-
مقدمة وذكريات
أذكر فيما مضى من حياتي حيث ولدتُ في قرية وادعة جميلة متربعة على كتف هضبة من هضبات الخط الجبلي الثاني من الساحل السوري الجميل، وهي ترتفع حوالي ثمان مئة كيلو متر عن سطح البحر الذي لا يبعد عنها كثيراً كخط نظر مباشر إلى الغرب.
وبما أننا من حسنات الشيخ محمد مرعي الأنطاكي، رحمه الله، صاحب كتاب “لماذا اخترتُ مذهب أهل البيت”، الذي له الفضل بوصول مذهب أهل البيت، عليهم السلام، إلينا عن طريق زميله في الدراسة، الشيخ محمد ناجي الغفري أولاً ثم كان الحج الوالدأحمد نجيب السيد،رحمة الله تعالى عليهما، وكان للشيخ ناجي عليَّ شخصياً مزيد فضل حيثُ علَّمني ودرَّسني قواعد اللغة العربية وكان يحوطني بمزيد من الحب والتقدير إلى أن توفاه الله، فكان إذا نزل إلى دمشق لا ينزل إلا عندنا لأنه كان يعتبرني وإخوتي كأبنائه تماماً فكان يقول: “لا أرتاح إلا عند أولاد أبو نجيب”.
وكنا نعيش في بيت يضجُّ ويعجُّ من الصباح وحتى آخر الليل بالحوار والنقاش العقائدي بكل أنواعه وصنوفه، ومع كل الطبقات وأنواع المحاورين من مثقفين وجهلاء، ومتدينين ومتأسلمين، وحتى الشيوعيين وبعض الملحدين المتأثرين بالشيوعية الملحدة فكانوا يحاولوا أن يلحدوا، فالكل كان يأتي إلى والدي (الحاج أبو نجيب) ليردَّه إلى دينه ومذهب آبائه وأجداده لأنه صبأ إلى دين الشيخ ناجي، وتشيَّع إلى مذهب أهل البيت كما كانوا يقولون.
ومن ذلك أننا كنا لا نعرف عن الإمام الحسين، عليه السلام ونهضته شيء، ولا نذكره إلا في يوم عاشوراء فقط ولمدة ساعة ونصف لا أكثر حيث جاؤوا لنا – ولا أذكر الآن من أين – شريط كاسيت مسجَّل عليه قصة المقتل للمرحوم الشيخ (عبد الزهراء الكعبي، فكنا نبكي إذا فهمنا، ونتباكى لأننا كثيراً كنا لا نفهم اللهجة العراقية، ولا سيما الأبيات الشعرية بالخصوص، فالمهم أننا نجتمع كلنا في البيت كعائلة فقط ونبكي لمقتل الإمام الحسين، عليه السلام، وإخوته وأبنائه وأصحابه، خفية لكي لا يرانا أحد من الجيران، لأن بكاء الرجال عندنا عيب، وننصرف لعملنا كلٌ في اتجاهه.
ولكن في يوم من الأيام وحيث كنا نفطر صباحاً وكان الحج الوالد خارج البيت فدخل بسرعة والدمع في عينيه، فجلس جانباً وراح يبكي بحرقة، فوجمنا جميعاً فسألناه عن سبب بكائه – لأنه لا يبكي الحجي إلا في عاشوراء كما نعهده نحن فالبكاء للنساء وعيب على الرجل أن يبكي في أعرافنا وعاداتنا الأموية – فقال والدمع يسابقه وبحرقة: خربانة الأرض.
فقلنا مستغربين: لماذا، وماذا حصل.؟
فقال: قاتلين (مغتالين) السيد حسن الشيرازي في بيروت.
كان ما يُميِّز السيد الشهيد خُلُقه الرفيع وتواضعه العجيب، وتعامله الإنساني، للقريب والغريب
وأذكر أنه لبس ثيابه وانتظر الشيخ ناجي ولما جاء الشيخ كان جاهزاً وسافروا إلى دمشق الشام للمشاركة بتأبين السيد الشهيد، وكان ذلك اليوم أول مرة أسمع بها بهذا الاسم فحفظته ولم أنسَه، وبعد سنوات من تلك الحادثة المؤلمة، وحيث تخرَّجتُ من الجامعة وصار عملي في ضواحي دمشق، وانتقلتُ للعيش فيها فكنتُ أمشي راجعاً إلى البيت من العمل والكتب ملقاة على قارعة الطريق وتباع بأسعار جداً بسيطة – فنحن أمة نضع الكتاب على الطريق والحذاء في جامات الزجاج، لأن أمة إقرأ لا تقرأ – فرأيتُ كتاباً مكتوب عليه اسم المؤلف حسن الشيرازي فأخذته وقلبتُ بعض صفحاته أثناء الطريق ولكن وضعته ولم أقرأه في حينها، ولكن إلى الآن أذكر أنني اشتريته لاسم المؤلف فقط حسن الشيرازي وكان الكتاب هو الأدب الموجه كما أذكر.
وبما أننا نسكن مدينة دمشق كان لا بد من زيارة المراقد المقدسة فيها وتاجها كان مرقد السيدة زينب الكبرى، عليها السلام، في ضاحية دمشق، وهناك تعرَّفتُ على الإمام الحسين، عليه السلام، في الحسينيات، وعلى الحوزة العلمية الزينبية الشامخة العامرة التي أسسها السيد الشهيد حسن الشيرازي رحمه الله، ومنها كانت معرفتي بشخصه وتراثه الفكري والأدبي فقرأتُ كل ما حصلتُ عليه من مؤلفاته، ولشدة تأثُّري بأدبه كتبتُ مقدمات موسوعة الكلمة البالغة خمس وعشرين مجلداً جميعها، عدا ما طُبع في حياة السيد الشهيد وقدَّم له بنفسه حتى وإن كان مختصراً وغير كامل ككلمة الإمام المهدي عجل الله فرجه.
-
قالوا في السيد الشهيد
يقول السيد المسيح كما ينقلون عنه عليه السلام: “من الثمرة تُعرفُ الشجرة”1.
وأنا لم أر السيد حسن في حياتي، ولا حتى والدي رآه على ما في ذهني، ولكن أدركتُ وعرفتُ ثماره اليانعة، فتعرفتُ على أدبه من قلمه، وعلى فكره من علمه، وعلى همَّته من منجزاته ومشاريعه، وعلى أخلاقه من تلاميذه، وعلى جهاده من شهادته، وعلى أصله من فصله، وعلى حياته من موته، ونتيجة ذلك كله عرفتُه كشاخص وليس كشخص، وكعالم أديب، وشاعر أريب عالي الهمَّة، بعيد المدى، إذا قال نفع، وإذا كتب أبدع، قلمه يقطر عسلاً وبلسماً للمؤمنين، وسماً وعلقماً وناراً على الطغاة والمفسدين، فأحببتُه بحق، وكتبتُ عنه بصدق.
كان ما يُميِّز السيد الشهيد خُلُقه الرفيع وتواضعه العجيب، وتعامله الإنساني، للقريب والغريب، ومما أذكره هنا كحادثة جرت في مكتبه في دمشق الشام، حيث نقلها لي أحد الأخوة شخصياً، قال: “كان السيد حسن يتنقل بين لبنان وسوريا وعادة يقضي ثلاثة أيام في سوريا وأربعة في لبنان وكان له مكتب خاص في شارع الأمين الحي الدمشقي المعروف، وكان المكتب عبارة عن شقة في بناية وكان مقابل المكتب عيادة لطبيب أسنان مسيحي، ولا أحد يعرف أي علاقة كانت بين السيد حسن وجاره الدكتور، فالفارق كبير بينهما على ما يبدو ولم يجمع بينهم إلا هذه البناية، ولكن بعد أن استشهد السيد حسن لاحظ أحد الأخوة أن الدكتور كلما جاء ليفتح عيادته ينظر إلى باب مكتب السيد ويلوح برأسه متأسفاً”.
فيقول: “أحببتُ أن أعرف منه لماذا هذا التصرف الغير حضاري من دكتور، فهل رأى منَّا شيء يسيئه أو أن وجودنا يؤذيه، أو غير ذلك.. فذهبتُ إليه فاستقبلني بحفاوة وترحيب فعرَّفته بنفسي وقلتُ له: أراك تنظر إلى الباب بحسرة وأسف هل بدر منَّا ما يزعجك دكتور؟
فقال: لا أبداً.. ولكن لا يوجد أحد منكم مثل السيد حسن.
