إضاءات تدبریة

القرآن الكريم يعلمنا كيفية الاعتدال في الحياة

جاءت امرأة الى رسول الله، صلى الله عليه وآله، يُقال لها “الحولاء” وشكت اليه زوجها عثمان بن مظعون لهجرها وتخليه عن الحياة الطبيعية ولبسه المسوح، ولجوئه الى الكهوف والبراري البعيدة بدعوى العبادة والانقطاع الى الله، وترك الماديات والملذات، وجاء في التاريخ أنه كان مع جماعة قاموا بهذا الفعل لأول مرة في المجتمع الاسلامي الأول، فنادى رسول الله، صلى الله عليه وآله: “ما بال أقوام حرّموا النساء والطعام والنوم، ألا إني أنام وأقوم و أصوم وأنكح، فمن رغب عني فليس منّي”، ثم نزلت الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}. سورة المائدة،87.

هؤلاء النفر من المسلمين، وذاك الشخص الذي قال لأمير المؤمنين، عليه السلام، في أيام توليه الحكم: أريد أن أكون مثلك في زهدك وتخليك عن ملذات الحياة، فنهره الإمام و بين له؛ “أني لست أنت إن الله فرض على ائمة الحق أن يقدروا انفسهم بضعفة الناس حتى لا يتبيغ الفقير بفقره”، و ربما يوجد أمثال هؤلاء حتى اليوم، يمكن عدّهم من سليمي الطوية والنية، فهم يحاولون الرقي بانفسهم للتشبّه أو التأسّي بأولياء الله ـ تعالى- بيد أن هذا المسلك والنمط من التفكير، ربما ينتهي بصاحبه الى حرمانه مما أعطاه الله وأجاز له في الحياة الدنيا، وايضاً حرمانه من السعادة الأبدية في الآخرة بسبب الإفراط والتفريط الذي يقع فيه.

ومن أبرز ما ميّز النظام الاسلامي في الاجتماع والاقتصاد تحديداً؛ مؤشر الاعتدال في كل شيء والتزام حالة التوازن في القول والفعل مهما كان المقصد كبيراً باتجاه الفضيلة والاخلاق، وحتى في طريقة الارتباط بالله ـ تعالى-.

والقرآن الكريم في آيات عديدة، وفي مناسبات مختلفة يؤشر الى هذا المفهوم الحضاري، وينهى عن الإفراط وعن التفريط، ويدعو الى سلوك الاعتدال في كل شيء، تماشياً مع ناموس الطبيعة والفطرة التي فطرة الله الانسان عليها، فكل شيء يسير بشكل منتظم ومعتدل.

ومن أبرز ما ميّز النظام الاسلامي في الاجتماع والاقتصاد تحديداً؛ مؤشر الاعتدال في كل شيء والتزام حالة التوازن في القول والفعل مهما كان المقصد كبيراً باتجاه الفضيلة والاخلاق، وحتى في طريقة الارتباط بالله ـ تعالى-

 ولعل أشعة الشمس الجميلة تكون خير مثال لما نذهب اليه، فالعلم أبلغنا إن ما يصل الينا من هذا الكوكب اللاهب، جزء مخفف ومعتدل الى سطح الارض ليستفيد منه الانسان بشكل مثالي على مدار السنة، فهي مفيدة في الشتاء بدفئها، وفي الصيف ايضاً بإنضاج المحاصيل الزراعية التي يحتاجها الانسان، وايضاً عملية تبخير البحار لتكوين السحب استعداداً للامطار، وبين هذا وذاك لا تلحق أي ضرر بالانسان، إلا ما يسببه الانسان بنفسه من اختلالات في الطبيعة، مثل التصحّر، والانبعاثات الغازية التي يشكو منها عالم اليوم، وتقف اليوم وراء ارتفاع درجات الحرارة في الكوكب، وتغيرات هائلة وخطيرة في البيئة.

  • الاعتدال سعادة الانسان

يدعو القرآن الكريم الى الاعتدال في أهم قيمة أخلاقية في المجتمع، وهي؛ العطاء، وربما لتسليط الضوء على هذا المفهوم ليكون قاعدة للسلوك والعقيدة، فالعطاء والبذل والانفاق لاعمال الخير مما دعى اليه الاسلام في القرآن الكريم، وما جسّده الأئمة المعصومون، عليهم السلام، في حياتهم، مع ذلك نقرأ في سورة الإسراء: {وَلَا تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً}، (سورة الأسراء، 27).

 وهنا يحذرنا القرآن الكريم من مغبة السقوط في التفريط بأن يحرم الانسان نفسه من الطيبات الى درجة الاختناق، كما تصفه الآية الكريمة، كما يحذرنا من الإفراط في العطاء دون حساب الى درجة الإفلاس وما يستتبعه من ملامة الناس والحسرة على ما فرّط مما أعطاه الله، فحسن التصرف لن يأت من دون ميزان الاعتدال.

إنّ فقدان الاعتدال يأتي لنا بنتائج عكسية، فالمجتمع الايماني مرصودٌ له الحياة الكريمة والسعادة المعنوية والمادية في آن، وليس العكس، فالقيم الايجابية التي شرعها الدين وأكد عليها إنما بهدف تحقيق النتائج الايجابية، فقيمة الحرية ـ مثلاً- وقيمة العطاء والانفاق، وقيمة النصيحة، وقيمة التوبة، وغيرها من القيم الدينية السامية التي من شأنها بناء الانسان والمجتمع والامة بأكملها، لن تثمر عما يتوقع منها اذا أخذها الانسان بطرق غير سوية يبتكرها الانسان بنفسه لاسباب مختلفة.

و”الأفضع من ذلك أنه ينسب كل ذلك الى الدين، فيحرم الطيبات عليه وعلى الآخرين، وكلمة الحرام والممنوع لا تسقط عن لسانه، فعليه ـ والحالة هكذا- أن يراجع ويقوّم جملة اعتقاداته الدينية، ثم يوسع الآفاق أمام الناس من خلال قوله تعالى: {قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا}. (سورة الاعراف،32)”. (في رحاب القرآن الكريم- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).

ربما الدافع الى توجه كهذا لدى البعض هو تغليب العواطف والمشاعر على العقل والمنطق الذي يدعو اليه الاسلام بالدرجة الاولى لإقامة العدل والحق في الحياة، فالقيم والمبادئ والمفاهيم تتميز بالثبات، بينما المشاعر الانسانية قابلة للتغيّر والتحوّل في ظروف مختلفة، لذا يؤكد علماؤنا على دور العقل في الاحتكام الصحيح الى تلك القيم والمبادئ، لتجد مصاديقها في الواقع بشكل صحيح ومعتدل يستفيد منها الجميع، ولا تكون سبباً في ضرر بالفرد او المجتمع.

  • الاعتدال مع فرعون!

{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}. (سورة طه، الآية:42-44).

أرسل الله ـ تعالى- عبده الصالح؛ موسى بن عمران، عليه السلام، الى قوم فرعون، والى شخص فرعون بعد أن بلغ مراحل فضيعة من الطغيان وسفك الدماء، والقرآن الكريم ينقل بعض المشاهد من أعمال الابادة الجماعية والتنكيل بالمعارضين والمؤمنين، ومما جاء في الروايات أنه كان يستخدم الزيت المغلي ويلقي فيه المعارضين؛ نساءً ورجالاً نكالاً لرفضهم ربوبيته وكفره بالله ـ تعالى-.

إن فقدان الاعتدال يأتي لنا بنتائج عكسية، فالمجتمع الايماني مرصودٌ له الحياة الكريمة والسعادة المعنوية والمادية في آن، وليس العكس، فالقيم الايجابية التي شرعها الدين وأكد عليها إنما بهدف تحقيق النتائج الايجابية

مع كل هذه القسوة والغلظة والاجرام، جاءت التوصية من السماء لموسى بأن {قُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً}، لماذا؟ ثم كيف بالامكان مواجهة لغة القسوة والدم ـ كالتي كانت عند فرعون- باللين؟!

يعلمنا الاعتدال في التبليغ الى الله ـ تعالى- وفي طريق نشر الفضائل والقيم استناداً الى العقل والحكمة والموعظة الحسنة، ولهذا فائدتين اساس:

الاولى: إلقاء الحجة على الطرف الآخر المخاطب، بأنه ليس مثله، وإنما يحمل صورة أخرى من السماء عليه اتباعها والتخلّي عن الكفر والطغيان، وايضاً عن الإفراط والتفريط في سياسة العباد والبلاد.

والفائدة الثانية، و ربما هي الأهم؛ إعطاء الصورة الناصعة والبديل الحضاري للشعوب والأمم هذا هو القرآن الكريم، هدى للمتقين عبر الاجيال الى يوم القيامة، وليس لبني اسرائيل وحسب، وإنما هو منهج للجميع بأن الدعوة الى الله تنطلق من الحكمة والموعظة الحسنة التي دعا اليها الله ـ تعالى- جميع انبيائه ورسله عبر التاريخ، ولا تنطلق من بواعث نفسية خاصة مشحونه بالعواطف ومشاعر الغضب، او الكراهية، او الحب بين فينة وأخرى، لان القضية تتعلق بمصير شعوب وأمم، وهذا الاختبار العسير الذي سقط فيه قوم موسى، بتفريطهم بالاحكام والشرائع التي جاء بها نبيهم، وخسارتهم تلك النعم العظيمة المذكورة في القرآن الكريم، وليس أقلّها أنه {فضلتكم على العالمين}، وكافأوا كل ذلك بالعناد، والجدال، والتشكيك، واتباع الهوى والرغبات والشهوات.

أما الإفراط فقط سقط فيه قوم عيسى، عليه السلام، بدعوى الرهبانية والتنسّك والابتعاد عن الماديات وملذات الحياة، ولكن هذا لم يوصلهم الى ما يتصورون لأن {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَامَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}. (الحديد 27).

إن المسيرة متواصلة لا تتوقف، فهناك من ينزلق الى طريق الضلال، في مقابل من هو على طريق الرشاد، و لأن البشر متساوون في الفطرة السليمة التي فطر الله ـ تعالى- الخلق عليها، فان لغة الدعوة الى الحق والرشاد والفضيلة يجب ان تداعب هذه الفطرة الجميلة وتثير فيها بواعث الخير، وتحفيز صاحبها الى طريق الرشاد والفضيلة، وهذا ربما يكون الابن في محيط الأسرة، وربما يكون زميلاً في الدراسة، وربما يكون صديقاً في العمل، بل وحتى مسؤولاً في الدولة، فضلاً عما اذا كانت حالة عامة او ظاهرة اجتماعية فالحاجة تكون أشد و أكثر للاعتدال والوسطية في الحديث في طريق التغيير نحو الافضل.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا