الله –سبحانه- وصف دينه الحنيف في كتاب الشريف وصفاً عجيباً: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، ولم تمر بهذا اللفظ إلا مرة واحدة في هذه الآية الكريمة، والملاحظ أن البعض يقرؤونها خطأً (دينا قيِّماً)، ولذا يفسرها بعض المفسرين بالاستقامة والاعتدال بنفس تفسير الصراط المستقيم، وهذه غفلة كبيرة للأسف الشديد.
فلفظ الآية واضحة (دِينًا قِيَمًا) وليس فيها شدَّة أبداً وبهذا تعطينا معنى آخر تماماً عن (قيِّماً)، لانها تؤكد لنا وللعالم أن هذا الدين الحنيف هو دين القيم والمُثُل والفضائل في هذه الحياة، ولي قصَّة لطيفة مع هذه الآية، وهذه القراءة، واللفتة التي غيَّرت فهمي للآية وربما للدين أيضاً؛ وتتلخص بأنني كُنتُ بعيداً عن أهلي بسبب عملي ووظيفتي، وكُنتُ أذهب إليهم في الإجازات وكان للحاج الوالد الكثير من الأصدقاء والمثقفين الذي كان يتحاور معهم عقائدياً وفكرياً كونه قطب المتشيعين (المستبصرين) في منطقتنا كلها، فكان يدعو بعضهم عندما كنتُ أخبره بزيارتي لهم فيجتمعون ونسهر ونتباحث في مثل هذه القضايا، وكان الحاج الوالد (رحمه الله) ينتظرني لدى تعرضه لبعض الأسئلة المحرجة، وفي ذلك اليوم كان زائرنا الأستاذ الديب والشاعر محمد نجدت سيجر وهو يقول عن نفسه أنه من السادة ومن عائلة محترمة ومعروفة في جسر الشغور، عائلة دكاترة في الجسر، فقدمناه للصلاة جماعة في صلاة المغرب، فقرأ بنا بهذه الآية لأنهم في فقههم ليس ضرورياً وواجباً قراءة سورة كاملة في الركعة بعد الفاتحة، وبعد الانتهاء اعترضتُ عليه وعلى قراءته (دِيناً قِيَمَاً)، فقلتُ عفواً سيد: (دِيناً قيِّماً)، فضحك وقال: هاتِ القرآن أبو علي، فأتيتُه بالقرآن ففتحه، وقال لي: إقرأ بنفسك، فذُهلت حين قراتها لأنني أول مرة أقرأها صحيحاً، وكان حديث السهرة من هنا، فحقاً الدِّين الإسلامي دين قيم وفضائل بالكامل، فهو منظومة متكاملة من القيم والحكم والتشريعات العامة الكاملة الشاملة لكل زمان ومكان.
وهو خلاصة الدعوة الحقيقة لرسول الإنسانية الخاتم، صلى الله عليه وآله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال: 25)، وهذه المصيبة والفتنة التي نحن فيها في هذه الأيام عمَّت العالم أجمع، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يُبعدها عن المؤمنين أينما كانوا أو وجدوا.
عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: رحم الله عمنا العباس کان والله نافذ البصيرة، صلب الإيمان، قتل مع أخيه الحسين (عليه السلام) بالطف، ومضى في سبيل الله شهيداً
-
الولادة العباسية المباركة
في شعبان الخير والفضيلة والنور والإيمان المفعم بالخيرات والبركات، أتحف هذه الأمة وهذه الحياة بشخص ليس كالأشخاص، ورجلاً ليس مثله كل الرجال، إنه الولد البكر لتلك الأصيلة التي ولدتها الفحولة من العرب فاطمة بنت حزام (أم البنين)، من فحل الرجال، وفخرهم أسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام وكفى به فخراً لمفتخر.
في المشهور أن ذلك كان في الرابع من شعبان سنة26هـ، في المدينة المنورة، فعاش في كنف أبيه أمير المؤمنين ،عليه السلام طفولته وفتوته، ومع أخويه الحسن والحسين، عليهما السلام، بقية عمره الشريف، ينهل من نمير علمهم، ويرتوي من زلال مائهم فهم الماء المعين في عصرهم، ولم تكن كُلِّ البصائر في أبي الفضل عليه السلام، اكتسابية، بل كان مخلوقاً من طينة القداسة التي مزاجها النور الإلهي، فهو من أمير المؤمنين روحاً وجسداً، إلى سمو مرتبة العباس العلمية أشار بقوله: “إنّ ولدي العبّاس زق العلم زقاً” (أسرار الشهادة للدربندي: ص 324).
-
ولادة القِيم الفاضلة
فأبو الفضل العباس عندما ولد، تجمعت فيه كل الفضائل، وتبلورت بأخلاقه وسجاياه الجميلة فجمع جمال المظهر، فهو قمر الهواشم، وقمر العشيرة، وجمال المَخْبر، فكان أبو الفضل كله، فلا غرو إن قلنا: “أن الأخوَّة، والشهامة، والرجولة، والبطولة ولدت بولادة أبي الفضل العباس”.
فهل قرأنا في تاريخ الأخوة – عدا الحسن والحسين عليهما السلام – أخوَّة تمثَّلت كأبي العباس؟
وهل سمعنا عن شهامة كشهامة حامي الظعينة وساقي عطاشى كربلاء، وحارس خيمة زينب عليها السلام؟
وهل عرفنا رجولة، وبطولة كتلك التي ظهرت من العباس في يوم عاشوراء وما قبلها من مواقف تقف البطولات والرجولات حائرة في وصفها، لا سيما على المشرعة وفي الفرات المتلاطم؟
في الحقيقة والواقع العباس أعطى منظومة القيم والفضائل العربية، والإسلامية فضيلة أخرى تمثَّلت بشخصه الكريم فتحوَّل من شخص إلى شاخص، ومن فرد إلى رمز للبطولة الشهامة.
عندما ولد أبو الفضل العباس ، تجمعت فيه كل الفضائل، وتبلورت بأخلاقه وسجاياه الجميلة فجمع جمال المظهر، فهو قمر الهواشم، وقمر العشيرة، وجمال المَخْبر
-
سيف العباس ورايته
وبما أن الحديث يدور حول الفضائل فإن كل ما يرتبط بالعباس صار له معنى آخر بعد عاشوراء وهذه دعنا نأخذ من كلام السيد آية الله السيد هادي المدرسي ،حفظه الله، يقول: “لقـد تمثلت في كربلاء روح الوحـي، وتجلَّت الفضائل كلها في مواقف الحسـين، عليه السلام ورجاله، كما تمثلت الرذائـل كلها في أعدائه، وكان للعباس، عليه السلام، قصب السبق بين رجال الحسين، فهو حامل راية الحق، ورمز كرامته، ومن هنا فقد ّ تحول إلى مدرسـة كاملة، يتعلم فيها الرجال الإيمان، والإخلاص، والجهاد، والعطاء، والتضحية، والشهادة في سبيل الله.
مدرسة لا يدخل فيها أحد إلا ليتخرج منهاً، بطلا ً شجاعاً، مؤمنـاً، صادقـاً، لقـد قُطعـت يداه في سـبيل اللـه ولكنهـا نُصبت على مفـارق الطُرق تدلُّ إلى منابـع الفضيلة، وينابيـع المناقب، ولقد رُميت عينُه بسـهم لتبقى عيناً ساهرةً على امتداد التاريخ تحمي الإيمان من أن يختلط بالنفاق، وتحمي الحقيقة من أن تضيع في الزيف”.
ويقول سماحته: “كمـا كان العبـاس، عليه السلام ليلـة عاشـوراء حارسـاً يحمي مخيم الحسين من تطفُّل المنافقين، ومن هجوم أصحاب الباطل، فإنه لا يـزال يقـوم بذات الدَّور فـي حمايـة الفضائل والمناقب مـن اعتداء المتطفلين عليها، فقد أصبح بسـيفه، وبرمحه، وبمواقفه، وبكل حركة من حركاته، ميزاناً ومقياساً ومِفصلاً يُميِّز الزَّيفَ عن الحقيقة، والإيمان عن النفـاق، والصدق عن الكذب، فسـيف العباس هو أكثر سـيوف الحق مضاءً فـي التاريخ، ورايتـه أطـول رايـات الحقيقة امتـداداً في الأزمنة، ومواقفه أنبل ما صدر من أحد الأبطال من مواقف.
لقـد كان العبـاس، عليه السلام قمراً يـدور حول شـمس الإيمان، فهو ذلك العبد الصالح الذي أطاع الله ورسـوله، صلى الله عليه وآله في كل حياته، وبهذا أصبـح قدوة للآخريـن في كل الفضائـل والمناقبيات حتـى أنه لم يعد يُذكر في محفل من المحافل إلا ليُذكِّر الإنسان بكل المثل العليا”. (وجاء العباس: 9).
هكذا قرأ العباس محقاً سماحة السيد المجاهد، لأن العباس كان قمَّة من قمم الإيمان والإخلاص، وذخيرة من ذخائر الخير التي ولدها ورباها أمير المؤمنين، وأنجبها ورعاها أم البنين لتكون ظهيراً ومعيناً ومدافعاً عن أخيه وإمامه الحسين، عليه السلام وبنات الوحي والرسالة، وثقل الولاية والإمامة.
-
شهادة المعصوم
للعباس مواقف ومشاهد يشهد له بها أئمة المسلمين عليهم السلام، يروي ثابت بن أبي صفية، قال: “نظر سيد العابدين علي بن الحسين إلى عُبيد الله بن عباس بن علي بن أبي طالب، فاستعبر، ثم قال: “ما من يوم أشد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) من يوم أحد قُتل فيه عمه حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب”، ثم قال عليه السلام: “ولا يوم کيوم الحسين (عليه السلام) ازدلف إليه ثلاثون ألف رجلا، يزعمون أنهم من هذه الأمة، کلٌ يتقرب إلى الله عز وجل بدمه، وهو باللّه يذکرهم فلا يتعظون، حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً”.
ثم قال عليه السلام: “رحم الله (عمي)العباس، فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه، حتى قُطعت يداه فأبدله الله عز وجل بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة، کما جعل لجعفر بن أبي طالب وإن للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة”.
وعن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: “رحم الله عمنا العباس کان والله نافذ البصيرة، صلب الإيمان، قتل مع أخيه الحسين (عليه السلام) بالطف، ومضى في سبيل الله شهيداً”. (العباس باقر شريف القرشي: ص 42).
هكذا قال المعصوم عن العباس فما عسانا أن نقول فقد انكسر القلم.
فالسلام على أبي الفضائل، وحَسَن الشمائل العباس بن علي ورحمة الله وبركاته أبد الدهر ومدار العصر.