قراءة فی کتاب

أُصُوْلُ الْحَضَارَةِ بَيْنَ رُوحِ الْقِيَمِ وَبَرَاعَةِ الْشَّكلِ

وصلني اليوم كتاباً جميلً بحلَّةٍ قشيبة، صادر عن مركز الفكر الرسالي للدراسات والأبحاث، وهو العدد (12) من سلسلة الفكر الرسالي، الطبعة …

 

  • تعريف بالكتاب

وصلني اليوم كتاباً جميلً بحلَّةٍ قشيبة، صادر عن مركز الفكر الرسالي للدراسات والأبحاث، وهو العدد (12) من سلسلة الفكر الرسالي، الطبعة الأولى 2019م.
الكتاب من روائع سماحة آية الله السيد هادي المدرسي(حفظه الله) كتبه بأسلوبه الراقي، وأدبه الرفيع ليعطينا فكرة عن أصول الحضارة القِيَمية الحقيقية، والفرق بينها وبين الحضارة الرقمية الشكلية الزائفة..
فيه ثلاث وثلاثون مقالة قصيرة وجميلة، ولم يُفصِّل سماحته إلا في عوامل سقوط الحضارات ويُعدد ستة يراها أسباب سقوط الحضارات، وفي معاول هدم الحضارات فيدد منها احدى شر معولاً يهدمون الحضارة البشرية.
وكل المقالات مسبوكة بخبرة عالة، فتمثل عصارة تجربة طويلة عاشها سماحته وعكسها في هذا الكتاب الصغير في حجمه الكبير في معلوماته..

  • تعريف الحضارة

في الخطوة الأولى يُحاول المؤلف أن يُعرِّف لنا الحضارة، إلا أنه يجدها مختلف فيها وفي معناها منذ القديم وذلك تبعاً لمغزاها المادي أو المعنوي، ولا يغفل عن الطعن برأي ابن خلدون في ذلك الذي جعل من الحضارة لعبة يقوم بها المتخلفون من البدو حيث يغزون أهل الحضر المترفين في مدنهم ويستولون على بيوتهم وأموالهم وعندما يستقرون يأتيهم مَنْ يغزوهم أيضاً..
ليصل إلى تعريف للحضارة استقاه من جناب السيد المرجع المدرسي(حفظه الله) بقوله: الحضارة هي (حضور الإنسان عند الإنسان وتعاونه وتفاعله معه، ابتداءً من الحضور المادي وانتهاءً بالتفاعل المعنوي، ومروراً بالتعاون العملي، وهذه البنود هي التي تُشكل قواعد الحضارة) (الحضارة الإسلامية.. آفاق وتطلعات: ص31)
وبعد شرح وبيان يصل السيد إلى القول: (كل الأمم إذا أخذت بأسباب العلم، وتمسكت بالقيم والمُثُل، وسَعت إلى تطوير حياتها، فإنها قادرة على أن تتقدَّم في الحياة، ومن ثَمَّ فهي قادرة على بناء حضارة متميِّزة متقدِّمة)

  • كيف تُولدُ الحضارة؟

لو سألنا السيد هذا السؤال لقال لنا: هناك شكلان من أشكال الولادة الحضارية هما:
1- أن تولد الحضارة مثلما تولد الشرارة في الظلام، نتيجة إرادة عليا مثل الحضارة الإسلامية التي جاءت بفعل الوحي وقيادة الرسول، صلى الله عليه وآله، وتفاعل الأمة..
2- أن تأتي الحضارة نتيجة التفاعلات الحضارية المتبادلة، كالحضارة الغربية التي عاشت على تراث المسلمين، وحضارة اليابان والصين الناهضة وهكذا.
ولكن السيد يرفض جازماً نظرية صدام الحضارات وصراعها الذي تسوِّق له الصهيونية والماسونية العالمية بل (نؤمن بتفاعل الحضارات وتكاملها)، فنظرته نابعة من فكر تسالمي قيمي، لا تصادمي جاهلي، كتلك النظريات التي سوقها اليهود في مطلع القرن الحالي.

