مناسبات

الإِمَامُ مُوسَى بنُ جَعفَر الكَاظِم والعَقل

شهادة الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) في (25 رجب السنة 183 هـ) مسموماً في سجن بغداد

  • مقدمة عقلية

العقل هذا السِّر المخفي في البشر منذ أن خلقه الله ــ سبحانه ــ ففضَّله وكرَّمه على غيره من المخلوقات تفضيلاً ولكنه ما عرف قيمته ولا فضيلته ولا أسباب ذلك التفضيل من الخالق الجليل، فجهل نفسه، وأضاعها في متاهة الجهل والجاهلية في كل عصر ومصر.

فجوهر الإنسان وحقيقته تكمن في روحه القدسية وهي تلك النفحة الرَّبانية واللطيفة الرَّحمانية فيه، ولكن قيمته بعقله الذي خاطبه الله قبل أن يزرعه فيه، أو أن يهبه إياه حيث قال الإمام الباقر (عليه السلام): “لَمَّا خَلَقَ اَللَّهُ اَلْعَقْلَ اِسْتَنْطَقَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: وَعِزَّتِي وَ جَلاَلِي مَا خَلَقْتُ خَلْقاً هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ وَلاَ أَكْمَلْتُكَ إِلاَّ فِيمَنْ أُحِبُّ أَمَا إِنِّي إِيَّاكَ آمُرُ وَإِيَّاكَ أَنْهَى وَإِيَّاكَ أُعَاقِبُ وَإِيَّاكَ أُثِيبُ”. (الکافي: ج۱ ص۱۰).

فالعقل هو المخاطب في الإنسان، وهو المكلَّف، وهو المأمور، وعليه الثواب والعقاب، لأنه الدُّرة المكنونة المخزونة فيه، ولكن كيف يسقط الإنسان إذن في المعصية والذنوب التي توصله إلى قعر الجحيم؟

  • الإرادة هي الميزان

الله ــ سبحانه ــ أعطى الإنسان العقل، ولكن ليكون مسؤولاً عن أفعاله وأعماله وما كسبته يداه أعطاه أيضاً الإرادة بالفعل والترك وكلفه من أجل أن يحاسبه على أساس التكليف، ولولا ذلك لكان الإنسان مثله كمثل أي حيوان آخر، بل ربما أخطر من كل الحيوانات لأنه ما من حيوان استطاع أن يخترع القنبلة النووية التي تبيد سكان المعمورة قاطبة لخمسين مرة الآن.

🔺 الله ــ سبحانه ــ أعطى الإنسان العقل، ولكن ليكون مسؤولاً عن أفعاله وأعماله وما كسبته يداه أعطاه أيضاً الإرادة بالفعل والترك وكلفه من أجل أن يحاسبه على أساس التكليف

فالله  ــ تعالى ــ وهب الإنسان جوهرتين متكاملتين الأولى (العقل) من قدسه، والثانية (الإرادة) من نفسه، ليكتمل الفضل لهذا الإنسان ويستطيع أن يميِّز بين الخير والشر، والبين الحق والباطل، وبين النور والظلمة، كما أنه يستطيع وبملء إرادته أن يفعل كل الطاعات حتى يتفوَّق على الملائكة المقربين، أو يرتكب كل المنكرات حتى يكون أخبث من الشيطان الرجيم، وهذا ما بينه الإمام الصادق،عليه السلام، بقوله: “إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى رَكَّبَ اَلْعَقْلَ فِي اَلْمَلاَئِكَةِ بِدُونِ اَلشَّهْوَةِ وَ رَكَّبَ اَلشَّهْوَةَ فِي اَلْبَهَائِمِ بِدُونِ اَلْعَقْلِ وَرَكَّبَهُمَا جَمِيعاً فِي بَنِي آدَمَ فَمَنْ غَلَبَ عَقْلُهُ عَلَى شَهْوَتِهِ كَانَ خَيْراً مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ وَمَنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ عَلَى عَقْلِهِ كَانَ شَرّاً مِنَ اَلْبَهَائِمِ”.

  • حقيقة العقل

العقل حقيقة واضحة في جميع العقلاء، ولكن البشر أضاعوا هذه الحقيقة في متاهات الدنيا، وأخفوها تحت ركام من تراب الشهوات والنزوات والنزعات النفسية، فاختفى العقل من حياتهم، وظنوا أن ما يحصلون عليه من معلومات، أو بعض العلوم أنها هي العقل، أو أن العقل هو تلك الكتلة المتموضعة في الرأس ويسمَّى المخ، وهو عبارة عن كتلة دهنية مسؤولة عن التحكم بالجهاز العصبي في جسم الإنسان، وفيه مراكز للتحكم بالجسد، كما فيه الذاكرة ومقر التفكير ومساحاته كلها.

ولكن العقل ليس ذلك كله قطعاً، بل العقل هو جوهر رباني، ونور إلهي يهبه الله لعباده ليكون لهم رسولاً من الداخل، كما أنه سبحانه أرسل له رسولاً وأيَّده بكتاب من عنده ليسدده ويكون له عقلاً من الخارج، فيكون حقيقة العقل أنه “عِقَالٌ مِنَ اَلْجَهْلِ وَاَلنَّفْسَ مِثْلُ أَخْبَثِ اَلدَّوَابِّ فَإِنْ لَمْ تُعْقَلْ حَارَتْ”، وأحدهم سأل الإمام الصادق، عليه السلام، فقال له: “مَا اَلْعَقْلُ؟ قَالَ: مَا عُبِدَ بِهِ اَلرَّحْمَنُ وَاُكْتُسِبَ بِهِ اَلْجِنَانُ، قَالَ قُلْتُ: فَالَّذِي كَانَ فِي مُعَاوِيَةَ؟ فَقَالَ: تِلْكَ اَلنَّكْرَاءُ تِلْكَ اَلشَّيْطَنَةُ وَهِيَ شَبِيهَةٌ بِالْعَقْلِ وَلَيْسَتْ بِالْعَقْلِ”، وأنه يتكامل مع الوحي النازل من السماء، ولولا ذلك لما كان له هذه المعيارية والدِّقة الكبيرة، فالوحي يدركه العقل، والعقل يسدِّده ويجلوه ويؤيده الوحي فيتكامل الإنسان في هذه الحياة.

  • وصية الإمام الكاظم في العقل

ومن فضل الله علينا أننا يسموننا بمدرسة العقل وفي الفلسفة بالحكمة، وذلك لأننا عرفنا العقل وحقيقته وأما الآخرون فما عرفوا هذه الحقيقة ولذا تجدهم يتخبطون ولا يهتدون إلى حقيقة العقل سبيلاً، وأما أتباع هذه المدرسة المباركة فإن أئمة أهل البيت الأطهار، عليهم السلام، وهم عقل من الخارج كجدهم الرسول الأعظم، تحدَّثوا عن العقل وبيَّنوا لنا حقيقته وفي كتاب الكافي الشريف الباب الأول عن العقل وفيه أكثر من ثلاثين رواية عن العقل ولكن تبقى وصية الإمام موسى الكاظم، عليه السلام، لهشام في العقل هي الأجمل والأكمل وذلك لما تحتويه من بيان حقيقة العقل وتوضيحها بآيات الوحي القرآنية الكريمة، فجاءت متكاملة ورائعة.

حيث يستفتح وصيته لهشام بالبشارة القرآنية لأهل العقل ثم يقول له: “يَا هِشَامُ إِنَّ اَللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَكْمَلَ لِلنَّاسِ اَلْحُجَجَ بِالْعُقُولِ”، فكمال الحجج على الإنسان هي بهذا العقل الذي جعله المشرِّع الكريم من مصادر التشريع وقال في القاعدة: (ما حَكَمَ به العقل حَكَمَ به الشَّرع) لأن العقل رسول لله غرسه الله في داخل الإنسان كما الفطرة السليمة، والضمير الحي، والوجدان الواعي.