فقلتُ: كيف ولماذا، وما الذي رايته من السيد؟
فقال والدمعة تلوح في عينيه: كان لا يدخل على مكتبه إلا ويزورني ويُسلِّم عليَّ ويسألني عن حالي وصحتي وعيالي، وأنتم منذ أن توفي السيد حسن ولا واحد منكم دخل عيادتي، فأنا جاركم ورسولكم محمد (ص) أوصى بي، فلماذا لا تسألون عني كما كان يفعل السيد حسن.؟ ولذا أقول لك مرة ثانية: لا أحد منكم مثل السيد حسن”.
وفي الحقيقة كثيرة هي الشهادات، والقصص، والمشاهدات عن ذاك الشخص الكبير، في فكره، وعقله، ودينه، وأخلاقه، ولا بأس أن نأخذ بعض الكلمات قالها أدباء لهم سمعتهم كالأديب الكبير الأستاذ جورج جرداق في تقديمه لكتاب، الأدب الموجه للسيد الشهيد قال عنه: “عرفتُ السيد حسن الشيرازي ذهناً صافياً، ولساناً صادقاً، وقلباً محباً، ووجهاً تنعكس عليه أنوار نفس كريمة، وأخلاق رفيعة، وكأنه بذلك كله مجتمع المزايا العالية التي لا بد أن يتصف بها كل مَنْ جاور الحسين بن علي في كربلاء، وكل من اقتبس من سيرته العظيمة سمواً وعلواً”.
وقال العلامة السيد محمد حسن الأمين عنه: “إن لكل عالِم مجموعة من الصفات والخصوصيات لا يستطيع العالم الآخر أن يكون نسخة مباشرة له، فكيف إذا كان العالِم على مثال أو على غرار فقيدنا الجليل الذي اجتمع في شخصه عدد كبير من الميزات والمواهب، فهو الفقيه المجدد، وهو المفكر المتنور، وهو الأديب المبدع، وهو مع ذلك المجاهد الذي لا يُشقُّ له غبار في طريق وفي ميادين الجهاد التي عرفها عصرنا”2 .
كتبتُ هذه الكلمات البسيطة لأشارك الأخوة الكرام باحياء ذكرى هذا العَلَم الكبير، والشهيد السعيد الذي كان فدائياً من الطراز الأول في الجهاد في القول والعمل للدفاع عن الدين وأهله، وعن الأمة وشعوبها، وعن العراق العزيز بمكوناته كلها، فمازالت قصائده تُذكر على المنابر ويتغنى بها الأصاغر والأكابر، لأنها كانت من الطراز الرفيع، وبعضها صار مثلاً كقوله:
أَمــل الشعــوب ومجــدهــا الإســلام *** وســواه كــفــر زائــف وظــــلام
فــدع الــمــبادئ كـــلها في مــعــزل *** أن الــمــبادئ كــلــهــا هــــــدام
واعــمل لتــطبـيق الكــتاب مجـاهداً *** إن العــقــيدة مصــحف وحســام
واسحــق جـباه الملحــديــن مُــردداً *** لا الســجن يُــرهـبني ولا الإعدام
والحديث عن هذا العالم العامل والمجاهد الأديب المناضل يطول لما له مزيد فضل علينا في الشام، لما قام به من أعمال مازالت قبلة تؤمها الجموع لتنهل العلم كالحوزات العلمية، أو تعبد الله في جنباتها كالمساجد والحسينيات في مختلف المناطق السورية.
فالسيد الشهيد كان قدوة في العلم والجهاد والعمل والتضحية في سيبل الله والعقيدة المحقة، ولا يسعنا في هذه العجالة إلا أن نترحم عليه ونترضى أيضاً.
فآلاف التحية والسلام على تلك الروح المتوثبة للحق، المتطلعة لتحقيق أهداف الإسلام العظيم، وبناء حضارته القيمة الإنسانية الراقية والعالية.
———————————.
1ــ إنجيل متّى 12: 33).
2ـ مجلة المرشد العدد 17 ـ 18، 1425هـ/ 2004م.