ثقافة رسالية

العدل والاحسان ضرورة اجتماعية للبناء والتقدم

في القرآن الكريم آيات تسمّى مُحكمات، وآيات أخرى تسمّى متشابهات، ولابد من ردّ المتشابه مـن الآيات الى المحكم مـنها، ذلك؛ أن القرآن كتاب أحكمت …

في القرآن الكريم آيات تسمّى مُحكمات، وآيات أخرى تسمّى متشابهات، ولابد من ردّ المتشابه مـن الآيات الى المحكم مـنها، ذلك؛ أن القرآن كتاب أحكمت آياته ثم فُصلت؛ أي إنّ الكتاب المـنـزل مـن عنـد الله – تبارك وتعالى – يحتوي على قيم عليا إضافة الى تفاصيل هذه القيم العليا؛ فالمحكم هو الأصول، والمتشابه هو الفروع في أحد أهم وجوه التعريف.

فالتوحيد مثلاً قيمة عليا وأصل ثابت، ولكنه في الوقت ذاته يتشعب الى مجموعة فروع ومفاهيم وقيم وحقائق، ثم مـن شأن هذه الفروع أن تتشعب بدورها الى حقائق نتلمس مظاهرها في الواقع اليومي المتكرر. ولعل المعنى الأقرب لمصطلح (المتشابه) في الآية القرآنية؛ الفـروع دون الأصول، إذ كثيراً ما تتشابه التكاليف الفرعية على المكلّف، في حين يختلف الشأن في الحقائق الاساسية، فهي قليلة مـن جهة، ومعروفـة مـن جهة أخرى.

ومـن الآيات القرآنية الكريمة المحكمة الأصول، قول الله – تعالى -: {إنّ اللّه يأْمُرُ بالْعدْل والإحْسان وإيتآء ذي الْقُرْبى وينْهى عن الْفحْشآء والْمـنكر والْبغْي يعظُكُمْ لعلّكُمْ تذكّرُون}، (سورة النحل: 90).

فنلاحظ في الآية ثلاث مفردات؛ هي: العدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربـى، أمـر الله بهنّ أمراً قاطعـاً، خاليـاً عن قرينة ما تصرفـه الى الاستحبـاب أو غير ذلك؛ وثلاث مفردات أخرى نهى الله عنهنّ نهياً جازماً كذلك، هنّ: الفحشاء، والمـنكر، والبغي.

فما هو مفهوم هذه المفردات؟ وماذا تعني؟

 

  • العدل قيمة عليا واجب الالتزام بها

حينما نؤكد أنّ هذه الآية محكمة، فانه يعني لزوم ردّ الفروع كلّها، أو على الأقل فيما يتصل بالعلاقات الاجتماعية الى هذه الآية المباركة.

فربنا جلّ شأنه يشير الى العدل – كأصـل أول – ويأمر به الإنسان ليعرف أنّه ليس الكائن الوحيد على وجه البسيطة، وليعرف أنّ للآخرين حقوقـاً بذمته يتوجب عليه أداؤها، كما له هو نفسه حقوق يتطلع الى نيلها عن طريق أداء الآخرين لها، والله – وهو العدل المطلق – لم يغفـل عـن إلزام الإنسان بتحقيق العدل حتى مع أعدائه، أي إن أعداء الانسان أيضاً لهم عليه حقوق، قال سبحانـه: {وقاتلُوا في سبيل اللّه الّذين يُقاتلُونكُـمْ…}، (سورة البقرة: 190) فحـق أعـداء المسلمين عليهـم أن يقاتلوهم ضمـن حدود الوعي الديني، وواحدة مـن مفردات هذا الوعي أن تكون مقاتلة الأعداء الكفار ضمـن مفهوم سبيل الله لا غير، ولو لم يكن الأمر كذلك لأصبح القتال فعلاً وحشياً وخالياً عن هدف مقدس، الغرض مـنه الإصلاح.

ثم يقول – تعالى – بعد ذلك: {إنّ اللّه لا يُحبُّ الْمُعْتدين}، نظراً لصيانة قوانين الحرب العقلية المتعارفة، مـن قبيل عدم الاعتداء على الآمـنين أو المهادنين مـن الكفار، وحفظ حياة الأسير وصيانة حقوقه كإنسان، وكذلك لا يجوز التوسّل بأيّ طريق لتحقيق النصر بإبادة العدو، فالعدل سيتناقض حينها، وهو منهج باطل.

 

  • العدل مع الطبيعة والاكتفاء الذاتي 

كما هناك حقوق للطبيعة – بمفهومها العام – مـن حولنا تنبغي رعايتها، فالأرض بحاجة الى الإحياء عبر الزراعة والبناء والإعمار. روي عن الإمام أمير المؤمـنين علي بن أبي طالب، عليه السلام، أنه قال: «مـن وجد ماء وتراباً ثم افتقر فأبعده الله»، وقال، عليه السلام، ايضاً: «اعلموا أنّكم مسؤولون عن بقاع الأرض وهوامها»، وقد أولى الفقهاء المسلمون بحث إحياء الأراضي كثيراً مـن الأهمية؛ ومـن ذلك مسألة إذا كانت لإنسان أرضٌ ثم تركها بعدم الإحياء، وقد صرحت الفتاوى بهذا الشأن بلزوم مصادرة الحاكم لهذه الارض، ومـنحها لمـن له الاستعداد لإحيائها، على اعتبار عدم جواز تعطيل الأرض.

