- مقدمة في التغيير
يقول علماء الاجتماع: أن الثورة هي التغيير الجذري للأوضاع الاجتماعية الفاسدة بغيرها، ثم يسعى إلى تكريسها في المجتمع أصحاب الثورة وقيادتها بالفكر الذي يطرحونه في المجتمع فتتلقفه الناس وتؤمن به وتسير معه لتغيير الأوضاع الفاسدة بغيرها صالحة.
والتغيير الإيجابي قيمة من أهم وأعظم القيم الحضارية لبناء المجتمعات الفاعلة في هذه الحياة، لأن السكون يعني الفساد قطعاً، فبالحركة بركة وفي السكون الفساد والإفساد، فحتى ماء الحياة عندما يركن ويسكن ولا يتحرك فهو ينتن ويأسن، وإذا طال عليه الزمن يأجن، وعندها سيخرج منه أنواع الحشرات الضارة كالبعوض الذي هو السبب الرئيسي والأساسي لكثير من الأمراض، لاسيما مرض الملاريا القاتل قديماً.
- عاشوراء وفلسفة الإصلاح
كانت عاشوراء دعوة واسعة بوسع الأمة الإسلامية للإصلاح العام والشامل، وكل دعوة اجتماعية تسعى إلى الإصلاح لابد أن يقودها إنسان مصلح وصالح بكل معنى الكلمة، وكما تقدم في الحديث عن القيادة الصالحة، وأنه الطريق الوحيد لإصلاح الأمة وصيانة المجتمع الإسلامي من الانحراف الذ تريده السلطة الفاسدة والمفسدة.
هنا ينطلق الدكتور راشد الراشد في كتابه؛ “ثقافة عاشوراء”، من تلك الرسالة الموجهة من الإمام الحسين، عليه السلام، لأخيه محمد بن الحنفية ولعموم بني هاشم، يشرح فيها أهدافه وسبب خروجه على الحاكم الظالم، وثورته على الأوضاع الفاسدة في أمة جدّه الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وآله وسلم، وهو إمامها المفترض الطاعة والمنصوب، والمنصوص عليه حيث جاء فيها: “أَنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَ لاَ بَطِراً وَ لاَ مُفْسِداً وَ لاَ ظَالِماً وَ إِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ اَلْإِصْلاَحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَأَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَمَنْ قَبِلَنِي بِقَبُولِ اَلْحَقِّ فَاللَّهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ وَ مَنْ رَدَّ عَلَيَّ هَذَا أَصْبِرُ حَتَّى يَقْضِيَ اَللَّهُ بَيْنِي وَ بَيْنَ اَلْقَوْمِ بِالْحَقِّ وَهُوَ خَيْرُ اَلْحٰاكِمِينَ“. (بحار الأنوار: ج44 ص۳۲۷).
⭐ لم يُخدع الإمام الحسين، عليه السلام، بدعوة أهل الكوفة، كما ادَّعى البعض، ولم يكن جاهلاً بما يمكن أن يكون به الحكم الأموي من أجل صولجان الحكم والرئاسة والسلطة ومن أجل هيمنته وسيطرته على الأوضاع
والعجيب أن تقرأ مؤخراً مَنْ يشكك بهذا النص ونسبة هذه الرسالة إلى الإمام الحسين، عليه السلام، وهل لنهضة وثورة الإمام الحسين، عليه السلام، عنواناً غير هذا العنوان الواسع والعريض؛ الإصلاح في الأمة الإسلامية؟
بيد أن الدكتور الباحث يضع يده على الجرح كعادته ويبين فلسفة النهضة والثورة الحسينية الإصلاحية حيث يقول: ” نهضة الإمام الحسين، عليه السلام، المقدسة كانت قضية رسالية واعية، لا نهضة انفعالية أو فورة شخصية على كرسي السلطة والتنعُّم بما تتيحه من نفوذ وسلطة وسيطرة، بل قام به، عليه السلام، عن وعي ومعرفة وبصيرة رسالية ثاقبة، حسم فيها ومن خلال خياراته الاستراتيجية في معالجة الانحراف في مسيرة الرسالة الإسلامية وأخذها من مواقعها إلى مواقع أخرى، وقد كان مدركاً تمام الإدراك بنتائج موقفه وقراره التاريخي ومصيره المحتوم عند مواجهة طلاب السلطة والنفوذ والإمارة، وهو القتل والشهادة في ساحة الشَّرف والعزَّة والكرامة، وقد صرَّح بذلك مراراً وتكراراً في أكثر من خطاب وكلمة”. (ص 103)
- عاشوراء قرار واعي
نعم؛ إن قرار الثورة والمواجهة الذي اتخذه الإمام الحسين، عليه السلام، كان بكامل الوعي والإدراك حتى بكل التفاصيل كبيرها وصغيرها، وذلك بعلمه اللدنِّي كولي وإمام اختاره الله واصطفاه ليكون حجته على خلقه، فمنذ لحظة ولادته نزل جبرائيل، عليه السلام، وأخبر جدَّه الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، بكل ما يجري عليه فما تمالك نفسه حتى فاضت عيناه الشريفتان حزناً عليه، ثم أراه تربته ومكان مضجعه فأعطاها لأم سلمة وقال لها: “اجعلي هذه التربة في زجاجة -أو قال: في قارورة- ولتكن عندك، فإذا صارت دماً عبيطاً فقد قتل الحسين”، إذ لا يوجد شيء مخفي على أولياء الله وحججه على العباد.
لذا يقول الدكتور الراشد: “لم يُخدع الإمام الحسين، عليه السلام، بدعوة أهل الكوفة، كما ادَّعى البعض، ولم يكن جاهلاً بما يمكن أن يكون به الحكم الأموي من أجل صولجان الحكم والرئاسة والسلطة ومن أجل هيمنته وسيطرته على الأوضاع، كلا؛ بل كانت كل تلك الأمور واضحة حتى لأهل البادية والأعراب من أمثال الفرزدق وغيره”. (ص 104)
- رسالة الإصلاح الحسينية
الإمام الحسين، عليه السلام، عاش كل تلك المراحل المختلفة من عمر الأمة وتقلبات الظروف فيها منذ أن رحل جده المصطفى، صلى الله عليه وآله وسلم، عنها فانقلبت على أعقابها وغصبت حق والده أمير المؤمنين، وصودرت حقوق وأملاك أمه سيدة نساء العالمين، ثم شارك والده في الحكم، وخاض إلى جواره قائداً من القادة وسيداً من السادة في حروبه الثلاثة ضد الناكثين في البصرة وجملها، والقاصطين في صفين وطاغيتها، والمارقين في النهروان، ثم مشاركته لأخيه الإمام الحسن، عليه السلام، في هدنته لعشر سنين وبقائه بعده عشر سنين أيضاً، حتى بلغ من العمر فوق السابعة والخمسين من عمره الشريف فكانت تجربته ثريّة، وشخصيته فريدة في عصره، أما عدوه اللدود؛ يزيد، فكان خبيراً بالطنابير ومهارشة الكلاب والقرود والحمير فقط.
⭐ قرأ الامام الحسين ما يمكن أن يحدث للدين في الأمة في حال موافقته على استيلاء البيت الأموي على مقاليد الحكم والسلطة، وإسباغه الشرعية في حال القبول بمبايعة يزيد بن معاوية تحت عنوان الدولة الإسلامية أو النظام السياسي
يقول الدكتور الراشد في ذلك: “من الواضح أن الإمام الحسين، عليه السلام، قد قرأ ما يمكن أن يحدث للرسالة الإسلامية كدين وعقيدة في الأمة في حال موافقته على استيلاء البيت الأموي على مقاليد الحكم والسلطة، وإسباغه الشرعية في حال القبول بمبايعة يزيد بن معاوية على نظام حكمهم تحت عنوان الدولة الإسلامية أو النظام السياسي، ويشهد على هذه الحقيقة محاوراته وخطبه وطريقة تحركه، فقد تحدث كثيرا حول رؤيته وخلفيات موقفه الرافض لحكم يزيد بن معاوية واستيلائه على الخلافة بغير حق أو وجه شرعي.
فكان الإمام، عليه السلام، مدركاً بأن استسلامه للأمر الواقع سيكون كارثياً على الدِّين والعقيدة ولذلك وجد، عليه السلام، بأن عليه أن يحسم موقفه وأن يتخذ قراره الاستراتيجي الذي يكمن في حماية الرسالة مما يحيط بها من مخاطر التزييف والتحريف، ولأن حماية الدِّين كانت القيمة العليا لكل حركة الإمام، عليه السلام، فقد كانت قيمة من العلو والسمو إلى الدرجة التي اختار الإمام، عليه السلام، وبإرادته الحرة خياراً يضع فيه دمه الطاهر والزكي قرباناً عظيماً لحماية دين الله في الأرض”. (ص 104)
ثم يبدأ الدكتور الباحث بسرد تفاصيل أقوال وأفعال الإمام الحسين، عليه السلام، خلال مسيرته المباركة حتى لحظة استشهاده الكارثية العظيمة، وأنها كلها تصبُّ في الهدف الأساسي للنهضة والثورة، ألا وهي الإصلاح الكامل والشامل في كل الأوضاع، فكان منه القول يُطابق العمل وشهادته المفجعة قرباناً لله في هذه الدنيا. السلام على الإمام الصالح والمنادي بالإصلاح في أمته وأمة جده المصطفي، صلى الله عليه وآله وسلم.