“فقد هربت إليك، و وقفت بين يديك، مُسْتَكيناً لَكَ، مُتَضرِّعاً اِلَيْكَ راجِياً لِما لَدَيْكَ ثَوابي”.
عن حمزة بن حمران عن الإمام الصادق، عليه السلام، قال: “لما أن كانت ليلة النصف من شعبان ظنّت عائشة أن رسول الله، صلى الله عليه وآله، قام إلى بعض نسائه فدخلها من الغيرة ما لم تصبر حتى قامت و تلففت بشملة لها، فقامت تطلب رسول الله في حُجَر نسائه؛ حجرةً حجرة، فبينما هي كذلك إذا نظرت إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله، ساجداً كالثوب الباسط على وجه الأرض فدنت منه قريباً فسمعته و هو يقول: “سجد لك سوادي و جناني و آمن بك فؤادي و هذه يداي و ما جنيت بهما على نفسي يا عظيم يرجى لكل عظيم اغفر لي الذنب العظيم فإنه لا يغفر الذنب العظيم إلا العظيم”. ثم رفع رأسه ثم عاد ساجدا فسمعته و هو يقول: “أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له السماوات و الأرضون و تكشفت له الظلمات و صلح عليه أمر الأولين و الآخرين من فجأة نقمتك و من تحويل عافيتك و من زوال نعمتك اللهم ارزقني قلبا تقيا نقيا من الشرك بريئا لا كافرا و لا شقيا”، ثم وضع خدّه على التراب و يقول: “أعفر وجهي في التراب و حق لي أن أسجد لك”، فلما همّ بالانصراف هرولت المرأة إلى فراشها فأتى رسول الله، صلى الله عليه وآله، فراشها و إذا لها نفسٌ عال فقال لها رسول الله، صلى الله عليه وآله، ما هذا النفس العال؟ أ ما تعلمين أي ليلة هذه؟! إن هذه الليلة ليلة النصف من شعبان فيها يُكتب آجال، و فيها تقسم أرزاق، و إن الله -عزّ و جلّ- ليغفر في هذه الليلة من خلقه أكثر من عدد شعر معزى بني كلب، و ينزل الله -عزّ و جلّ- ملائكته إلى السماء الدنيا و إلى الأرض بمكة”.
فهذا رسول الله، صلى الله عليه وآله، وهو أعظم خلق الله -تبارك وتعالى- لا يرى لنفسه إلا التضرّع والاستكانة لله -جل وعلا-.
ومن الملاحظ تكرار ذكر “المِسْكين” و “المَساكين” و “المَسْكَنة” و “التَّمَسْكُنِ”، في الروايات المباركة و كلها يَدُورُ معناها على الخضوع و الذِّلَّة والحال السيئة، وقد فسّر أهل اللغة كلمة اسْتَكانَ أي؛ إذا خضع. و المَسْكَنة: فَقْرُ النفس. و تَمَسْكَنَ، إذا تَشَبَّه بالمساكين، وقد تقع المَسْكَنة على الضَّعف.
أما التضرّع فهو من التذلل أيضا، وقد يكون التضرّع مرحلة أعلى من الاستكانة بأن يصل الإنسان إلى مرحلة الخشوع، ومن هنا قيل التضرّع إلى الله هو التشخّص، وإن كانت اللفظة فيها مداليل مختلفة فهي تحتوي على مفردات؛ الخضوع، التذلل، المبالغة في السؤال، الرغبة، الابتهال، وهذه كلها هي ما يحتاجه الإنسان للوصول الى الخشوع بالتأكيد.
وقد جاءت مشتقات لفظة “ضرع” في ستة مواضع في القرآن الكريم، فقد بينت الآيات المباركة أن الدعاء يجب أن يكون بالتضرّع فقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}، وذكرُ الرب تضرعاً، يعالج مشكلة الغفلة عند البشر، ولذلك يأمرنا الله تعالى بذلك قائلا: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ}، فقد يغفل الإنسان عن ذلك فيرسل الرب البلاء لكي لا ينسى ربه، يقول تعالى: {فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}، فإذا جاء البلاء يعلم المؤمنون حقاً أن خلاصهم لا يكون إلا بالتضرّع الى الله سبحانه وتعالى، بل تأتي الآية المباركة في سورة الأنعام لنتسائل، هل من أحد يستطيع أن ينجيكم من البلاء غير الله تعالى؟ {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}، إلا أن الكثير وللأسف الشديد يقع في شرك الشيطان حينما يرفع الله –تعالى- عنه البلاء بتضرعه الى الله تعالى، والى هذه الحقيقة يشير ربنا سبحانه وتعالى بقوله: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وآخرون قد طبع الله على قلوبهم، فلم يستيقظ الضمير في دواخلهم عند نزول البلاء، وهم من يشير اليهم ربنا سبحانه وتعالى بقوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}.
أما الأحاديث المباركة عن الأئمة الأطهار، عليهم السلام، ففيها المزيد من التوضيح للتضرع، فهم المفسرون لآيات الذكر الحكيم، ألم يقل رسول الله، صلى الله عليه وآله، أنهم عَدلُ القرآن الكريم، في حديث الثقلين؟
يقول الإمام الصادق، عليه السلام، في حديث: “.. وَ التضرّع تُشِيرُ بِإِصْبَعَيْكَ وَ تُحَرِّكُهُمَا وَ الِابْتِهَالُ رَفْعُ الْيَدَيْنِ وَ تَمُدُّهُمَا وَ ذَلِكَ عِنْدَ الدَّمْعَةِ ثُمَّ ادْعُ”.
و عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليهما السلام، قال: “قال رسول الله، صلى الله عليه وآله، لنا: “دُعَاءُ الرَّغْبَةِ هَكَذَا وَ بَسَطَ يَدَيْهِ وَ دُعَاءُ الرَّهْبَةِ هَكَذَا وَ قَلَبَ يَدَيْهِ وَ دُعَاءُ التضرّع هَكَذَا وَ قَالَ بَسَطَهَا وَ قَلَبَهَا وَ دُعَاءُ الِاسْتِكَانَةِ هَكَذَا وَ قَبَضَ يَدَيْهِ إِلَى مَنْكِبِهِ وَ قَالَ، صلى الله عليه وآله، لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الْخَلَاءِ”.
و عن الإمام الباقر ، عليه السلام، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ: {فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ} قال: “الِاسْتِكَانَةُ هُوَ الْخُضُوعُ وَ التضرّع هُوَ رَفْعُ الْيَدَيْنِ وَ التضرّع بِهِمَا”.
يبدو ـ والله العالم ـ أن التضرّع مرحلة متأخرة عن الاستكانة؛ فكأن الاستكانة حالة نفسية تحدث عند الإنسان وتحسسه بالتذلل، و لكن التضرّع؛ هي حالة الخشوع التي تحدث عند الإنسان حينما يظهر الاستكانة على نفسه، فتبدو حالة الانكسار في وجهه، و يرفع يديه ليظهر هذه المسكنة و الحاجة في نفسه.
وقد سبق وان تحدثنا عن شروط الدعاء، و قد نتحدث عنها في فقرات أخرى من المناجاة ايضاً، وهذا المقطع يشير الى جوانب من ذلك أيضاً، فإذا أراد المرء ان يستجيب الرب لدعائه، ينبغي عليه أن يصل الى مرحلة الخشوع و التضرّع، وما يحول دون ذلك هو الانشغال بهذه الدنيا الدنيّة وزخرفها وزبرجها، والانشغال بالناس عن الله تعالى، فمن الصعب على الإنسان ان يراجع أعماله و أن يعترف بذنبه، ولذلك؛ قالوا: الاعتراف بالذنب فضيلة.
لنقرأ صفحات السيرة للمعصومين، عليهم السلام، فهل نجد منهم أمام الرب غير التضرّع؟ فنقرأ في صفة النبي، صلى الله عليه وآله، مثلاً: “أنه كان كثير الضراعة والإبتهال إلى الله تعالى”، وهذا الإمام زين العابدين عليه السلام، في صحيفته السجّادية يقول: “ولا ينجيني منك إلا التضرّع إليك”.
-
“راجِياً لِما لَدَيْكَ ثَوابي”
ثم بعد أن ينكسر المرء في جوانحه، و يظهر ذلك جلياً في جوارحه، تنفتح نافذة قلبه لكي يكون من الراجين، و الرجاء مرتبة عالية يصلها الإنسان، فهي ليست مجرد الطلب، فقد يدعو المرء ربه ولكنه لا يسمى عندها راجياً.
بل يجب أن يكون عارفاً بما ومن يرجو؟ و يتجلى ذلك فيه؛ فحجاب الله مرفوعٌ لراجيه، كما يقول الإمام السجاد، عليه السلام، فالله –تعالى- كهفنا حين تعيينا المذاهب، وهو رجاءؤنا عندما تحيطنا النوائب، وحين يبلغ الإنسان مرتبة الرجاء، فهو قد بلغ مبلغاً من الإيمان، بل رجاء الله دون غيره علامة من علامات الإيمان.
وهنا يتحدث الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، عن الرجاء لما عند الله سبحانه وتعالى.
لا أعلم حقاً، ماذا يريد الإمام في هذه المقطوعة بالضبط؟!
فهل الثواب هو من عند الله؟ أو من فعل الإنسان حتى ينسب اليه؟ وهل الثواب لدى الله؟
ولعل الإمام ـ على ما يبلغه فهمي القاصر ـ يريد بيان حقائق شتى في هذا المقام، فإما أن ثوابي يكون بمعنى إثابتي، أي أنا هربت اليك يا رب، و وقفت بين يديك برجاء أن تثيبني، ولكن هذا المعنى لا يتلاءم مع كلمة “لما لديك”.
ولا بأس أن نطيل قليلاً هنا لنقول: إن الثواب في الأصل هو الجزاء الذي يرجع إلى العامل بعمله وإن كان في العرف اختصّ بالنعيم على الأعمال الصالحة، فهو في الغالب يستعمل بمعنى جَزاء الطاعةِ، وكذلك المَثُوبة؛ إلا أنه استعمل في القرآن الكريم بالعقوبة أيضاً، فقال تعالى: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}.
وبهذا المعنى يصح أن ينسب الثواب الى الإنسان نفسه، فيقول: “ثوابي”، فهو جزاء فعل الإنسان نفسه، ألم يقل ربنا سبحانه: [إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها]؟
وبذلك يمكن أن يريد الإمام في هذا المقطع أن يقول: راجياً فيما لديك من جزائي، إن كان خيراً فأن تثيبني به وإن كان شراً أنا أرجوك فيه أن لا تحاسبني لتضرعي لديك وهروبي اليك.
“يا مَنْ كُلُّ هارِب إلَيْهِ يَلْتَجِئُ، وَكُلُّ طالِب إيَّاهُ يَرْتَجِي، يا خَيْرَ مَرْجُوٍّ، وَيا أَكْرَمَ مَدْعُوٍّ، وَيا مَنْ لا يُرَدُّ سآئِلُهُ، وَلا يُخَيَّبُ آمِلُهُ، يا مَنْ بابُهُ مَفْتُوحٌ لِدَاعِيهِ، وَحِجابُهُ مَرْفُوعٌ لِراجِيهِ صل على محمد وآل محمد واغفر ذنبي وزك عملي”.