  • سفينة الدنيا قبطانها العقل

ثم ينقل الإمام الكاظم، عليه السلام، وصية لقمان الحكيم لابنه فيقول: “يَا هِشَامُ إِنَّ لُقْمَانَ قَالَ لاِبْنِهِ تَوَاضَعْ لِلْحَقِّ تَكُنْ أَعْقَلَ اَلنَّاسِ، وَإِنَّ اَلْكَيِّسَ لَدَى اَلْحَقِّ يَسِيرٌ، يَا بُنَيَّ إِنَّ اَلدُّنْيَا بَحْرٌ عَمِيقٌ قَدْ غَرِقَ فِيهَا عَالَمٌ كَثِيرٌ فَلْتَكُنْ سَفِينَتُكَ فِيهَا تَقْوَى اَللَّهِ، وَحَشْوُهَا اَلْإِيمَانَ، وَشِرَاعُهَا اَلتَّوَكُّلَ، وَقَيِّمُهَا اَلْعَقْلَ، وَدَلِيلُهَا اَلْعِلْمَ، وَسُكَّانُهَا اَلصَّبْرَ يَا هِشَامُ إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ دَلِيلاً وَدَلِيلُ اَلْعَقْلِ اَلتَّفَكُّرُ، وَدَلِيلُ اَلتَّفَكُّرِ اَلصَّمْتُ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ مَطِيَّةً وَمَطِيَّةُ اَلْعَقْلِ اَلتَّوَاضُعُ، وَكَفَى بِكَ جَهْلاً أَنْ تَرْكَبَ مَا نُهِيتَ عَنْهُ”، كم هو جميل هذا الوصف، وكم هي عظيمة هذه الوصية، وكم هو واقعي هذا الوصف للدنيا وبأنها سفينة، وربانها وقبطانها وقيِّمها العقل؟

  • العقل رسول من الداخل

العقل ربما يقابله الهوى في الأدبيات الإسلامية والإيمانية على الخصوص، لأن الإنسان إمام أن يقوده علقه إلى نجاته، ويرفعه في درجاته، أو يُرديه هواه في دركاته، فالعقل هو ذلك القائد الحكيم، والموجِّه الخبير، والمراقب البصير على حركة الإنسان، وهذا ما بيَّنه الإمام موسى الكاظم، عليه السلام، ببيان لم يسبقه إليه أحد، حيث قال: “يَا هِشَامُ مَا بَعَثَ اَللَّهُ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ إِلَى عِبَادِهِ إِلاَّ لِيَعْقِلُوا عَنِ اَللَّهِ، فَأَحْسَنُهُمُ اِسْتِجَابَةً أَحْسَنُهُمْ مَعْرِفَةً، وَأَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ اَللَّهِ أَحْسَنُهُمْ عَقْلاً، وَأَكْمَلُهُمْ عَقْلاً أَرْفَعُهُمْ دَرَجَةً فِي اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ.. يَا هِشَامُ إِنَّ لِلَّهِ عَلَى اَلنَّاسِ حُجَّتَيْنِ: حُجَّةً ظَاهِرَةً، وَحُجَّةً بَاطِنَةً، فَأَمَّا اَلظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَاَلْأَنْبِيَاءُ وَاَلْأَئِمَّةُ (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)، وَأَمَّا اَلْبَاطِنَةُ فَالْعُقُولُ”.

