قال أمير المؤمنين، عليه السلام: ” رحم الله خباب بن الأرت فلقد أسلم راغبا، وهاجر طائعا وعاش مجاهدا. طوبى لمن ذكر المعاد، وعمل للحساب، وقنع بالكفاف، ورضى عن الله”.
حينما عاد أمير المؤمنين، عليه السلام، من معركة صفين الى الكوفة، رأى قبرا وأناس عليه، فسأل: قبر من هذا؟
فقالوا: هذا قبر الخباب بن الارت.
وكان الخباب رفيق أمير المؤمنين، منذ فترة طويلة، فقال الإمام علي في حقه الكلمة التي توجنا المقال بها، وكانت وفاة الخباب في عام 37 هجرية، وقيل عام 39، وكان عمره الثالثة والسبعين عاما.
أمير المؤمنين، عليه السلام، وصف الخباب بأوصاف لو اجتمعت في انسان فطوبى له؛ فقد “أسلم راغبا”، فحينما اسلم الخباب كان النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، منبوذا في مكة، وكان الكل يتحدثون عن رجل مجنون خرج عن قيم قومه، وعن الدِين السائد في مكة.
ولذا كان إيمان الخباب يعني ان يكون منبوذا داخل المجتمع، فالإيمان ــ في ذلك الوقت ــ كان مكلفا، ولم يؤدِ الى ان يحصل الانسان على مغنم، بل كان يحصد المشاكل والصعوبات، وأولها ان يتعرض لحرب نفسية قاسية، فيُتهم مَن يؤمن بأنه مجنونا ومارق عن الدِين وكافر بالآلهة، والايمان بالنبي حينذاك كان يتطلب شفافية في الروح، واستعدادا لتحمل كافة الصعاب.
بعض المسلمين اليوم يريد ان يحقق مكاسب كبيرة خلال اربع وعشرين ساعة، وهو بالأساس لم يقدم شيئا لا ماله ولا من نفسه، والعجيب ان ترى كلمات الجزع من أناس لم يقدموا شيئا
هنالك إنسان يُسلم ليس عن رغبة، حينما يكون الإسلام موضة، ونافعا، وهذا النوع من الإسلام لا قيمة له، لان الاسلام المطلوب هو الذي يكون عن رغبة، وقناعة، واعتقاد، حينها تكون للإسلام قيمته العميقة في النفوس.
كان الخباب سادس شخص أسلم على يد رسول الله، صلى الله عليه وآله، وتعرض للتعذيب الشديد، وكما ينقل التاريخ: إن قريش اوقدت نارا وسحبوه عليها فما أطفأها إلا ودك ظهره، وكان أثر النار في جسده، ولم يعطِ الكفار ما سألوه، وكان الخباب من المعذَبين في الله، لأنه كان من طلائع المسلمين الذين تعرضوا للتعذيب، والذين اسلموا ايام الهزيمة لا أيام الانتصار.
عمل الخباب قبل ان يسلم في صناعة السيوف، وقيل: انه باع سيوفا للعاص بن وائل، وبعد الاسلام جاءه الخباب وطلب منه دفع اموال السيوف.
فقال له العاص: أليس يزعم محمد أن في الجنة ما ابتغى اهلها من ذهب وفضة وثياب وخدَم.
قال الخباب: بلى.
فقال: أنظرني اعطك هناك.
قال: والله لا تكون انت واصحابك عند الله آثر مني.
وفي حق الخباب قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “انا سابق العرب وسلمان سابق الفرس وبلال سابق الحبشة وصهيب سابق الروم وخباب سابق النبط”.
كثيرة هي الاسماء كانت مع رسول الله، صلى الله عليه وآله، لكن قلّة منهم خلدهم التاريخ في صفحات ناصعة البياض، لانهم كانوا سبّاقين.
وحينما أسلم الخباب لم يضع اسلامه في صندوق وأغلق عليه الباب، بل حمله رايةً، ومطرقةً على رؤوس الجلادين، وحمله سوطا يهلب ظهور الظالمين، وكان يعاون رسول الله في نشر دعوته، وهو الذي أدخل فاطمة بنت الخطاب الى الإسلام، والتي كانت سببا في إسلام أخيها، بعد ان كانت تخفي اسلامها عنه.
“وهاجر طائعا”
الله لا يعطي النصر للعاجزين والكسالى والجزعين، بل يعطيه لكل صابر صادق، ومخلص، لا يجزع.
الهجرة في سبيل الله صعوبتها كصعوبة الموت، ولذلك لا يوفّق لها كل إنسان، فحينما يموت الانسان ينفصل عن أهله، وعشيرته، وعن أصدقائه..، وأن يهاجر الانسان يعني ان يترك أهله، وأصدقائه، ومصالحه، ولذلك جاءت الآيات القرآنية بهذا الخصوص، وجعلت الهجرة قبل الجهاد، قال ــ تعالى ــ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
وهذا هو من يقتلع قلبه من وطنه واقاربه في لحظة من لحظات صحوة الضمير، وبتصميم نابع من الرؤية السلمية، وتحمل لكل مشاق الهجرة، وهذا كان الخباب بن الارت، وأهم نقطة في هذه الهجرة كانت بناء على أوامر القيادة.
“وقنع بالكفاف”
بعض الناس يسلم بناء على رغبة، ويهاجر بناء على رغبة القيادة، لكن يرى انه يجب ان تتوفر كافة مصالحه، فيكون وجوده مثقلا على القيادة، وهنالك من يرى ان الثورة قد انتصرت فيجد ان فرصة الغنيمة وجمع الأموال قد جاءت، فيستثمر اسلامه ودينه وايمانه في الحصول على المصالح الشخصية.
الخباب بن الارت كان قانعا بالكفاف وليس من الذين تركوا خلفهم شيء، بل التاريخ ينقل عن النبي الاكرم، صلى الله عليه وآله: جاءتني بنت بنت الخباب وشكت إلي الجوع.
فقال: ما عندكِ؟
قالت: عنزة.
فأتوا بها وأمرر يده على ظهر العنزة وقال رسول الله: اللهم أدر منها اللبن.
وكما ينقل أرباب التواريخ والسير كانت هذه حياة الخباب، لكن بعض الصحابة تسنّموا مناصب، فأحدهم صار خليفة البحرين فصار يجمع اللؤلؤ والجواهر حتى اضطر الخليفة في المدينة الى عزله.
وهنالك من الصحابة من ترك بعد موته ذهبا كُسّر بالفؤوس، لكن الخباب قنع بالكفاف، جاء في الحديث القدسي: “إن من أغبط اوليائي عندي رجل خفيف الحال ذا حظ من صلاة، أحسن عبادة ربه بالغيب، وكان غامضا في الناس جعل رزقه كفافا، فصبر عليه، عجلتُ منيته فقلَّ تراثه وقلت بواكيه”.
وقال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “إنما قلَّ وكفى خير من كثر وألهى. ثم قال: “اللهم ارزق آل محمد الكفاف والعفاف”.
“ورضي عن الله”
قال ــ تعالى ــ: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}، وقال: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً}.
لابد أن يكون المؤمن راضيا على الله، لان هناك من الناس من يشتكي من الله، في أخبار موسى عليه السلام أنهم قالوا: سل لنا ربك أمرا إذا نحن فعلناه يرضى به عنا، فأوحى الله إليه قل لهم: يرضون عني حتى أرضى عنهم.
وهنا قد يطرح تساؤل: اين يجب ان نرضى عن ربنا؟
الجواب: في الرزق، وفي الصحة والمرض، وفي كلما يرتبط بقضاء الله وقدره الذي يعد خارج إرادة الانسان. في حديث قدسي: “ما انصف الله من نفسه من اتهم الله في قضائه واستبطأه في رزقه”.
“وعاش مجاهدا”
وهذه الصفة الرابعة التي ينعت بها أمير المؤمنين، الخبابَ بن الارت، فمن آمن بالاسلام وعشقه، تحمله مسؤوليةً في الارض، يُحاسب عليها: { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}، اهم نقطة في الاسلام التوحيد، واهم نقطة في التوحيد ان تعطي لله، لان اظهر مصاديق الشرك الأنانية، فإذا كان الدِين وتعاليمه نافعة فلماذا تختزنها لنفسك؟
وَضَعَ أمير المؤمنين نموذجا للمؤمن الثائر الذي يستحق النصر ويستحق رحمة الله ببيان صفات الصحابي الخباب بن الأرت، فما هي تلك الصفات؟ وكيف يجب ان نوفرها في انفسنا؟
يقول الخباب: أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو متوسد برده في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة شديدة، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟
فقعد وهو محمر وجهه فقال: إن كان من كان قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الامر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله عز وجل والذئب على غنمه.
الله لا يعطي النصر للعاجزين والكسالى والجزعين، بل يعطيه لكل صابر صادق، ومخلص، لا يجزع.
والمسلمون فيما قبل كانوا يحكمون ثلثي المعمورة في ذلك الوقت، ولذا لابد ان نصبر ولا نستعجل، والكفار والمشركين ما وصلوا اليه اليوم ليس في ساعة او يوم! وبعض المسلمين اليوم يريد ان يحقق مكاسب كبيرة خلال اربع وعشرين ساعة، وهو بالأساس لم يقدم شيئا لا ماله ولا من نفسه، والعجيب ان ترى كلمات الجزع من أناس لم يقدموا شيئا، مع ان غيرهم هم الذين قدموا أموالهم وانفسهم، وأنفقوا جلّ وقتهم.
الخباب عاش مجاهدا، وتحمّل خسمة اشياء:
- التعذيب وكان من ضمن العدد الذي توسموا بـ “المعذَبين في الله”.
- الفقر، والتاريخ ينقل ان الخباب كان من فقراء المسلمين وخيارهم.
- المرض.
- الجهاد.
- الهجرة في سبيل الله.
بعد أن وصف أمير المؤمنين، عليه السلام، الخباب ــ كما مر ــ، ووضع نموذجا المؤمن الثائر الذي يستحق النصر ويستحق رحمة الله، بعد ذلك الوصف، قال أمير المؤمنين: “طوبى لمن ذكر المعاد” فالنقطة المركزية لصلاح المؤمن هي ذكر المعاد، بأن يستحضر عالم الآخر من جنة ونار وان لا يغفل عن ذلك، فتلك هي صفات الخباب التي يجب ان يوفرها كل مؤمن في نفسه ليكون منارة تضيء للإسلام.
____
مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرّسي “حفظه الله”.