المتأمل في التاريخ البشري منذ أبينا الأول نبي الله آدم عليه السلام، أو أبينا الثاني رسول الله نوح، عليه السلام، فإننا لن نجد بيتاً كان يتصف بكل صفات الرِّفعة والكمال الإنساني، إلا البيت المثال في الرفعة والكمال والجلال في هذه الأمة المرحومة.
فنبي الله آدم ابتلي بقابيل، أول مجرم في هذه الدنيا، حيث قتل أخاه الأصلح والأنصح هابيل ظلماً وعدواناً، وكذلك كان بيت رسول الله نوح، حيث ابتُلي بزوجته، وولده كنعان الذي رفض أن يركب معه في السفينة فهلك مع الهالكين، والمرأة صارت مثلاً سائراً في العاصين، قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}. (التحريم: 10).
فما أدراك بقية الأنبياء عليهم السلام، وغيرهم من بني البشر وبيوتهم التي تعجُّ، وتضجُّ بالأمثلة على الخير والشر، والمصلح والمفسد، والمؤمن والجاحد فسُنَّة الله في الكون الزوجية، وفي المجتمعات البشرية الاختلاف في الأشكال والألوان والطبائع كما في قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}. (الروم: 22).
هذا الاختلاف الذي نراه واقعاً في كل بيت تقريباً ناتج من عدَّة عوامل تؤثر فيه، كالعادات والتقاليد، والظروف الاجتماعية، والأسرة، والمحيط الثقافي، والقيمي الذي تعيش فيه الأسرة والفرد.
الزهراء، عليها السلام، كانت على درجة رفيعة للغاية في امتلاكها لثقافة الأمومة التي من أول معطياتها النظر باحترام بالغ إلى الأولاد وبالتالي التعامل مع كل فرد منهم على أنه إنسان مكتمل مؤهل لتلقي التربية والتعليم
ولكن يبقى عامل التربية هو من أقوى وأجدى وأنفع العوامل التي تؤثر في حياة الأسرة وأفرادها جميعاً، لا سيما الأبناء ذكوراً وإناثاً، لأنهم هم المعنيون والمقصودون في العملية التربوية برعاية كريمة من الأبوين، ولا أحد يستطيع أن يُنكر أو يُلغي دور الوالدين من الأسرة، وربما أساس الفساد الذي نراه في العالم أجمع في هذا العصر هو من محاولة الطغاة والجبارين تدمير الأسرة، بضرب أساسها وهي الأم حيث أخرجها من بيتها ومعقلها وقصرها – لأن كل امرأة هي ملكة في بيتها وهو يشبه قصر لها – إلى الشارع ليتلاعبوا فيها، وفي مشاعرها وأحاسيسها الناعمة الرقيقة بحجج واهية ودعاوي باطلة كالحرية، والتعليم، والحضارة المادية، فأفسدوا البلاد والعباد.
ولذا ترى العقلاء في هذا العالم المجنون راحوا ينادون ويطالبون بالرجوع إلى الأسرة، والمرأة إلى البيت لتربِّي أبناءها وتحفظ بيتها وزوجها ويضربون نواقيس الخطر على أعلى المستويات، لا سيما المنظمات الأممية والجمعيات المدنية الدولية..
حتى أن الكاتبة الأمريكية “جوانا فرنسيس” تكتب مقالاً جميلاً جداً تعبِّر فيه عن فطرتها كامرأة فتقول منتقدة الحياة الغربية عامة والأمريكية خاصة: “إنهم يريدون تدمير عائلاتكم، ويحاولون إقناعكن بإنجاب عدد قليل من الأطفال، إنهم يفعلون ذلك بتصوير الزواج على أنه شكل من أشكال العبودية، وبأن الأمومة لعنة، وبأن الاحتشام والطهارة عفا عليهما الزمن وهي أفكار بالية، يريدون لكن الرفض وفقد الإيمان”.
هكذا صارت الزهراء، عليها السلام، أماً في ربيع عمرها الشريف ولكن ربَّت فخر الدنيا والآخرة الحسن والحسين، سيدا شباب أهل الجنة، وأختهما فخر المخدرات عقيلة بني هاشم الأكارم السيدة زينب، عليها السلام
وفي السياق ذاته، ترى الكاتبة الأمريكية أن لباس المرأة المسلمة المحتشم يعتبر الأكثر جاذبية من أي زي غربي، لأنه بحسب زعمها، يحيطها بالغموض والاحترام والثقة، معتبرة أن الجاذبية الجنسية للمرأة يجب حمايتها من الأعين التافهة، ويتعين أن تكون هذه الجاذبية هدية المرأة للرجل الذي يحبها ويحترمها بغرض الزواج، مشبهة النساء المسلمات بالجواهر الثمينة، إذ قالت: “في نظري أنتن كالجواهر الثمينة، ذهب خالص، أو اللؤلؤة ذات القيمة العالية.. أنتن حجارة الألماس الذي لا عيب فيه، فلا تسمحوا لهم بالاحتيال عليكن وتحويلكن إلى حجارة لا قيمة لها، لأن كل ما ترونه في مجلات الأزياء الغربية والتلفزة الغربية عبارة عن أكاذيب، إنها مصيدة الشيطان أو إبليس، إنه ذهب كاذب”.
هذا صوت من آلاف الأصوات العاقلة التي تنادي بالعودة إلى حضن الأبوين والأسرة الدافئ.
فالأم في بيتها أهم لها وللعالم من أن تكون حاكمة، أو وزيرة، أو غير ذلك لأن هذا نجد له ألف بديل من الذكور ولكن لا بديل عن الأم في البيت، لسلامة الأطفال من إنجابهم، وحفظهم، ورعايتهم، وتربيتهم تربية قيمة إنسانية، فالأم قلعة حب وحنان وفيض عطاء لأبنائها.
وهنا يبرز لنا في هذه الدنيا بيتاً ليس كالبيوت، وأسرةً ليست كالأسر، هو بيت المثال والقدوة والأسوة الذي اختارهم الله على علم على العالمين، وأذهب عنهم الرِّجس والدَّنس قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}. (الأحزاب: 33).
هذا البيت الطاهر كانت ملكته وصاحبته أشرف، وأعظم، وأطهر مخلوقة من النساء، بل هي سيدة النساء فاطمة الزهراء روحي لها الفداء، هذه السيدة العظيمة، وهي الحوراء الإنسية خلقاً وخُلقاً ومنطقاً، كانت بنتاً للنبي فصارت أم أبيها بحبها وعطفها وحنانها عليه.
الأم في بيتها أهم لها وللعالم من أن تكون حاكمة، أو وزيرة، أو غير ذلك لأن هذا نجد له ألف بديل من الذكور ولكن لا بديل عن الأم في البيت، لسلامة الأطفال من إنجابهم، وحفظهم، ورعايتهم، وتربيتهم تربية قيمة إنسانية
ثم صارت زوجة مثالية، وقرينة لفحل الرجال وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
يقول سماحة السيد المرجع المدرسي في كتابه: فاطمة الزهراء قدوة الصديقين: “من القضايا والمؤشرات المهمة في حياة سيدتنا ومولاتنا الصديقة الزهراء، سلام الله عليها، قضية التربية، حيث أن ما عرفناه عنها أنها أنجبت الذرّية الطيبة التي لا تدانيها ذرية إنسانية أخرى في الصلاح على مدى التاريخ، فهي القمَّة فوق القمم، وهي المثل الأعلى في الخير والأصالة، ومن الطبيعي أن كانت لهذه التربية قواعد وأصول وضوابط؛ قد ألهمها الله للصديقة الزهراء، كما علّمها أبوها، صلى الله عليه وآله”.
ثم يقول: “فالزهراء، عليها السلام، كانت على درجة رفيعة للغاية في امتلاكها لثقافة الأمومة التي من أول معطياتها النظر باحترام بالغ إلى الأولاد وبالتالي التعامل مع كل فرد منهم على أنه إنسان مكتمل مؤهل لتلقي التربية والتعليم، وليس الانتظار به حتى يكمل السادسة والسابعة من عمره حتى يُعلّم أو يُربّى، كما هو حادث في زمننا المعاصر.
فأن تتعلم البنت قبل أن تكون أمّاً ثقافة الحياة وثقافة الأمومة، خير لها من أن تتعلّم علوم الحياة الأخرى، رغم عدم وجود المانع من ذلك، فالبنت مسؤولة قبل كل شيء سواء أمام الله تعالى أو أمام مجتمعها عن تعلّم أسس التربية والتعليم، بما يضم ذلك من القواعد الصحية خاصة بسلامتها وسلامة طفلها، ومن النواحي الروحية والعاطفية التي لا بد للطفل من أن يأخذ نصيبه الوافر منها، للحيلولة دونه ودون ابتلائه وتعرضه للأزمات النفسية التي تجرّ إلى الويلات الاجتماعية فيما بعد.
ثم يدعو سماحته إلى (نشر ثقافة الأمومة، التي هي تجسيد لثقافة الحياة على وسعها، حيث تتكرس ضرورة تلقي البنات ومنذ نعومة أظفارهن تلكم الثقافة، لتجري فيهن مجرى الدم في العروق، ولا أحسن من تدوين تفاصيل ثقافة الأمومة عبر الدراسة الدقيقة والواعية لحياة قدوات النساء المسلمات، وفي مقدمتهن الزهراء البتول والسيدة زينب عليهما صلوات الله وسلامه).
هكذا صارت الزهراء، عليها السلام، أماً في ربيع عمرها الشريف ولكن ربَّت فخر الدنيا والآخرة الحسن والحسين، سيدا شباب أهل الجنة، وأختهما فخر المخدرات عقيلة بني هاشم الأكارم السيدة زينب، عليها السلام، ذاك البيت الذي ادخره الله لخلقه واتخذه مثالاً لعباده وأمرهم بالاقتداء بهم والتأسي بسيرتهم وانتهاج نهجهم القويم في هذه الدنيا، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ}.(النور: 36)
ذاك بيت النبوة والإمامة بيت النور الإلهي في هذه الدنيا، وفاطمة الزهراء هي ملكة ذاك البيت، وأم تلك الكوكبة الدُّرية في الحياة الإنسانية، فأي تربية كانت، وأي مربية كُنتِ سيدتي ومولاتي يا فاطمة؟
ألا يجدر بنا في هذا العصر الأغبر أن نعيد قراءة سيرة السيدة فاطمة، عليها السلام، التربوية لنصوغ برامجنا التربوية على المناهج الفاطمية، لعلنا نعيد إلى أسرنا الفرحة والبهجة والسرور وإلى أطفالنا التربية الصالحة ليكونوا رجال هداية ونور وإيمان في قادم الأيام؟