🔺 ما أحوجنا -لا سيما شبابنا – في هذا العصر العلمي والتقني المتطور علمياً أن يعرفوا العقل ويميِّزوا بينه وبين العلم وتقدمه من أجل ألا يقعوا في الخلط بين العلم التجريبي المادي، والعقل الروحاني النوراني الرَّباني

نعم؛ وصدق ربنا حيث يقول: {قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}. (سورة الأنعام: 149)، ولكن كيف تتجسَّد وتظهر هذه الحجة ليخصم به الرَّب العبد في يوم الحساب؟ وهذا ما بيَّنه الإمام لهشام ولنا في أجمل وأكمل بيان حيث قال: لله حجتان هما:

أولاً: الحجة الظاهرة؛ وهم الأنبياء، والرُّسل، والأئمة، وهؤلاء الذَّوات الطاهرة المعصومة والمسدَّدة من الله.

ثانياً: الحجة الباطنة؛ وهي العقول التي وهبها الله لكل إنسان سوي الفطرة، ولذا ربما نقول: (بأن العقل وهو الحجة والرسول الباطن في الإنسان هو أشبه بالمعصوم إذا استنار واستضاء بالوحي وآيات القرآن الحكيم).

  • العقل والعلم المعاصر   

هذه الوصية الراقية والكلمات والمواعظ العالية لسيدنا ومولانا وإمامنا موسى الكاظم، عليه السلام، هي تحتاج إلى دراسة موسعة وبحث يستوفيها حقها وربما تحتاج إلى أكثر من مجلد ولكن ما أحببت أن أشير إليه في هذه العُجالة وبهذه الكلمات هي أمران اثنان فقط هما:

  1. التذكير بهذه الوصية الرائعة؛ في أيام شهادة الإمام موسى بن جعفر، عليه السلام، لعل المؤمنين يراجعوها ويستفيدوا منها في حياتهم وواقعهم المأزوم في هذا العصر الأغبر.
  2. تنبيه الأخوة المؤمنين؛ إلى ضرورة التمييز بين العلم والعقل، لا سيما وأننا في عصر التفجر العلمي بحيث انبهرت العقول وسُلبت من أصحابها وظنوا بأن العلم هو العقل ليس إلا، والحقيقة بأن العلم ما هو إلا مجموعة من المعلومات في باب معين وناتجة عن التفكير المنطقي المتسلسل للوصول إلى النتائج فإن كانت المقدمات صحيحة والتفكير صحيحاً وصلنا إلى نتائج صحيحة نسبياً، وصحيحة أحياناً.

وأما العقل فهو أمر آخر فهو كما في الحديث: “إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ اَلْعَقْلَ، وَهُوَ أَوَّلُ خَلْقٍ مِنَ اَلرُّوحَانِيِّينَ عَنْ يَمِينِ اَلْعَرْشِ مِنْ نُورِهِ”، فهو مخلوق روحاني ومتَّصل بعالم الأرواح، وهو من نور الله تعالى ومستعد لتلقي الأنوار والوحي الرَّباني بشكل صحيح ويتكامل الإنسان وشخصيته إذا كان العقل قائدة والحق رائده.

وما أحوجنا -لا سيما شبابنا – في هذا العصر العلمي والتقني المتطور علمياً أن يعرفوا العقل ويميِّزوا بينه وبين العلم وتقدمه من أجل ألا يقعوا في الخلط بين العلم التجريبي المادي، والعقل الروحاني النوراني الرَّباني، وهذا ما يجعلهم يسعدوا في حياتهم ويعيشوا مطمئنين متوافقين مع رسولهم الباطني، وشريعة رسول الله الخارجي، وهذا يضمن لهم السعادة في الدنيا والآخرة.

رغم أننا الآن نعيش في عصر تعملقت فيه المادة وظهرت حتى طغت على كل الروحانيات إلا أن الحقيقة والواقع تثبت للجميع أن الدنيا دار بلاء وامتحان وهي سريعة المرور بل هل تغرُّ وتضرُّ وتمرُّ ولا ثبات لها وأما الحياة الخالدة والأبدية فهي حياة المعنوية، والروح والنورانية، فلا يغفل شبابنا الأعزاء عنها أسعدهم الله في الدارين بحق محمد وعترته الطاهرين.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا