أسوة حسنة

السَّيدَةُ زَينَب عليها السلام شَاهِدَةُ كَربَلاءَ وَشَهيدَتُهَا

  • مقدمة وعَبرة

في التاريخ الإنساني قمم شاهقة جداً لا تُطاول، فهي “أفرست” القيم الإنسانية.

من تلك القمم العالية، والشخصيات السامية؛ شخصية عقيلة بني هاشم، الأكارم، ربيبة بيت النبوة والوحي، و رضيعة قيم الرسالة والإيمان، و سيدة البيت الطالبي، بضعة الزهراء، و علي المرتضى، وشقيقة السبطين؛ الحسن والحسين، السيدة الجليلة النبيلة زينب الكبرى، صلوات الله عليهم جميعاً.

هذه المرأة المميَّزة على النساء بكل شيء، هي فخر للرجال والنساء بكل جدارة، ولكن ما الذي جرى على تلك الإنسانة المُدللة الرقيقة في آخر أيام عمرها التي قضته مصونة خَفِرة لم يرَ إنسان قط خيالها كما يشهد التاريخ؟

حفيدة الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، وابنة البتول، تُؤسر وتُسبى في أمَّة تدَّعي الانتساب إلى جدها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، والله إن هذا لعجب عُجاب في هذه الأمة التي قتلت أهل البيت الأطهار الأطياب واتبعت مَنْ هم أخس وأنجس خلق الله.

 

  • السيدة زينب الشاهدة وسط المعركة

نعم؛ حضرت السيدة زينب في كربلاء بكل عزة وشموخ وإباء، فدخلتها ويحوطها أسود الشَّرى وخير أهل الأرض من بني هاشم، لاسيما إخوتها وعزوتها السبعة، و ابناؤها وبقية بني عمومتها الذين كانوا يفتخرون بحراستها وخدمتها، لاسيما كفيلها؛ قمر العشيرة أبو الفضل العباس، عليه السلام.

فهي حضرت بكل شخصيتها وقوتها وهيبتها الفاطمية العلوية فرأت الرجال يستميتون أمام خيمتها وكبارهم يأتي إليها ليُعلن لها الفداء كحبيب بن مظاهر الأسدي، رضوان الله عليه، بل عندما سمعوا لها صوتاً جاؤوا مهرولين إلى باب خيمتها معلنين استعدادهم للموت والفناء عن بكرة أبيهم ولا يُسمع لها صوتاً أو يُرى لها شخصاً.

فحضور السيدة زينب، عليها السلام، في كربلاء لتكون شاهدة عيان على أعمال كلا الطرفين؛ جيش الحق بقيادة شقيقها و إمامها الحسين، عليه السلام، وجيش الباطل بقيادة عمر بن سعد بن أبي وقاص القرشي.

لذلك كانت بعد الحادثة المروِّعة والمأساة الخالدة تخطب في الناس والمجاميع، وحتى في المجالس والدواوين لتُبيِّن الحق وتلقم الباطل بأحجار من سجيل تجعله كعصف مأكول، لا سيما خطبتها المذهلة في مجلس يزيد، وبحضور عدد غفير من اتباعه والمتزلفين بالشام.

 

  • زينب، عليها السلام، صوت الحق الحسني

يقول سماحة المرجع الدِّيني السيد محمد تقي المدرسي -دام عزه-: “هلك يزيد ونهجه، واستطال الحسين ونهجه، وصدقت حكمة الصديقة زينب لابن زياد، بعدما سألها كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟ فقالت: “ما رأيتُ إلا جميلا، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاج وتخاصم فانظر لمَنْ الفلج (النصر) يومئذ ثكلتك أمك يابن مرجانة).

ثم يقول سماحته: “وكانت زينب الشاهدة على نهضة السبط الشهيد لأنها حملت رسالتها إلى الآفاق، ولأن النهضة أساساً كانت تهدف بعث زلزال في الضمائر، فإن دم الشهداء كان سيذهب سُدى من دون دور الشاهدة العظيمة زينب، عليها السلام، ودور الشاهدين الآخرين معها، وكانت تلك حكمة حمل الإمام الحسين، عليه السلام، حرمه معه، وقد قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) في رؤياه الصَّادقة قُبيل خروجه من المدينة: (لقد شاء الله أن يراهن سبايا). (الصديقة زينب شقيقة الحسين: ص32).

 

رجعت السيدة إلى المدينة و راحت تعقد مجالس الحزن والبكاء واللوعة وتحكي لهم قصة كربلاء، وملاحم الأبطال الشهداء فيها، حتى ضاقت عليها المدينة فأخرجوها كما أخرجوا أمها الزهراء، عليها السلام، من قبل إلى بيت الأحزان، ولكن كان بيتها بعيداً

 

فسبي السيدة زينب كان بالمشيئة الإلهية فهي بحكمة بالغة ودقة متناهية، لأن الآمر سبحانه حكيم، والمنفِّذ للأمر الإمام الحسين، عليه السلام، حكيمٌ أيضاً، ولذا ترى هذه الفضيلة والمنقبة لم يستطع أقزام هذه الأمة أن يفهموها، فتراهم يسألون: لماذا حمل الإمام الحسين، عليه السلام، معه عياله إلى كربلاء ليُعرِّضهم لكل ما جرى عليهن من مصائب وبلايا؟

إنها حكمة الله ومشيأته، فلولا ذلك الرَّكب وتلك السبايا على المطايا يدورون بهم جلاوزة بني أمية في البلدان لما سمعت الأمة بمقتل الإمام الحسين، عليه السلام، ولا ما جرى على تلك الثلة الطاهرة من أهل بيته وأصحابه الميامين، و لاندرس ذكرهم ولا أحد يذكرهم إلا بأنهم “خوارج”! خرجوا على يزيد السلطان فأرسل إليهم جيشه فقتلوهم بسُويعات ورجعوا إلى بيوتهم منتصرين، ولكن صوت زينب، عليها السلام، المجلجل بالحق، ودوران أولئك الأغبياء بالرؤوس والسبايا في البلدان هو الذي أوصل صوت النهضة الحسينية إلينا، وسيبقى إلى آخر الدَّهر هادراً إلى أن يُؤخذ بالثأر من المجرمين القتلة، فوجود زينب، عليها السلام، في كربلاء ليكون لكربلاء وجود فيما بعد، ولولا وجودها لما كان لكربلاء وجود إلى اليوم.

 

  • دم الحق ينتصر على سيف الباطل

أراد يزيد و زمرته أن يتخلَّصوا من البيت النبوي وإلى الأبد، ليدوم ويبقى الحكم الأموي، ولكن هيهات بين مَنْ يُخطط له رب العالمين، ومَنْ يُخطط له الشيطان الرجيم، فالنهضة الحسينية تخطيط إلهي بامتياز، ومَنْ لا ينظر إليها بهذا المنظار لن يعرف حقيقتها.

ومن أسوأ أفعال يزيد وأتباعه هو حمل ركب السبايا إلى الشام والمرور بهم على أربعين موضعاً، كما يقول مبيِّنا سماحة السيد المرجع المدرسي هذه الحقيقة: “لقد زعمت أمية أن تطواف آل الرسول أسارى في البلاد برفقة رأس السبط الشهيد و رؤوس أصحابه، عليه وعليهم السلام، أنه يُثير الرَّهبة في نفوس معارضيها، ومن ثمّ يُثبت سُلطانها ولم تعرف أن الذي خطط للنهضة تعمَّد في أن يجعلها نهضة الدم الذي يقهر السيف، والضمير الذي يغلب الدرهم والدينار، فكانت الرؤوس المقطوعة أكبر شاهد على ظلامة أهل البيت، وتجردهم في الله، وعظيم تضحيتهم في سبيل الدِّين، وكانت كلمات التقريع والتحدي التي فاضت بها خطب أهل البيت، وما كان فيها من استهزاء بالطغيان الأموي، والسخرية من سلطانهم، أكبر ثورة ثقافية في الأمة”.

ثم يقول سماحته: “والواقع إن القدر كان قد هيَّأ الصِّديقة زينب، عليها السلام، لهذا الدَّور، وخلال عمرها القصير بعد واقعة الطف زرعت في كل أفق من العالم الإسلامي بذور النهضة الحسينية، وحفرت نهراً متدفقاً من العواطف النبيلة تجاه أهل البيت حتى أصبحت لكلمة “يا لثارات الحسين” جرساً خاصاً في نفوس المسلمين، ما إن تنطلق هذه الكلمة حتى يجتمع الناس للنهضة والاستعداد للشهادة”.

 

لولا ذلك الرَّكب، وتلك السبايا، يدورون بهم جلاوزة بني أمية في البلدان لما سمعت الأمة بمقتل الإمام الحسين، عليه السلام، ولا ما جرى على تلك الثلة الطاهرة من أهل بيته وأصحابه الميامين، و لاندرس ذكرهم

 

