يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “ولا حَسَبَ كحُسنِ الخُلق، ولا ورع كالكف عن محارم الله، ولا عبادة كالتفكر في صنعة الله عز وجل”.
في هذه الكلمات يبيّن الإمام علي، عليه السلام، حقائق هامة التي من خلالها يتكامل تفكير الانسان، بل تتشكّل شخصيته، لأن هناك مفاهيم خاطئة تؤدّي بالانسان الى مواقف، وقرارات، وتعاملات خاطئة.
يَتصور الإنسان تارةً أن مكانته من خلال عشيرته، ونسبه، أو انه ابنُ فلان..، وغيرها من المسمّيات، وبهذا تنعدم العدالة بين الناس، ـ فعلى سبيل المثال ـ قد يوجد شخص أكفأ يمكنه تبوء منصب معين، ولكن لأنه من العائلة الفلانية التي لم يختارها، فيُبعد عن مكانه المناسب، ويؤتى بشخص آخر، لأنه من عشيرة فلان الفلاني!
“ولا حَسَبَ كحُسنِ الخُلُق”، فالمكان الذي يجب أن يُوضع فيه الإنسان ليس لإنتسابه العشائري، أو العائلي، وإنما باعتبار خُلقه وتواضعه، وعطفه، وتسامحه..، وأيضا ـ باعتبار ـ نشاطه، وسعيه، وعمله.
البعض منا قد يدقّق في الطهارة والنجاسة في إطاره الشخصي، لكن في ذات الحال لا يدعُ مؤمنا إلا يغتابه ويرميه بسهام البهتان لستقيط شخصيته، او يتعدى الأمر الى ارتكاب محرمات أكبر من ذلك، وهذا هو التفكير الخاطئ، الذي يجعل من البعض يقدم على المحرمات
في المقابل تجد سيّء الخلق؛ خشن التعامل، ومتكبّر، ومغرور، وغيرها من الصفات الذميمة، التي تجعل مقام صاحبها قياسا لما يحمله من اخلاقيات سيّئة.
فأي إنسان يبحث عن المقام والإحترام، ويسعى الى تحسين خُلقه، فإن ذلك يكون عبر “حُسن الخُلق”، وهذا بحد ذاته باعثاً لنشر الأخلاق الحسنة والفضيلة في أوساط المجتمع، ولذلك لو تسابق الناسُ على تحسين الأخلاق، لقتُلعت الرذيلة من المجتمع.
- القشريّة مرض التفكّر
“ولا ورعَ كالكفِ عن محارم الله”، والورع هو: الترك. تجد بعض الناس يترك الأمور الحسنة؛ كصلاة الجماعة، وصحبة المؤمنين، بل يتعدى الأمر عند البعض الى ترك الصلاة! هذا نوع من الناس.
وهناك نوع آخر؛ يتركون أموراً مكروهة، لكنهم يرتكبون المحرمات، فقد تجد شخصين يتلاومان على شيء بسيط ويرتكبان أكبر منه! فالخوارج مرّوا على امرأة حامل، ولأن زوجها من محبي الإمام علي، عليه السلام، بقروا بطنها، وقتلوا جنينها.
بعدها مروا على بستان، فأخذ أحدهم تمرة من الأرض كانت قد سقطت من نخلة، لكن سرعان ما انتقده البقيّة، وقالوا: حرام! لكنّهم لم يراعوا حق الطريق، فقتلوا المرأة، بعدها أخذوا يتجادلون على تمرة سقطت أكلها أحدهم!
كذلك البعض منّا قد يدقّق في الطهارة والنجاسة في إطاره الشخصي، لكن في ذات الحال لا يدعُ مؤمنا إلا ويغتابه ويرميه بسهام البهتان لستقيط شخصيته، أو يتعدى الأمر الى ارتكاب محرمات أكبر من ذلك، وهذا هو التفكير الخاطئ، الذي يجعل من البعض يقدم على المحرمات، ويناقش في المكروهات: هل شربتَ الماء واقفا أم جالسا؟ هل لبست خاتما ام لا؟ وغيرها من الامور السطحيّة والقشريّة. لذلك فالورع الحقيقي هوالكف عن محارم الله.
في خطبة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، في استقبال شهر رمضان، سأل الإمام علي، عليه السلام، رسولَ الله، سؤالا عميقا في معناه بألفاظ بسيطة، ما هو أفضل الأعمال؟
فقال رسول الله: الورعُ عن محارم الله.
قد يقدّم البعض خدمات للناس ـ وهذا شيء جيد ـ لكن الأفضل من ذلك هو ترك المحرمات.
“ولا عبادةَ كالتفكرِ في صنعةِ الله عز وجل”، فالعبادة لا تقتصر على الصلاة والصيام وغيرها من الاعمال العباديّة، فأفضل العبادة ” التفكر في صنعة الله”، لأن اصل الصلاة اصلها التفكر في أمر الله، والصيام غايته حجب الهوى حتى يستطيع الإنسان ان يتفكر في أمر الله. وكذلك الحج والعمرة، فهما عبارة عن قيامةٍ صغرى، ويدعوان الى التفكر في صنعة، وكذا الأمر في بقيّة العبادات.
في تفسير قوله ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}، “إلا ليعلمون”، وهذا يعني العلم والمعرفة بالله ، وهذه هي أفضل عبادة، فقد يَختم بعضهم جزءاً من القرآن الكريم، او حتى القرآن كله، لكن من دون تفكّر، لذلك “لاخير في عبادة لا تفكّر فيها”.
وقد يقرأ احدهم آية واحدة بتفكر، تكون افضل من ختم القرآن كله، فالمطلوب هو التفكير في أمر الله، لذلك العلماء والمراجع في مناسبات كثيرة، بل في ليلة القدر ـ وهي ليلة العبادة ـ يركزون على العلم. “فأفضل الاعمال فيها طلب العلم” والعلم هو التفكّر.
والسور التي نقرأها في ليلة القدر ـ كالعنكبوت والروم والدخان ـ تدعونا الى التفكّر في أمر الله وصنعته، فقد تضمنت آيات من قبيل: {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، و {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. حتى أدعية ليلة القدر تدل على عظمة الله وصنعه.
لذلك المتقون هم العبّاد، وقد بلغوا أن تنكشف لهم الأمور أمام البصيرة، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام، في خطبة المتقين: “فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون، وهم النار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون”.
- الطريق الى التفكّر السليم
نزلت هذه الآية في حق النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، والإمام علي، عليه السلام، وعلى من يسير في نهجهما يقول الله ـ تعالى ـ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
كان رسول الله يستيقظ في منتصف الليل، ويتأمل في خلق الله وصنعه، ثم ينام، ويستيقظ أخرى، فكان ينظر الى القدرة والرحمة الربانية، في ذلك الليل البهيم.
يَتصور الإنسان تارةً أن مكانته من خلال عشيرته، ونسبه، أو انه ابنُ فلان..، وغيرها من المسميات، وبهذا تنعدم العدالة بين الناس، ـ فعلى سبيل المثال ـ قد يوجد شخص أكفأ لتبؤ منصب معين، ولكن لأنه من العائلة الفلانية التي لم يختارها، فيُبعد عن مكانه المناسب، ويؤتى بشخص آخر، لأنه من عشيرة فلان!
جاء في رواية عن أحد المعصومين: “تفكّر ساعة خير من عبادة سبعين سنة”، فقد يتعبد احدهم سبعين سنة، عبادةً عادية لا أثر لها، ويأتي آخر يتفكر ساعة واحدة تخرجه من الضلال الى الهدى، ومن النار والجحيم الى الدرجات العُلى في الجنّة، فالحر بن يزيد الرياجي تفكّر للحظات وارتقى الى عليّين، وكان مصيره قبل تلك اللحظات نار جهنم، لكنه فكّر مَن سيقاتل، وماذا سيكون مصيره؛ بعدها انتقل من جبهة الضلال، الى جبهة الهدى والإيمان، واستشهد بين يدي الإمام الحسين، عليه السلام، واصبح مصيره الى جنان الخُلد.
فحين يتفكر الإنسان ساعة، يعرف العظمة الالهية، وهذه المعرفة تمنعه من ارتكاب المحرمات، أو لا أقل يُعصم عن ارتكاب بعضها، فهل هذه افضل، أم عبادة السبعين سنة؟
ـ وعلى سبيل المثال ـ هناك بعض من يشرب الخمر، يعتدي على الحرمات والأعراض، لكنه خلال ساعة فكّر وترك عمله القبيح، فهل هو أفضل من ذلك الذي يعبد سبعين سنة، ويرتكب المحرمات؟
إن حقيقة النسب، هي الاخلاق، و حقيقية الورع هو ترك المحرمات، وجوهر العبادة هو التفكر في أمر الله، وهذه ثلاثية مهمة، وركيزة اساسية في طريق بناء الشخصية الإيمانية وفق ما يرضي الله ـ تعالى ـ.