فتح الله تبارك وتعالى للناس باب المعارف، ثم فتح لهم من هذا الباب ألف باب، إلا أن الناس أبوا أن يلجوا هذا الباب، و أرادوا أن يأخذوا العلم من غير المدينة التي جعل الله العلم فيها، فاختلط عليهم الحابل بالنابل، و اضطربوا في ما ينفع وما يضر أشد اضطراب.
ربنا -سبحانه وتعالى- جعل العلم في قلب النبي الأكرم محمد، صلى الله عليه وآله، ثم جعل الباب لهذه المدينة، أمير المؤمنين، عليه السلام، و ولده من بعده، و أمر الناس أن يلجوا المدينة منها، فقال، صلى الله عليه وآله: “أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها”.
وفي مقابل هذا الأمر النبوي، ولمواجهة هذا المنهج الإلهي، عمد البعض إلى رفع شعار: “حسبنا كتاب الله”، فنهوا عن تدوين حديث رسول الله، صلى الله عليه وآله، حتى “الأول” الذي احتج في غصب فدك بحديث رسول الله، قال كما ينقل الذهبي في تاريخه: “لا تحدثوا عن رسول الله شيء فإن سألوا فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله”، و “الثاني” صاحب رزية الخميس كان يقول: “اقلوا الرواية عن رسول الله وأنا شريككم”.
والهدف من كل ذلك كان أخذ الفكر والثقافة والدين بعيداً عن الطريق الذي أمر الله؛ وهم أهل البيت، عليهم السلام، ومن هنا نشأ في الأمة التحدي الفكري والثقافي الداخلي لمواجهة التخبط الكبير الذي وقعت الأمة فيه في مختلف العلوم.
وكلما كانت البلاد الإسلامية تتوسع، كلما زادت الهوة وبان الخلل في هذا التوجه، فإن الحاجة من جهة، والشبهات والفرق المنحرفة من جهة اخرى كانت تكشف يوماً بعد يوم الحاجة إلى ذلك الماء المعين.
ومن جهة أخرى كانت الأمة تعيش تحدياً فكرياً وثقافيا يتمثل في أصحاب الديانات الأخرى، فقد توسعت الفتوحات من دون تخطيط، وتسربت ثقافات جديدة من اليونان من جهة، ومن الهند القديمة من جهة أخرى، لتعصف بالأمة موجة جديدة من التشكيكات والشبهات والفرق المنحرفة.
في هذا المنعطف التاريخي المهم، تولى الإمام الباقر، عليه السلام، الذي ولد في العام 57 للهجرة، وشهد كربلاء ومآسيها، والسبي، وما جرى بعده، ثم تولى إمامة الأمة، ليكون السد المنيع أمام كل هذه التحديات الفكرية والثقافية، في وقت كانت الحكومات غير مؤهلة لمواجهة هذا التحدي، إن لم تكن متواطئة، كما نجد في مثل يوحنا المسيحي الذي كتب كتاباً في الرد على المسلمين، وكان مقرباً من البلاط الأموي.
-
المواجهة الثقافية هي الأخطر
قد يتصور البعض أن أسوء كارثة تقع في بلد ما هو أن يقع فريسة بلد آخر، وأن يقع تحت الاحتلال العسكري، ولا ريب {أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة}، واستعبدوا الناس واهلكوا الحرث والنسل.
إلا أن ذلك ليس بالخطر الأعظم، فإن الحضارات الفاتحة ربما تنهار أمام الحضارة المنهزمة إذا ما ضعفت في مواجهتها ثقافياً، فحضارة المغول انتهت عند مواجهة الحضارة الإسلامية ثقافياً، وإن كانت قد نجحت في إخضاعها عسكرياً.
إذن؛ فالمواجهة الأخطر هي المواجهة الثقافية، لذا فان الهزيمة الثقافية يسلب الأمة هويتها وشخصيتها، وإذا فقدت هويتها فهي تفقد كيانها، حتى ينتهي هذا الإنهزام إلى أن تصبح هذه الحضارة تابعة لتلك الحضارة فتكون مستعبدة من الداخل، وهذا يعد أخطر مآل.
الضغط الخارجي مهما كان شديداً فإنه سينتهي يوماً وهذه سنة إلهية، يقول تعالى: {وَ لا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُون فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ}، ويقول تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ}.
يمكن للأمة أن تقاوم الضغط الخارجي حتى تنتصر عليه يوماً، لكنها لو انهزمت فكريا وثقافياً فإن نجاتها صعب جداً، وهذا ما نواجهه اليوم، وكما يعبر عنه بعض المفكرين؛ “المرحلة الثانية من الإستعمار”.
حين تفرض علينا القوانين والأنظمة، فيعلموننا كيف نتعلم وماذا نتعلم، بل ويضعوا برنامجاً، حتى لكيفية التربية الجنسية للأطفال، ويفرض ذلك علينا بالقهر تارة، وبالإغراء أخرى، فإن ذلك كله يقع في إطار هذه الحرب الثقافية الشعواء التي تصحبها إمكانات حضارة لم يسبق أن تقوم حضارة بهذه الإمكانات الإقتصادية والعسكرية يوماً ما.
-
كيف واجه الإمام الباقر، عليه السلام، هذه التحديات
المشكلة في التحدي الثقافي أنه لا يمكن مواجهة بالتعتيم الاعلامي، أو بناء جدار فاصل، او اجراءات مماثلة، فإن الكثير قد جربوا ذلك و فشلوا، والاتحاد السوفيتي السابق، ومعه ما يسمى بالمعسكر الشرقي خير مثال على ذلك، لان الفكر مثل الماء، إذا حاط بالبيت، لابد أن يجد لنفسه منفذا يدخل منه يوماً ما.
كما أن التعبئة الجماهرية، وإطلاق الشعارات الرنانة، وإقامة الشعائر المختلفة وحدها لا تكفي، فهذه كلها ربما تخلق فورة عاطفية لكنها ستبرد، وما أن ينتهي الضجيج يعود السجال الفكري مرة أخرى.
فما هو الطريق إذن للمواجهة في هذه الحرب؟
إن طريق مواجهة التحدي الثقافي هو تقديم البديل الأفضل، وهذا ما قام به الإمام الباقر، عليه السلام، في مواجهة كل ما تقدم من التحديات الداخلية والخارجية.
-
الإمام الباقر في مواجهة التحديات الثقافية
بيان دور الإمام في هذا المجال يستلزم فتح الكثير من النوافذ، إلا أن في الإشارة كفاية، فإنا نشير إلى ثلاثة خطوات قام بها الإمام عليه السلام:
الخطوة الأولى: تربية الفقهاء والعلماء
ربى الإمام الباقر، عليه السلام، 462 عالم، على رواية الشيخ الطوسي، و482 على إحصاء علماء ومؤؤخين، وما يناهز 500 عالم كما يرى ذلك الشيخ باقر شريف القرشي، وبعض هؤلاء من الأعاظم، كمحمد بن مسلم، و أبان بن تغلب، والإمام عليه السلام، أمر الإمام الصادق، عليه السلام، بأن يتكفل كل نفقة هؤلاء ليتفرغوا لهذه العلوم.
الخطوة الثانية: صناعة البديل
محمد بن مسلم وحده أخذ من الإمام الباقر، عليه السلام، ثلاثين ألف رواية، وبعض هذه الروايات حقيقة كنوز علمية وثقافية لم تكتشف بعد، وإن كان الكثير منها لم يصلنا، جابر بن يزيد الجعفي روى عن الامام الباقر، سبعين الف حديث، لكن يضطر الى ان يتظاهر بالجنون.
الخطوة الثالثة: الحوار
وقد تمثل ذلك بصورتين؛ مباشرة وغير مباشرة من خلال أصحابه وتلامذته، لكن هنا نشير إلى حادثتين لبيان كيفية مواجهة الإمام، عليه السلام، لهذه التحديات.
-
الحوار مع النصارى
هشام بن عبد الملك، أخرج الإمام ابو جعفر الباقر، عليه السلام، من المدينة إلى الشام، وكان الإمام يقعد مع الناس فيسألونه، فبينا هو كذلك إذ نظر جمعاً من النصارى يدخلون في جبل، وكان في الجبل عالم لهم يخرج في كل سنة في هذا اليوم، فيسألونه عما يريدون، وعما يكون في عامهم، وهو أعلم الناس، وقد أدرك الحواريين من أصحاب نبي الله عيسى، عليه السلام.
فقنّع الإمام، عليه السلام، رأسه بثوبه، ومضى واختلط بالناس، ثم جلس وسط النصارى، فأخرجوا بساطاً ثم وضعوا الوسائد، ثم أخرجوا العالم و ربطوا حاجبيه، فقلب عينيه كأنهما عينا أفعى.
ثم قصد الإمام، عليه السلام، وقال: يا شيخ! أ منا أنت أم من الأمة المرحومة؟!
فقال، عليه السلام: “بَلْ مِنَ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ”.
فقال الرجل: أ فمن علمائهم أنت أم من جهالهم، فقال، عليه السلام: “لَسْتُ مِنْ جُهَّالِهِمْ”.
فقال النصراني: أسألك أم تسألني؟
فقال، عليه السلام: “سَلْنِي”.
ثم قال: يا عبد الله أخبرني عن ساعة، ما هي من الليل، وما من النهار أي ساعة هي؟
فقال، عليه السلام: “مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ”، فقال الرجل، فإذا لم تكن من ساعات الليل ولا النهار، فمن أي الساعات هي؟ فقال، عليه السلام: “مِنْ سَاعَاتِ الْجَنَّةِ وَ فِيهَا تُفِيقُ مَرْضَانَا”.
قال النصراني: أخبرني عن أهل الجنة كيف صاروا يأكلون ولا يتغوطون؟ أعطني مثلهم في الدنيا؟
فقال، عليه السلام: “هَذَا الْجَنِينُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُ أُمُّهُ وَ لَا يَتَغَوَّطُ”.
فقال الرجل: ألم تقل ما أنا من علمائهم! فقال، عليه السلام: “إِنَّمَا قُلْتُ لَكَ مَا أَنَا مِنْ جُهَّالِهِمْ”.
فقال النصراني: يا معاشر النصارى والله لأسألنه عن مسألة يرتطم فيها كما يرتطم الحمار في الوحل، أخبرني عن رجل دنا من إمرأته فحملت بإثنين حملتهما جميعاً في ساعة واحدة وولدتهما في ساعة واحدة وماتا في ساعة واحدة ودفنا في قبر واحد، عاشأحدهما خمسين ومائة سنة وعاش الآخر خمسين سنة من هما؟
فقال، عليه السلام: “عُزَيْرٌ وَ عَزْرَةُ كَانَا حَمَلَتْ أُمُّهُمَا بِهِمَا عَلَى مَا وَصَفْتَ وَ وَضَعَتْهُمَا عَلَى مَا وَصَفْتَ وَ عَاشَ عُزَيْرٌ وَ عَزْرَةُ كَذَا وَ كَذَا سَنَةً ثُمَّ أَمَاتَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى عُزَيْراً مِائَةَ سَنَةٍ ثُمَّ بُعِثَ وَ عَاشَ مَعَ عَزْرَةَ هَذِهِ الْخَمْسِينَ سَنَةً وَ مَاتَا كِلَاهُمَا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ”.
فقال النصراني: يا معشر النصارى ما رأيت بعيني قط أعلم من هذا الرجل، لا تسألوني عن حرف و وهذا بالشام ثم ردوه إلى كهفه.
-
الحوار مع الخوارج
عبد الله بن نافع الأزرق، وكان يعد من علماء الخوارج، كان يقول لو أني علمت أن بين قطريها أحدا تبلغني إليه المطايا يخصمني أن علياً قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم لرحلت اليه.
فقالوا له حتى لو كان في ولده؟ فقال: أفي ولده عالم؟ فقالوا له: هذا أول جهلك.
الحديث المروي في التاريخ طويل، حتى جاء الرجل إلى الإمام، عليه السلام، وكان الإمام قد بعث إلى جميع أبناء المهاجرين والأنصار، ثم حمد الإمام الله، وأثنى عليه وطلب من الحاضرين أن يذكر كل واحد منهم منقبة في علي، عليه السلام، فسرد الناس مناقب علي، فقال عبد الله بن نافع: أنا أورى لهذه المناقب من هؤلاء وإنما أحدث عليٌ الكفر بعد تحكيمه الحكمين.
قال له الإمام، عليه السلام: “ما تقول في قول رسول ص في علي يوم خيبر، لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَداً رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ كَرَّاراً غَيْرَ فَرَّارٍ..”؟
قال الرجل: هو حق لكن احدث الكفر.
فقال له، عليه السلام: “ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ أَخْبِرْنِي عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ أَحَبَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ أَحَبَّهُ وَ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْتُلُ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ؟ إِنْ قُلْتَ لَا كَفَرْتَ”.
قال: قد علم، فقال عليه السلام: “فَأَحَبَّهُ اللَّهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِطَاعَتِهِ أَوْ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِمَعْصِيَتِهِ؟”.
فقال: على أن يعمل بطاعته، فقال، عليه السلا: “فَقُمْ مَخْصُوماً”.
ثم بين له الإمام، أن الله تعالى أمر بالتحكيم في الكتاب، وعمل بها النبي في بني قريظة، وأن علي حكّم القرآن ولم يُحكّم الرجال!
فقام وهو يقول: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ}.