وإلا فمَنْ كان يستطيع أو يجرؤ على مخاطبة يزيد الشَّر في مجلسه وبين كبار دولته بتلك الكلمات القارعة التي نزلت على رأسه، و على رؤوسهم المتكبرة، فقمعته و رذلته حيث قالت: “أَمِنَ الْعَدْلِ يَا ابْنَ الطُّلَقَاءِ تَخْدِيرُكَ حَرَائِرَكَ وَسَوْقُكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ سَبَايَا؟! قَدْ هَتَكْتَ سُتُورَهُنَّ وَأَبْدَيْتَ وُجُوهَهُنَّ يَحْدُو بِهِنَّ الْأَعْدَاءُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَيَسْتَشْرِفُهُنَّ أَهْلُ الْمَنَاقِلِ وَيَبْرُزْنَ لِأَهْلِ الْمَنَاهِلِ وَيَتَصَفَّحُ وُجُوهَهُنَّ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ وَالشَّرِيفُ وَالدَّنِيُّ، لَيْسَ مَعَهُنَّ مِنْ رِجَالِهِنَّ وَلِيٌّ وَلَا مِنْ حُمَاتِهِنَّ حَمِيّ، عُتُوّاً مِنْكَ عَلَى اللَّهِ وَجُحُوداً لِرَسُولِ اللَّهِ“.

والى الآن نقول، ويقول كل منصف وليس مسلم مع السيدة زينب، عليها السلام، حين تقول ليزيد الشر وملأه: “فَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ لِقَتْلِ الْأَتْقِيَاءِ وَأَسْبَاطِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَلِيلِ الْأَوْصِيَاءِ بِأَيْدِي الطُّلَقَاءِ الْخَبِيثَةِ وَنَسْلِ الْعَهَرَةِ الْفَجَرَة“، بهذه الكلمات الواضحة الصريحة فضحت السيدة، عليها السلام، يزيد وأصله الخبيث، وأظهرته على حقيقتة الخارجة من الملَّة والدِّين وحتى من الإنسانية.

ويبقى قولها -روحي فداها- من لبوة حيدرية، وبضعة فاطمية: (ثُمَّ كِدْ كَيْدَكَ وَاجْهَدْ جُهْدَكَ! فَوَ الَّذِي شَرَّفَنَا بِالْوَحْيِ وَالْكِتَابِ وَالنُّبُوَّةِ وَالِانْتِجَابِ لَا تُدْرِكُ أَمَدَنَا وَلَا تَبْلُغُ غَايَتَنَا، وَلَا تَمْحُو ذِكْرَنَا وَلَا تَرْحَضُ عَنْكَ عَارُنَا، وَهَلْ رَأْيُكَ إِلَّا فَنَدٌ، وَأَيَّامُكَ إِلَّا عَدَدٌ، وَجَمْعُكَ إِلَّا بَدَدٌ، يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي أَلَا لُعِنَ الظَّالِمُ الْعَادِي“. (اللهوف في قتلى الطفوف، السيد ابن طاووس ص 181)

 

  • السيدة زينب، عليها السلام، شهيدة كربلاء

وبعد ذلك الخطاب الذي قرَّعت ووبَّخت وفضحت الطاغية يزيد في بيته وقصره ومجلسه، حاول الخبيث أن يمتصَّ غضب الناس والشارع، وحتى بيته -كما يُحكى عن زوجته التي اقتحمت عليه مجلسه باكية معولة- ولكن جاءه الرَّد القاصم من الإمام زين العابدين، عليه السلام، في خطبته المشهورة بحيث أقام المناحة في المسجد الأموي، فكان لا بدَّ من أن ترحل أسرة الإمام الحسين، عليه السلام، لا سيما زينب والسجاد، عليهما السلام، عن الشام بأي طريقة كانت.

وبالفعل أمرهم أن يُجهِّزوا لهم كل ما يحتاجون ويخرجوا من الشام سريعاً، وأمرهم أن يكونوا بخدمتهم ويذهبوا حيث يشاؤون، ولا يتعرَّضون لهم في شيء في الطريق إلى أن يوصلوهم إلى المدينة المنورة، ولكن السيدة زينب اختارت طريق كربلاء لتُجدد العهد بحبيبها وشقيقها، وسائر الشهداء، فوصل الركب إلى كربلاء في صباح يوم الأربعين 20 صفر الأحزان.

و رجعت السيدة إلى المدينة وراحت تعقد مجالس الحزن والبكاء واللوعة وتحكي لهم قصة كربلاء، وملاحم الأبطال الشهداء فيها، حتى ضاقت عليها المدينة فأخرجوها كما أخرجوا أمها الزهراء، عليها السلام، من قبل إلى بيت الأحزان، ولكن كان بيتها بعيداً حيث أخذها عبد الله بن جعفر زوجها إلى بستان له في الشام، وما إن وصلت أرض الأحزان حتى قضت نحبها حزناً و أسىً على ما جرى على إخوتها في كربلاء، وعليها وعلى أخواتها بعدها فذهبت شهيدة أيضاً.

فالسلام على قلب زينب الصبور.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا