رأي

القيادة المرجعية خشبة الخلاص

أثبتت المرجعية الدينية في العراق أنها مصدر للخير والأمان، ومنبع للقيم والمفاهيم التي يطمئن اليها الناس وينظمون من خلالها حياتهم، ولم يكونوا؛ منذ أول تجربة ناجحة لهذه العلاقة مع المرجع …

أثبتت المرجعية الدينية في العراق أنها مصدر للخير والأمان، ومنبع للقيم والمفاهيم التي يطمئن اليها الناس وينظمون من خلالها حياتهم، ولم يكونوا؛ منذ أول تجربة ناجحة لهذه العلاقة مع المرجع الديني الاعلى في زمانه الشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي، سبباً لإراقة الدماء، ولا لانعدام الأمن والاستقرار، وشيوع الظواهر السلبية في المجتمع، مثل العنف، والفوضى، والتسيّب الاخلاقي، وإن اقتضى الأمر مواجهة المخاطر التي تهدد حياة الناس وعقيدتهم وكرامتهم، فان تضحياتهم بالنفس والمال، تكون حبّاً وكرامة، لايمانهم الراسخ بانها تجلب لاهلهم وللاجيال؛ الخير، العزّ، والكرامة.
ومنذ اجتياح عناصر تنظيم داعش للاراضي العراقية واحتلالهم لمساحات واسعة من ارض العراق، تُعد هذه المرة الثانية التي يجرّب فيها العراقيون عدوان سافر، ليس من جماعات ارهابية تختفي خلف الاقنعة والشعارات الدينية، وإنما من حكومة الولايات المتحدة، ومن شخص رئيسها دونالد ترامب بإصداره الاوامر مرتين خلال فترة وجيزة، الاولى؛ قصف مقار الحشد الشعبي على الحدود المتاخمة لسوريا، مما تسبب باستشهاد ثلاثين مقاتلاً، والثانية؛ قصف مركبة القائد العسكري الايراني قاسم سليماني، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، ابو مهدي المهندس، مع ستة من المرافقين مما أدى الى استشهادهم جميعاً.
هذا التغيّر الخطير في تعامل واشنطن مع العراق، وبغض النظر عن التجاذبات السياسية في المنطقة، وإطار العلاقات المفترضة بينها وبين الحكومة العراقية (الدولة العراقية)، فانه يأتي في وقت حاسم وحساس جداً بالنسبة للشعب العراقي فهو ينتظر بفارغ الصبر كسب –ولو بعض- ثمار حراكه الجماهيري، وما قام به خلال الايام الماضية، ومنذ 25تشرين الاول الماضي، من اعتصامات واحتجاجات في الشوارع والساحات الكبيرة في وسط وجنوب البلاد للضغط على الطبقة السياسية الحاكمة بتغيير الواقع السيئ الذي يعيشه الشعب العراقي، بسبب الفساد والبطالة والتوزيع غير العادل للثروة، حتى تفاجأ الجميع بتعرض قاعدة عسكرية اميركية في كركوك لقصف صاروخي، بلغ ثلاثين صاروخاً حسب وسائل الاعلام، مما تسبب بمقتل متعاقد اميركي، وبالرغم من الاتهامات الاميركية بوقوف ايران خلف هذه العملية، لم تقدم واشنطن أي دليل على مزاعمها هذه، فقامت بعد فترة بقصف جوي لمقار الحشد الشعبي في صحراء الانبار، ليأتي بعده رد الفعل الطبيعي من قوات الحشد بمسيرات احتجاجية أمام السفارة الاميركية في بغداد، ثم لينتهي كل شيء خلال يوم واحد، حتى أن بعض افراد الحشد كانوا يعتزمون نصب الخيام للبقاء فترة غير محددة معتصمين امام السفارة، فكانت الأوامر بغير ذلك، فانسحب الجميع بهدوء، وانتهى كل شيء دون أي اقتحام، كما توقع البعض، سوى حرق بعض الابواب وتدمير مكتب استعلامات في المنطقة الخارجية للسفارة، وليس ضمن المنطقة المغلقة للسفارة نفسها.
لوعة أرامل وايتام شهداء الحشد الشعبي في منطقة القائم على الحدود السورية، جاءت لتضيف لوعة أخرى على قلوب العراقيين من نظام حكم فاشل يعجز، ليس فقط عن توفير العيش الكريم لشعبه، وإنما حتى الأمن والاستقرار، فالذي قتل العراقيين لم تكن عناصر ارهابية كما في السابق، وإنما دولة اميركا التي يفترض انها تلتزم باتفاقية أمنية مع العراق فحواها الدفاع عن أمن واستقرار العراق في حال تعرضه للخطر.
أمام هذا الغدر، وهذا الاستخفاف والإذلال من الحكومة الاميركية، ومن شخص مثل ترامب، يفترض ان يفجر الشارع العراقي بأسره، بيد أن يد المرجعية الدينية جاءت لتبرد الصدر الملتهب للشعب العراقي وتربط على قلبه، داعية إياه بضبط النفس والتحلّي بالصبر وعدم الانجرار الى مواجهة ليس في صالحه.
طبعاً؛ شهد العالم، وفي المقدمة قادة اميركا؛ السياسيين منهم، والعسكريين، وحتى المنظرين والمفكرين، كيف أن رجلاً كهلاً لا يملك من القدرات التي يعرفونها شيئاً، تمكن من تسكين غضب الناس الملكومين من فقد أحبائهم في العمليات الارهابية الغادرة طيلة السنوات الماضية، وأن يفكروا بالمستقبل، وببناء البلد والانسان، قبل الخوض في ردود الفعل، ثم نفس هذا الرجل يصدر كلمة أخرى، تجعل الآلاف يندفعون الى ساحات المعارك ويتسابقون للموت تحت راية فتوى الجهاد الكفائي ويحققون ذلك الانتصار الباهر.
فاذا كانت مهمة العراقيين بالأمس القريب، محاربة الفساد والفاسدين في مؤسسات الدولة العراقية، فان اليوم أضيفت مهمة جديدة أكبر وأخطر بكثير من الاولى، كونها تمثل بؤرة المشكلة العويصة في العراق، عليهم التلاحم والتكاتف لانتزاع السيادة ممن يروم سرقتها الى الأبد منهم، وجعلهم يتخبطون بين أمواج الفتن والاضطرابات الى أمد غير معلوم، وذلك بالعودة مرة أخرى الى قيادة المرجعية الدينية، ولكن؛ كيف؟!
للإجابة، وبكل بساطة؛ بالعودة الى تجاربنا الناجحة مع قيادة المرجعية الدينية في العراق عندما سرنا خلفها وحققنا الكثير من المنجزات فيما مضى من الزمن، لنرى كيف أن المجتمع العراقي وظف كل قدراته، وحشّد كل طبقاته وشرائحه للوقوف خلف قيادته الحقيقية والإصغاء لما تقول، قبل التسرع بإصدار الاحكام والتفرق في اتخاذ المواقف، والخوض بتحليلات ونقاشات جدلية تبعد اصحابها عن الحقيقة، وتقربهم الى الفتنة أكثر.
لا المرجعية الدينية، ولا الاحزاب السياسية، ولا حتى منظرين وعلماء، يتمكنون بمفردهم محاربة الفساد والقضاء على المفسدين بالنيابة عن الشعب العراقي، فلا مجال لحرب بالوكالة من هذا النوع، إنما الشعب العراقي هو نفسه، وبدعم وإسناد من المرجعية الدينية من شأنه وضع حدٍ لهذه المعاناة التي يعيشها، متسلحاً بالوعي الكامل والثقافة والفكر الأصيل الذي يبصره الطريق الى بر الأمان.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا