عندما يتحدث القرآن الكريم عن صفات الناس بأنواعهم، سواء عند المؤمنين، أو عند المنافقين، فإنه يذكرها جملة واحدة، ولا يكتفي بذكر صفة واحدة، لأن صفات البشر تعبير عن شخصيته، فالشخصيات الايمانية ذات صفات إيمانية، وكذلك الشخصية المنافقة تحمل صفات المنافقين.
وهذه الصفات تتوالى لانها تنبع من نبع واحد ومن حالة واحدة، فإذا اردنا معرفة أي شخصية كونها مؤمنة او منافقة، فمن خلال الصفات التي تحملها تلك الشخصية، فإذا اجتمعت عدة خصال ـ سواء كانت خصال ايمانية او نفاقية ـ فإنها دالة على صاحبها ومعبرة عنه. فإذا كانت صفات المؤمنة ظاهرة ومعروفة، فكيف نعرف الشخصية المنافقة؟
حينما يصطدم الإنسان بواقع لا يستطيع أن يستجب له، أو يصعب عليه الاستجابة لذلك الواقع، تتشكل عنده حالة النفاق، او حالة تعدد الشخصية، فظاهرا يبين للآخرين أنه يستجيب لهم، لكنه في واقعه نفسه يعيش النفاق.
بعض الناس يكتشفون هذه الحالة النفاقية، ويسعون الى ردم الفجوة بين الظاهر والباطن، والبعض الأخر يبرر هذه الشخصية الازدواجية، الى درجة ان هذه الحالة تتحول الى سلوك دائم لهم.
ومن الصفات التي يذكرها القرآن الكريم في بيان الحالة النفاقية وإظهارها، هي حالة مرض، وهذه الحالة ـ يبدو ـ انها الجذر لتلك لبقية الصفات، فما هو ذلك المرض الذي يعشعش في القلب، وتظهر آثار في السلوك؟
فايروس كورونا هو فايروس واحد، لكن آثاره طالت أمورا أخرى، كفقدان حاسة الشم والتذوق، وارتفاع حرارة الجسم، وصعوبة في التنفس، هذه كلها وغيرها من آثار ذلك المرض؛ فما هو مرض النفاق؟
عدم الثقة بالنفس والانهيار أمام الواقع، وبالتالي الدخول الى مستنقع الازدواجية، ذلك أن الإنسان يحب هوى نفسه، وإذا تحول هذا الهوى الى معبود في حياة الإنسان، فإن كل شيء ينحرف في حياته.
فهو ـ على سبيل المثال ـ لا يستطيع معرفة العالَم من حوله، لأنه ينظر إليه من خلال ذاته، وينظر الى الأشياء من خلال علاقته به، ومن خلال مدى استفادته من تلك الاشياء، أو تضرره منها، وحينما يكون الهوى معيارا ومقياس، لا يستطيع الإنسان أن يفهم الحقائق من حوله، ولا يستطيع أيضا ان يفهم الناس ويحترمهم، وأن يؤدي إليهم حقوقهم، وبالتالي يصبح حسودا وحريصا وحقودا.. فكل هذه الصفات ستجد لها طريقا الى روحه ونفسه.
الانسان عندما يخالف هذه القوانين ـ التي يَطلق عليها القرآن الكريم السنن ـ فإن هناك عقابا في نفس القوانين التي خالفها
يقول الله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}، وهذا النوع من البشر أمره فُرط، فاليوم يمدح وغداً يذم، وتراه لا يقف على مقياس واضح، فإذا استطاع الإنسان أن يغلب هواه ويتبع الحق، فهو يحترم نفسه ويحترم الآخرين من حوله، وأيضا يحب الخير لنفسه وللآخرين، وبالتالي تنبع منه صفات المؤمنين والمخلصين.
فمرض القلب الموجود عند كل إنسان، إذا لم يجد مواجهة قوية من الفرد نفسه، فإن الهوى يغلب عليه، وتبدأ المشاكل ولا تنتهي، في المقابل فإن الإنسان الذي يغلب هواه يرى كل شيء واضحا وبحدوده. يقول تعالى: {فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً}، أليس الله هو اعدل العادلين، والقائم بالقسط؟
فهو الذي خلق الإنسان ليرحمه فلماذا يزيده مرضا؟
الله تعالى حينما خلق الكون، خلقه صالحا، ذا نظام دقيق، وضمن سنن، وفي إطار القانون الحق، هذا القانون عندما يكون حاكما في كل مكان، ويأتي انحراف عن هذا القانون يسمى هذا الانحراف (مرضا).
-
مخالفة القوانين(السنن) بداية السقوط
فالانسان عندما يخالف هذه القوانين ـ التي يَطلق عليها القرآن الكريم السنن ـ فإن هناك عقابا في نفس القوانين التي خالفها، فالإنسان الذي يريد النزول من مكان مرتفع عبر السُلّم، فهو لا يُلقي بنفسه من ذلك المكان، لأن هناك قانون اسمه (الجاذبية)، الذي يقول: اذا هويتَ من مكان مرتفع دون أن تنزل من الدرج فسوف تتهشم عظامك، كذلك فإن الذي يضع يديه على النار فإنها تحترق.
حينما يصطدم الإنسان بواقع لا يستطيع أن يستجب له، أو يصعب عليه الاستجابة لذلك الواقع، تتشكل عنده حالة النفاق، او حالة تعدد الشخصية، فظاهرا يبين للآخرين أنه يستجيب لهم، لكنه في واقعه نفسه يعيش النفاق. فكيف نعرف الشخصية النفاقية؟
فالمرض الذي يصيب الإنسان سواء كان مرضا جسديا أم نفيسا، فإنه لا يورث السعادة، ففايروس كورونا سبب الكثير من المشاكل للإنسان، من قبيل فقدان الأحبة، والخسارة الاقتصادية التي طالت كثير من الدول التي فرضت حضرا للتجوال في بداية انتشار المرض.
-
الجزاء من جنس العمل
يجب أن نعي هذه البصيرة: أن ما يصيب الإنسان جراء افعاله، او تكاسله عن اداء واجباته، انه يكون بأمر مباشر من الله تعالى، لأن هذا هو قانون الخلقة التي خلق الله ـ تعالى ـ بها الخلق.
فمرض القلب النفسي عند الإنسان بدايته اتباع الهوى، ثم التكبر، ثم يظلم الآخرين عبر العدوان عليهم بأي شكل من الأشكال، ومن الطبيعي أن تكون هناك عقوبات خاصة لكل خصلة من هذه الصفات الذميمة.
ومما يظهر من آيات كريمة في القرآن الكريم، أن كثير من العقوبات ـ التي وضعت مع النظام الكوني ـ بأمر مباشر منه يوقفها، فقوم يونس استحقوا العذاب لسوء أعمالهم، لكن الله تعالى رفع عنهم العذاب حينما عادوا إليه واستغفروا. يقول الله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً}، ويقول تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}.
فالله تعالى برحمته الواسعة يعطل بعض القوانين، فأي عمل من أعمال الخير والصلاح ـ على سبيل المثال ـ كصلة الرحم تزيد في العُمر والزرق، لذلك فالنبي ابراهيم عليه السلام حينما دعا الله أن يشافيه قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}.
والله تعالى ليس بظلام للعبيد، إنما الإنسان هو من اختار لنفسه هذا المصير، عبر اتباع هواه المضل الذي جعله إلها؛ يقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}، فالله لا يظلم الإنسان، وهو ـ الله ـ الذي خلقه ليرحمه. وقوله تعالى: {فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً}، لا يعني أن ننسب الظلم الى الله تعالى.
وإذا اراد الإنسان ان يتخلص من أمراضه النفسية والذاتية، فإن عليه العودة الى الله تعالى، “فلا منجى منه إلا إليه”، وإذا فقد الفرد رحمة ربه، فلا شيء آخر ينفع أبدا، ولذا فإن العودة الصادقة الى الثقافة الإسلامية الأصيلة ـ المتمثلة بالقرآن الكريم وأهل البيت عليهم السلام ـ كفيلة بأن تخلص الإنسان من الصفات النفاقية التي تسبب مرض القلب.
——————————–
- مقتبس من محاضرة للمرجع المدرسي بتاريخ 7ـ 10ـ 2020.