناعة نعيش بها سعداء بعوالمهم، وبالتجدد واعادة التجربة بهم ولهم ومعهم، فنحن الملاذ لهم إن استطعنا فهمهم والإقبال عليهم بكل حب.
لكن ليس معنى ذلك أن نبقى مكتوفي الايدي سابري العبرة، بل يبقى المجتمع معوّلا على الابوين وإسلوبهم الاجمل والاكثر جذبا كونهم الاكثر حباً لابنائهم، بزرع الجذور المتينة للدين القويم بنفوس الابناء ومنذ الصغر من قبيل: «الله – تعالى- يحبك ويريد أن يدخلك الجنة»، وتدرجاً بالنصح واللين والمصادقة والمحاورة وضرب الامثلة الواقعية والربط بالنموذج الطيب.
-
وقفة ٌ مع الشباب
وصولا لمرحلة الشباب التي تتسم بالصفاء والخلو من كل ما يشوبها ويشغلها، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام، في وصيته لولده الحسن، عليه السلام: «وَإِنَّمَا قَلْبُ اَلْحَدَثِ كَالأَرْضِ اَلْخَالِيَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ قَبِلَتْهُ، فَبَادَرْتُكَ بِالأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُوَ قَلْبُكَ، وَيَشْتَغِلَ لُبُّكَ»، وجاء في حديث آخر له، عليه السلام: «تعلموا العلم صغاراً تسودوا به كبارا».
وورد عن الإمام موسى بن جعفر، عليه السلام، عن آبائه، عليهم السلام قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: «مَنْ تعلَّم فِي شَبَابِهِ كان بِمَنْزِلَةِ الرَّسْمِ فِي الْحَجَر، وَمَنْ تعلَّم وَهُوَ كَبِيرٌ كان بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ عَلى وَجْهِ الْمَاءِ»
ومن هنا يكون الفيصل الحق، فالبذور يتم بذرها منذ الطفولة ويتعهدها الابوان بالسقي والمتابعة وقلع الاعشاب الضارة المتمثلة بالاصدقاء والافكار السيئة التي تمتص فكر الشاب وتميت وعيه.
-
مرحلة القطاف
الهدف والنتيجة هي تلك المحصلة النهائية التي يحلم بها كل زارع وبنّاء وعامل مجد، بأن يحصل على قطافه مباركاً جنيّاً ثمراً طيبا نقيا يحمل ما يحمل من النفع للمجتمع وعدم ضياع الجهد والوقت.
إن مرحلة القطاف التي تحوي ما تحويه من لذة السعادة بالذرية الصالحة، وكونهم افرادا نافعين يحققون الاتزان في جسد الامة الاسلامية، في مواقفهم وافكارهم ضد الاعداء، تمثل حصاداً للثمرة الاخيرة كونهم الامتداد الطيب متمثلا بقول الحبيب الهادي، رسول الله، صلى الله عليه واله: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.