وفي وقت كان صياح الديكة لا ينقطع بين الكوفة والبصرة لحجم الإعمار والإحياء الكبير بين البلدين، وذكر في التاريخ؛ أن أحد وزراء العباسيين أسدى خدمة جليّة الى السلطان، فأراد هذا الأخير مـنحه جائزة، فقال لوزيره: ما هـي الجائـزة التي تتمـناها؟ فقال الوزيـر: لن تستطيع تقديم ما أطلبه، فأصرّ عليه بالتصريح، فأجابه الوزير: أريد قطعة أرض بائرة في العراق! فأرسل السلطان مـن يبحث له عن ذلك، فلم يعثر على ذلك، وكان في هذا إشارة ذكية مـن الوزيـر الـى عظمة إنجازاته، وتوجيه وتنبيه السلطان الى أهمية الأمر. بينمـا ترانـا اليوم – وللأسف الشديد – يحاصرنا التصحر الزاحف وقلة المحاصيل، فنضطر الى استيراد معظم غذائنا مـن الدول الأجنبية.

إن عدم التعامل بالعدل مع الأرض قد عطّل في بلداننا الاسلامية والعربية مـنها على وجه الخصوص حوالي ثلاثة ملايين فرصة عمل، وأسفر عن وجود خمسة عشر مليون عاطل عن العمل، أمّا الإحسان فهو درجة تفوق العدل، حيث يكون أمام الانسان واجب يفوق الحق الملقى تنفيذه على عاتقه. فمن يؤدِّ حقّ الناس يكن عادلاً، وإن هو قدّم ما يزيد على ذلك يكن محسناً، وقد قال الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، في تفسيره لقوله – تعالى -: {إنّ اللّه يأْمُرُ بالْعدْل والإحْسان} قال: «العدل الإنصاف، والإحسان التفضل».

 

  • الإحسان ينمّي العدل

هنا سؤال يطرح نفسه: الإحسان واجب أم مستحب؟

الكثير مـن علماء الفقه قالوا بالاستحباب، كونه فعلاً ليس مـن حق الناس المطالبة به. ولكنهم – بهذه الفتوى – يصطدمون بصريح قوله سبحانـه وتعالى: {إنّ اللّه يأْمُرُ بالْعدْل والإحْسان وإيتآء ذي الْقُرْبى وينْهى عن الْفحْشآء والْمـنكر والْبغْي يعظُكُمْ لعلّكُمْ تذكّرُون} وإزاء إمكانية الجمع بين الوجهين يمكن القول: إن الإحسان أمر واجب، إذ المجتمع لا يقوم إلاّ على أساس الإحسان، فإذا كان كل واحد مـن أفراد المجتمع يطالب بحقّه الفردي فيُعطى، إذن؛ مـن سيصغي للحق الاجتماعي العام؟

فإذا دخلت مدينة مـن المدن فرأيت بيوت الناس معمرة، وأمام كل بيت سيارة مـن آخر طراز، ويتمتع الناس في بيوتهم بألوان الطعام والأثاث، ثم وجدت الشوارع خربة غير مضاءة، والمدينة تفتقر الى الحدائق العامة أو المساجد والجامعات ومراكز الخدمة العامة، فاعرف أن أهل هذه المدينة يؤمـنون بالعدل، رافضين للإحسان، فـمـن الذي يفتح الشوارع ويشقها عبر الجبال الشاهقة؟ ومـن الذي يبني الجسور فوق الأنهار والروافد؟ ومـن الذي يجمع الناس في الحسينيات والمدارس والمساجد ليتعلّموا؟

إنه الاحسان؛ الكفيل بكل ذلك دون ريب، وكلما ارتفعت نسبة الإحسان في بلد، كلما ازداد تقدماً ورفاهاً.

ومـن هنا؛ يمكن القول بأن الإحسان مـن عوامل تنمية العدل، أو لنقل: إن الإحسان هو الثوب الجميل والضروري جداً للعدل، ومـن دونه سيكون العدل عارياً، معرضاً للضربات والهزّات، فـالإحسـان مـن وجهـة النظـر الإسلامية لا يختص بأمـر إنفـاق المـال – بالضرورة – فحسب، وإنما المفهوم أوسع من هذا، ليصل الى بـذل كافـة الامكانات والطاقات؛ مـن قبيل الإحسان بالكلمة الطيبة.

والملاحظ هنـا أن معظم الذين أسهموا في بناء وتأسيس المراكز والمؤسسات للمصلحة العامة، هم مـن الفقراء أو حتى المعدمين، إذ إنّهم استخدموا لهذا الغرض أحاديثهم النافذة الى القلوب، ويكون مثلهم بذلك مثل الكنوز المتحركة فوق الأرض.

فالمسألة الحساسة في هـذا الإطار هي ما يعبر عنه مفهوم المقطع التالي مـن الآية الكريمة:

{وممّا رزقْناهُمْ يُنفقُون}، (سورة القصص: 54) فـمـن لديه المال، ومـن لديه الفكر والتخطيط، عليه رسم المشاريع البنّاءة مـن أجل أن ينفذها هو أو الآخرون، ليحركوا المجتمع والتاريخ.

{إنّ اللّه يأْمُرُ بالْعدْل والإحْسان وإيتآء ذي الْقُرْبى} لعل الأمر بإيتاء ذي القربى تعبير عن نوع مـن أنواع الإحسان، وهو النوع المتميز مـنه، وذلك أن الانسان حينما يحسن الى أقاربه سيعمل في الحقيقـة على تماسك المجتمـع، باعتبار أن الأسرة تمثل اللبنة الأولى له. وقـد ورد في الشريعـة نصوص جمّة بخصوص صلة الرحم وأن يقدّم أقاربه في فعل الخير على نفسه؛ مـنها قول رسول الله صلى الله عليه وآله: «صل رحمك ولو بشربة مـن ماء، وأفضل ما يوصل به الرحم كف الأذى عنها».

ثم يقول جلّ ثناؤه:

{وينْهى عن الْفحْشآء والْمـنكر والْبغْي يعظُكُمْ لعلّكُمْ تذكّرُون} فكل هذه الكلمات مقابلة لتلكم الكلمات الأولى، وهي العدل والاحسان وايتاء ذي القربى.

 

  • بين الإنفاق والإحسان

ومـن اجل تعزيز صفة الاحسان التي تعد بحق احدى اهم الخطوات واللبنات لاقامة المجتمع الايماني المستقيم، نستعين بالقرآن مرة اخرى للوقوف قليلاً عند مسألة الانفاق التي طالما أوصى بها الله تعالى الانسان في آيات عديدة من كتابه المجيد.

وثمة فارق بسيط بين الاحسان والانفاق، فالاول الذي عدّه الامام علي، عليه السلام، في الحديث المذكور آنفاً، بانه «التفضل»، فالاول لايمكن ان يكون – بأي حال من الاحوال – في الاتجاه الخاطئ وعلى غير جادة الصواب، في حين الانفاق يمكن القول انه معرض للمروق والانحراف عن هذه الجادة وطريق مرضاة الله، بسبب انه عبارة عن مبادرة وعمل يقوم به الانسان، يتطلب لزوماً تمهيد الارضية والمقدمات والظروف النفسية والموضوعية وان يتجاوز الانسان عقبات نفسية لانجاز مهمة الانفاق في سبيل الله ومكملاً للاحسان.

الانفاق صعب، وعدم الإنفاق أصعب، فياترى كيف يتمكن المرء مـن الانفاق فيخطو خطوة نحو التكافل الاجتماعي؟ وكيف له محاربة عدوّه الداخلي وهو النفس، فتكون يداه مبسوطتين قادرتين على البذل والعطاء؟

وقبل الإجابة، ينبغي الإشارة الى موضوعين أساسيين.

الأول: هو أن هذا الحديث لا يشمل الأفراد الذين يتوجّب عليهـم الإنفاق فحسب، بل هو يعم مـن ينبغي عليهم التحدّث الى الناس ونصحهم بالإنفاق؛ بمعنى ضرورة تقديم برنامج متكامل لإقناع الآخرين بجدوى الإنفاق، حيث تنتشر العدالة ويتقدم المجتمع.

أما الموضوع الثاني: فهو أن الإنفاق لا يعني جدلاً؛ إنفاق المال فقط، فالله – تبارك وتعالى – قال في أكثر من مقام: {وأنفقُوا ممّا رزقْناكُم}، (سورة المنافقون: 10)، {وممّا رزقْناهُمْ يُنفقُون}، (سورة الشورى: 38).. فالإنفاق قد يكون بانفاق الطاقات والامكانيات الأخرى، فـمـن لا يستطيع إنفاق المال قد يكون بإمكانه حثّ الآخرين على الإنفاق، ومـن يعجز عن مـنح المال بوسعه أمر الناس بالمعروف أو نهيهم عن المـنكر أو التخطيط لمشاريع ثقافية أو سياسية تهدف الى خدمة المجتمع وتطويره. وهذه وغيرها صور للإنفاق في سبيل الله – تعالى -، وقد ورد عن رسول الله، صلى الله عليه وآله، أنه قال: «الدال على الخير كفاعله».(1)

————————————

  • (1) بحار الانوار/ج43-ص56.

عن المؤلف

أنور عزالدين

اترك تعليقا