في الحياة من الخشونة أكثر مما فيها من الليونة، وفيها من الصعوبات اكثر مما فيها من الراحة،و وفيها الوديان والحفر والمنزلقات كما فيها القمم والسهول الخضراء، بل إن الراحة في الحياة لا تُكسب إلا بالتعب، “ولا تُنال نعمةٌ إلا بعد أذى” كما يقول أمير المؤمنين، عليه السلام.
ولكي لا تتكسر شخصيتك تحت مطارق الزمن، ولا تتحطم نفسك تحت حوافر الشدائد إذا واجهتك العقبات فلابد من تجربة الصعوبة قبل وقوعها، وتعويد النفس على الشدة قبل الابتلاء بها، فإن النعم لا تدوم، يقول أمير المؤمنين علي، عليه السلام: “أحسنوا صحبة النِعم قبل فراقها فإنها تزول وتشهد على صاحبها بما عمل بها”.
إنّ الجسم الذي لم يمرض قط عرضة للهلاك مع أبسط الامراض، أما الجسم الذي مرّ بمختلف الامراض، فإن المناعة فيه تكون أقوى من أي شيء آخر.
أما الذي تعود على الراحة والسعة فهو لا يستشعر الشدة فـ” من كان في النعمة جهل قدر البلية” ولذلك فلكي تكون لدينا مناعة في مواجهة المشاكل ــ والتي لا مفر منها في الحياة ــ لابد ان نتدرب مسبقا عليها، كما يلقّح الطبيب الانسان بالمكروب الذي يحتمل ان يصاب به في المستقبل لتتكون مناعة ضدّه، فإذا اصيب به حقيقة، فإن الجسم سيدفعه بسبب التمرين الذين حصل عليه مسبقا.
🔺 لكي لا تتكسر شخصيتك تحت مطارق الزمن، ولا تتحطم نفسك تحت حوافر الشدائد إذا واجهتك العقبات فلابد من تجربة الصعوبة قبل وقوعها
واعتقد ان جميع الناس بحاجة الى التمرين الذي سنذكره للتعوّد على تحمل المشاق، خاصة اولئك الذي يعيشون في دِعة الحياة، ويملكون من المال ما يصرفونه على انفسهم، ويظنون انهم في مأمن من زوال النعم.
يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “اذكر مع كل لذة زوالها ومع كل نعمة انتقالها ومع كل بلية كشفها فإن ذلك أبقى للنعمة وانفى للشهوة واذهب للبطر واقرب الى الفرح وأجدر لكشف الغُمة ودرك المأمول”.
- ما الذي نفعل؟
والجواب: لكي تقوم بالتدريب على تحمّل المشاق عليك ان تورّط نفسك في مواقف تُحتّم عليك ان تتصرف بدون العادة، وما نقترحه هنا هو شيء من هذا القبيل: خذ مجموعة من قصاصات الورق واكتب ثمانية تمارين من النوع التالي:
- الأول: السهر لليلة كاملة بالمطالعة، وإقامة الصلوات، والقيام ببعض الاعمال اليدوية في البيت.
- الثاني: الخروج لمسافة خمسين كيلو مترا مستعملا الباصات العامة، والمشي على الاقدام من دون ان تحمل معك ما يزيد على اجرة السيارة.
- الثالث: التصميم على عدم الكلام مع احد إلا الاجابة على سؤال، او قياما بواجب العبادة والتحية، وما شابه ذلك.
- الرابع: الصوم لمدة يوم واحد قربة الى الله ــ تعالى ــ.
- الخامس: الذهاب الى بيوت الفقراء، ومساعدتهم مساعدةً يدوية بكل ما تستطيع، سواءً تنظيف الدار، او حمل الاثقال، او ما شابه ذلك.
- السادس: التصميم على القيام بأعمال المنزل كاملة من دون ان تمنَّ على اهلك وعيالك في هذا الامر.
- السابع: المشي مسافة عشرة كيلومترات للقيام بزيارة أحد الارحام او الاخوة او ما شابه.
- الثامن: القيام بزيارة احد المرضى الذي لا تعرفهم في إحدى المستشفيات في اوقات الزيارة المعتادة.
تلك بعض النماذج من الامور التي يمكن ان تكتبها في ثمانية قصاصات من الورق، ثم ضع هذه الوريقات في مظروف واغلقها جيدا واخلطها، ثم ضعها في احد أدراج مكتبك، وفي كل اسبوع خذ مظروفا واحدا وافتحه، ونفّذ ما فيه من مقترحات كتبتها بنفسك.
وقد يصادف أن ما تخرجه يأتي مثل المشي مسافة عشرة كيلومترات، ويكون الجو ممطرا بغزارة في ذلك اليوم، وفي هذه الحال يجب عليك ان تنفّذ ما صممت عليه، إلا إذا كانت صحتك لا تسمح فعلا بالقيام بهذا الامر، إن أهم ما يجب ان تتقيد به هو تنفيذ ما يخرج لك في ذلك اليوم او في اليوم التالي مخالفته تحت اقسى الظروف.
المهم ان تقوم بمثل هذه التمارين في الاسبوع مرة، او على الاقل في الشهر مرة، وسوف ترى بعد مدة نتائجها الجيّدة جدا، حيث تتعوّد على ان تتحمل الصعوبات والمشاق وما لم تكن تتوقعه.
إن كلمة الرياضة التي ورد ذكرها في الاحاديث والروايات هي نوع من انواع تحمل الخشونة ومحاولة التعوّد عليها، فقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين علي، عليه السلام: “من استدام رياضة نفسه انتفع”.
وقال عليه السلام: “لقاح الرياضة دراسة الحكمة وغلبة العادة”.
وقال، عليه السلام: “الشريعة رياضة النفس”.
وما نفهم من ذلك ان ترويض النفس بحاجة الى التغلب على عاداتها وجعلها مطية للعقل والارادة.
ولقد كان الاولياء اكثر من الناس ترويضا لانفسهم، وذلك من اجل مقاومة الشهوات وتزكية النفس، فالامام علي، عليه السلام ــ لانه بشر ــ كانت نفسه تتوق الى المسكن الهني، والمطعم الشهي، والمركب البهي، ولكنه كان يزهد فيها جميعا لكسب الاجر، فما من عمل افضل من نهي النفس عن الهوى.
وقد روي في ذلك انه اُهدي الى علي وفاطمة، عليهما السلام، بعض الفالوذج (حلواء تعمل من الدقيق والماء والعسل) فاطعما اولادهما ولم يأكلا منه.
وذات يوم وضع فالوذج بين يديه عليه السلام فوجأ بإصبعه حتى بلغ اسفله، ثم سلها ولم يأخذ منه شيئا، وتلمظ (تذوق) بإصبعه وقال: “طيِبٌ طيِبٌ وما هو بحرام ولكن أكره أن أعوّد نفسي بما لم أعودها”.
🔺 لكي تقوم بالتدريب على تحمّل المشاق عليك ان تورّط نفسك في مواقف تُحتّم عليك ان تتصرف بدون العادة
فهو يريد ترويض نفسه، وهو القائل: “وَإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الْأَكْبَرِ وَتَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ وَلَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَنَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَلَا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ :
وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ
وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ
أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا أَوْ أُتْرَكَ سُدًى أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلَالَةِ أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ”.(نهج البلاغة).
ويقول، عليه السلام: “وأيْمُ اللَّهِ – يَميناً أستَثنِي فيها بمَشيئَةِ اللَّهِ – لَأرُوضَنَّ نَفسِي رِياضَةً تَهُشُّ مَعَها إلى القُرْصِ إذا قَدَرَتْ علَيهِ مَطعوماً ، وتَقنَعُ بِالمِلحِ مَأدوماً ، ولَأدَعَنَّ مُقلَتِي كَعَينِ ماءٍ نَضَبَ مَعِينُها مُستَفرَغَةً دُمُوعُها (عُيُونُها). أتَمتَلِئُ السائمةُ مِن رَعْيِها فَتَبرُكَ ، وتَشبَعُ الرَّبِيضَةُ مِن عُشبِها فَتَربِضَ ، ويَأكُلُ عَلِيٌّ مِن زادِهِ فَيَهجَعُ ؟! قَرَّتْ إذاً عَينُهُ إذا اقتَدى بعدَ السِّنِين المُتَطاوِلَةِ بِالبَهِيمَةِ الهامِلَةِ والسائمَةِ المَرْعِيَّةِ”.
ثم قال: “طُوبَى لِنَفْسٍ أَدَّتْ إِلَى رَبِّهَا فَرْضَهَا وَعَرَكَتْ بِجَنْبِهَا بُؤْسَهَا وَهَجَرَتْ فِي اللَّيْلِ غُمْضَهَا حَتَّى إِذَا غَلَبَ الْكَرَى عَلَيْهَا افْتَرَشَتْ أَرْضَهَا وَتَوَسَّدَتْ كَفَّهَا فِي مَعْشَرٍ أَسْهَرَ عُيُونَهُمْ خَوْفُ مَعَادِهِمْ وَتَجَافَتْ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ جُنُوبُهُمْ وَهَمْهَمَتْ بِذِكْرِ رَبِّهِمْ شِفَاهُهُمْ وَتَقَشَّعَتْ بِطُولِ اسْتِغْفَارِهِمْ ذُنُوبُهُمْ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”.
هكذا فإن أولياء الله كانوا يروّضون أنفسهم لتحيى قلوبهم، ولتكون عقولهم هي الحاكمة على أهوائهم.
والحق إن كثرة الطعام، وكثرة الراحة تميت القلب كما تميت كثرة الماء الزرع فالدنيا مهما طالت ورغدت لا تدوم، ومن أراد الفلاح والسيطرة على الذات وبناء الشخصية الثابتة والقوية فلابد ان يتدرب على مجابهة الشهوات وكسر شوكة الاهواء.