المؤمن يجب ان يتعلّم كيف يكون عاقلاً لا احمقا، وان يتعرف على صفات العاقلين، وأهم من كل ذلك ان يعرف كيف ينشّط عقله، وكيف يثبط غريزته.
المؤمن ليس الذي يصلي ويصوم جيدا، ويحجُّ الى بيت الله كل عام، ويدفع الزكاة فقط، بل ــ مضافا الى ذلك ــ هو الانسان العاقل الكَيّس
لكي نعود السنتنا على الكلام الحَسَن لابد ان نفكّر بالكلام قبل ان ننطق
قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “لسان العاقل وراء قلبه وقلب الاحمق وراء لسانه”، وقال، عليه السلام، في كلمة مشابهة: “قلب الاحمق في فِيه ولسان في قلبه”.
العاقل يفكّر فيقول وبذلك يكشف عن فكره، اما الاحمق فيقول ثم يفكّر، ولا يكشف كلامه عن شيء؛ قد يكشف عن غريزته، عن رغبته، وعن ردة فعله، إلا أنه لا يكشف عن فكره.
وفي الواقع هناك نوعان من الناس؛ الأول: الذين يفكرون بأعصابهم، فكلامهم ردة فعل، يسمع شتما فتثار أعصابه فيشتم، ويسمع كلاما قاسيا فيتأثر فرد الكلام القاسي بمثله، او سمع كلمة حلوة فردها بمثلها، فهو من النوع الذي يفكر بغريزته وبأعصابه، ولا يفكر بعقله.
الثاني: الذي يفكر بعقله ورويته، وهذا النوع قد يُشتم ولكنه يبتسم، ويسمع كلاما قاسيا فيقول: طبق الانتقام يؤكل باردا، ليس دائما يرد الصاع صاعين، وكلامه ليس من وحي عواطفه واعصابه وما شابه ذلك.
والمؤمن ليس الذي يصلي ويصوم جيدا، ويحجُّ الى بيت الله كل عام، ويدفع الزكاة فقط، بل ــ مضافا الى ذلك ــ هو الانسان العاقل الكَيّس، ومن هنا فإن هذه الكلمات لها قيمتها الحضارية في المجتمع الإسلامي.
المؤمن يجب ان يتعلّم كيف يكون عاقلاً لا احمقا، وان يتعرف على صفات العاقلين، وأهم من كل ذلك ان يعرف كيف ينشّط عقله، وكيف يثبط غريزته
المؤمن يجب ان يتعلّم كيف يكون عاقلاً لا احمقا، وان يتعرف على صفات العاقلين، وأهم من كل ذلك ان يعرف كيف ينشّط عقله، وكيف يثبط غريزته.
والمؤمن من النوع الذي لا يُلقي الكلمة على عواهنها وكيفما شاء وحسب حالته واعصابه، وإنما يلقي كلمته حسب الحاجة، فإذا كان للكلمة موقعها يطلقها، فهو لا يتصرف غريزيا لان ذلك تصرف الحيوانات.
ولهذا جاء في الحديث: “المؤمن حزنه في قلبه وبشره في وجهه”، فإذا كان حزين القلب فليس بالضرورة ان يظهر على ملامح وجهه، او نجد التعليم العظيم في العلاقة مع الاخوة المؤمنين (إذا ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الايسر)، التصرف الغريزي هنا يقول: من ضربك فاضربه، وإذا ضربك على خدك الأيمن فاضربه خديه، ولكن هذا تصرف غريزي لا عقلائي، وليس نابعا من الفكر والتعقّل.
و نقرأ في دعاء مكارم الاخلاق: “وَسَدِّدْنِي لأَنْ أُعَارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْحِ، وَأَجْزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرِّ، وَأُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ، وَأُكَافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ، وَأُخَالِفَ مَنِ اغْتَابَنِي إِلَى حُسْنِ الذِّكْرِ”، وجاء في الحديث: “صل من قطعك واعط من حرمك” هذا تصرف عقلائي سليم بخلاف الموقف الأول (الغريزي).
جاء رجل الى الإمام الباقر، عليه السلام، وسبّ الإمام، فما كان منه إلا أن ردّ السبّ بالعفو والرحمة، والعطاء، فانهار الرجل، وقال مستشهدا بالآية الكريمة: {الله اعلم حيث يجعل رسالته} فلم يكن الرد الطبيعي ان يرد السب بالسب، والعنف بالعنف، وقد لا يكون ذلك ضروريا.
العقل يتحكّم باللسان
ولان اللسان ترجمان العقل، لذلك وردت آيات و روايات كلها تدعو الانسان الى ان يعدل تحريك اللسان، هذه القطعة الرئيسية لا يجب ان تُترك تعوي كما تريد، قال ــ تعالى ــ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، فبعد التقوى مباشرة يأتي القول السديد.
المؤمن ليس الذي يصلي ويصوم جيدا، ويحجُّ الى بيت الله كل عام، ويدفع الزكاة فقط، بل ــ مضافا الى ذلك ــ هو الانسان العاقل الكَيّس
لذلك يُعرف عقل او حمق الرجل حينما يتكلم، اما مظهره لا يوحي بشيء، فالمجنون قد يكون جميلا، وله منظر جذّاب وأخّاذ، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “المرء مخبوء تحت لسانه”، شخصية الانسان مغطاة باللسان وهو الذي يكشف عن شخصيةٍ عظيمة او يكشف عن إنسان أحمق.
وإذا نظرنا من الى مشاكل البشرية نجد أن نصفها نابع من اللسان؛ النزاعات بين الافراد، والخلافات بين الأقوام تبتدئ كلمة من هذا وشتم من ذاك، بل حتى الحروب الكبرى في التاريخ بناء على تصريح من وزير او مسؤول معين في الدولة، بل وربما من زلّة لسان قامت حرب، فلابد ان يتعوّد الانسان على إطباق شفتيه حتى لا يؤدي به الكلام الى مهلكة.
ثواب وعقاب اللسان
ولهذا فإن ثواب اللسان وعقابه كثير، ولربَّ كلمة أحيت أمة وهنا تكمن قيمتها الحضارية، وباستطاعة اللسان ان يجعل صاحبه من سادة الشهداء يوم القيامة، ومن جهة أخرى لعل كلمة قتلتْ مؤمنا، وربَّ وشاية أودت بحياة إنسان، قال النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله: “يعذب الله اللسان بعذاب لا يعذب به شيئا من الجوارح فيقول: أي رب عذبتني بعذاب لم تعذب به شيئا، فيقال له: خرجت منك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسُفك بها الدم الحرام وانتهب بها المال الحرام وانتهك بها الفرج الحرام، وعزتي [وجلالي] لأعذبنك بعذاب لا أعذب به شيئا من جوارحك”.
وإذا اردنا ان نضع آفات اللسان ومحاسنه ضمن نقاط:
فمن آفات اللسان:
أولا: الكذب، واساسا لو كان الانسان قليل الكلام لكانت معاصيه قليلة، لكن الانسان قليل الكلام لا يقلي إلا كلمة نافعة ولا يقول زائدا، قال ــ تعالى ــ: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ}.
ثانيا: النفاق، وهو ان يقول اللسان شيئا لا ينبئ عما في القلب، ففي اللسان شيء، وفي القلب شيء آخر، قال ــ تعالى ــ: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}، فلسانه يقول، وقلبه يكذّب.
ثالثا: الشب والفُحش والشتيمة، قال ــ تعالى ــ: {وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ}.
رابعا: الإيذاء، وعادة يكون الايذاء بانواع مختلفة ومنها باللسان؛ يقول الشاعر:
جراحات السِنان لها التئام
ولا يلتام ما جرح اللسانُ
السِنان تجرح الجسم وسرعان ما ينسى الانسان ذلك، واللسان يجرح الروح، وجراحة الروح بعمق الروح تبقى وتستمر مع الانسان، فكم من شخص في هذه الحياة نمى ونمت معه عقدة الحقارة سمعها من هنا وهناك، وكم من إنسان صنع شيئا لامته لأنه وجد التشجيع باللسان، فلابد ان نعرف قيمة العضو الصغير في جسمنا، حتى نعرف متى نتكلم الكلمة الطيبة، وما يجب ان نكفَّ عن الكلام.
خامسا: الغَيبة والنميمة
هذه خمسة آفات للسان وهي كبيرة تسقط مجتمعات وحضارات.
محاسن اللسان
وفي مقابل تلك الآفات هنالك محاسن للسان:
أولا: الدعوة الى الله عز وجل
قال ــ تعالى ــ: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}.
ثانيا: التبشير والانذار
قال ــ تعالى ــ: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً}.
لكي نعود السنتنا على الكلام الحَسَن لابد ان نفكّر بالكلام قبل ان ننطق
ثالثا: الهداية والارشاد
قال ــ تعالى ــ: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
رابعا: الصدق
قال ــ تعالى ــ: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً}.
خامسا: الطِيب
وهو الكلمة الطيبة، قال ــ تعالى ــ: { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى}
قال ــ تعالى ــ: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنْ الْقَوْلِ} فمن الهداية ان يتعود الانسان المؤمن على الكلام الطيب.
ولان للسان هذا الدور الكبير فإن اول ما يشهد على الانسان لسانه قبل الجوارح، قال ــ تعالى ــ: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “المرء بأصغريه بقلبه ولسانه إن قاتل بجنان وان نطق ببيان”، فلسان المؤمن وكلامه كلامَ امير المؤمنين، عليه السلام، وخطبه الموجودة في كتاب نهج البلاغة، والكلمات الهادية للبشرية، وأيضا بساعديه كان قويا.
فإذا اردنا من الناحية المعنوية ان نقوي شخصياتنا فلابد من ان نهتم بالعضوين الصغيرين؛ القلب واللسان، نربي قلوبنا على الشجاعة والسنتنا على الصدق.
ولكي نعود السنتنا على الكلام الحَسَن لابد ان نفكّر بالكلام قبل ان ننطق، فنختار الكلمة الطيبة، ذلك ان هناك تفاعل بين العقل والكلام، كما ان هناك تفاعل بين الحمق والكلام، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “العقل مصلح كل امر”، وقال نبينا الاكرم، صلى الله عليه وآله: “لكل شيء آلة وعُدّة وآلة المؤمن وعدته العقل ولكل شيء مطية ومطية المرء العقل ولكل شيء غاية العبادة العقل ولكل قوم راعٍ وراع العابدين العقل ولكل تاجر بضاعة وبضاعة المجتهدين العقل ولكل خراب عمارة وعمارة الآخرة العقل ولكل سفر فسطاط يلجؤون اليه وسفطاط المسلمين العقل”.
إن بناء المجتمع السليم يبدأ حين يفكّر ويتكلم الانسان بالشكل المطلوب، قال النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله: “لا يبلغ المرء حقيقة الايمان حتى يخزن لسانه”، واللسان هو رأس مال الانسان على الصعيد الدنيوي والأخروي، فلينظر كيف يستثمر رأس مال بالشكل الصحيح.