  • عوامل قيام الحضارات

في الفكر الغربي المعاصر عنصران هما لب عوامل بناء وقيام الحضارة هما: الإنسان والطبيعة، ولذا تراهم لذا تراهم يُدمِّرون الطبيعة، ويعبدون أنفسهم وأهواءهم ومصالحهم، لأنهم ليس لديهم قيماً يعيشون لأجلها، وأما الحقيقة فإن الحضارة ليست بذلك فقط بل بالروح والمعنوية والقيم التي تشكل روح الحضارة وقيمتها الحقيقية في الحياة الإنسانية.
يقول سماحته: (إن عوامل قيام الحضارات هي أمور ترتبط بتصرُّف الإنسان وحُسن نظرته إلى الحياة، ونشاطه في مختلف المجالات، فالإنسان هو وسيلة قيام الحضارات وهو الهدف من وراء قيامها، فأي مجتمع بدون حضارة سيكون مجتمعاً متخلفاً، والحضارة لا بد أن تنمِّي عقلية الإنسان وأن تبعده عن الهمجية.
ثم يقول: فقدرة مجموعة من البشر في فترة من الزمن على إقامة حضارة، إنما يرتبط بالجوانب العلمية والثقافية والظروف البيئية والعوامل الاقتصادية كما ترتبط بإرادة الإنسان وطموحه وعزمه، ويرتبط حتماً بالقيم الاجتماعية التي يلتزم بها الناس)، فالقيم أساس في بناء الحضارة وليس هامشاً من هوامشها، أو من مخلفاتها كما في الحضارة الرقمية الغربية اليوم.

  • كيف تبدأ الحضارة؟

وللجواب على هذا السؤال يقول سماحة السيد هادي: (الحضارة تبدأ من فكرة)، والفكرة الصالحة كالبذرة الصالحة إذا تأمنت لها كل الشروط نمت وكبرت وأزهرت وأثمرت وأينع ثمارها لجانيها ولكن يجب أن يتوفر لها شرطان هما:
1- البذرة الصالحة.
2- تعاهد تلك البذرة ورعايتها حتى تكبر.
فالفكرة هي المنطلق، وهي الركيزة الأساس التي تُبنى عليها الحضارة، كما يسميها المرجع الديني سماحة السيد محمد تقي المدرسي(حفظه الله) (بالفكرة الحضارية) التي يُعلِّق عليها بقوله: (بقدر ما تكون الفكرة مليئة بركائز التقدم والنصر، وبقدر ما تبعثه في الإنسان المتقمِّص لها من الإيمان والمعرفة، سيكون تقدم الأمة وانتصارها.. ولن تغني الفكرة الحضارية شيءً لو لم تملك الأصالة والواقعية، ولم تكن قادرة على تحميل نفسها على كتف الحياة حتى تصنع رجالاً، وتصنع بهم بطولات، تصنع بها حضارة متفوِّقة.. إذ من دون التفاعل بين الإنسان والفكرة كيف يتمكن الإنسان من تغيير واقع الحياة وبنائها؟ فهل تتقدَّم أمةٌ تملك تراثاً ضخماً من الفكر الحضاري لو لم يتحوَّل فعلاً إلى عطاء وعمل؟) (الفكر الإسلامي مواجهة حضارية السيد محمد تقي المدرسي: ص 23)

  • سقوط الحضارات

الحضارة تسقط في قيمها، ثم تترنَّح في واقعها، على أن تسقط، (يمكن أن تسقط الحضارة وتزول لأن الحضارة هي نتاج عمل الإنسان ونشاطه، وتسقط الحضارات بسقوط أصحابها، وانحرافهم عن المسير الحضاري، وفي الحقيقة فإن هذا السقوط لا يكون اعتباطياً، وإنما نتيجة مجموعة من الأسباب والمسببات، وهذا ما أكدته الآية الكريمة: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} (الكهف: 59).
ثم نوجه السؤال الى سماحة آية الله السيد هادي المدرسي عن عوامل سقوط الحضارات؟
الحضارات لا بد أن تسقط في يوم من الأيام لأن ذلك سُنَّة من سنن الباري عز وجل في الأشخاص، وفي المجتمعات، وفي الحضارات أيضاً، ولكن لسقوط الحضارات ستة عوامل هي:
1- انعدام العدالة.
2- التدهور البيئي.
3- العنف السياسي.
4- الصدمات الخارجية.
5- تعقيد المجتمع.
6- الحظ العاثر. وهذا من طرائف سماحة السيد هادي.
كما أنه يمكن أن تسقط الحضارة بيديها انتحاراً، ولا تموت بشكل طبيعي، فالأمم تنتصر أو تنهزم والحضارات تقوم أو تبيد كل ذلك بفعل العوامل الداخلية، وليست العوامل الخارجية إلا مكملة للعوامل الداخلية)، ولذا نشهد عدداً من معاول الهدم التي تعمل في تقويض الحضارة وهدمها على رؤوس أصحابها، من هذه المعاول كما يراها سماحة السيد هادي هي:
1- الكفر وعدم الإيمان.
2- المعاصي والذنوب.
3- مخالفة سنن الباري تعالى.
4- الظلم.
5- كُفران النعم.
6- صغائر الأمور.
7- الترف والبطر..
8- الفساد.
9- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
10- التفرق والاختلاف.
11ـ الاستبداد..
تلك هي معاول الهدم التي تحطم الحضارة بأيدي أصحابها، وذلك كله يجمعه الفسق بالمعنى الأعم حيث قال ربنا سبحانه وتعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (الإسراء: 16).
والفساد بالمعنى المطلق له، قال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم: 41).
وهذا الفساد الذي عمَّ البلاد والعباد، والظلم والطغيان وانعدام العدالة الاجتماعية هي التي دمرت البلاد والعباد في واقعنا الذي نعيشه في العراق الجريح، وما حوله في بلداننا العربية والإسلامية، على امتداد بلدانها المنكوبة بقطعان الظلام الصهيووهابية المجرمة.
نحن نعيش في عصر الحضارة الرقمية، وهذا بحدِّ ذاته تحدي كبير لنا كأمة، ولنا كمثقفين فيها، وذلك لن الأمة التي لا يقودها أهل الفكر سيتحكم فيها أهل الجهل ويسوقوها على الضلال والكفر بلا شك ولا ريب، كما نرى ونسمع ونعيش في واقعنا المتأزم الآن بحيث يقودنا الجوكر الأمريكي إلى المسلخ ليذبحنا ونحن نسير وراءه دون تفكير، فهل يُعقل أننا نصدِّق أن أمريكا، وإسرائيل، وابن سلمان، وابن نهيان، وأردغان يحبون العراق ويعشقونه لهذه الدرجة؟
البصيرة مطلوبة يا أهل الإيمان والحضارة القيمية الإسلامية الراقية، كي لا تسقطوا من جديد.
وأخيراً؛ الكتاب يفتح نوافذ عدَّة لأهل الفكر والثقافة ليطلعوا على الجوانب المنيرة السليمة، والمعتمة المظلمة من الحضارة الرقمية التي نعيشها اليوم، وسماحة السيد راقي جداً في طرحه وأسلوبه السهل السلس، وربما يحتاج منا لوقفة أخرى لنبين مواطن الخلل في الأمة الإسلامية، ومشاكلها وعلاج تلك المشاكل كما يراها سماحته، وهذا لا يُعفي من قراءة هذا الكتاب الجميل والطرح الحضاري لهذه المشكلة الحضارية الآن.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا