إن سورة الحجرات تعالج لنا هذا الأمر في كيفية التأدب في تعامل الناس مع بعضهم البعض، والتعايش السلمي مع الآخرين؛ وهي من السور التي يجب أن نتدارسها جيداً، سورة مليئة بالآداب الإسلامية.
هناك من المنفرات التي تسبب النفور بين الناس، ومن هذه المنفرات مرض سوء الظن والغيبة، وبسببها يكون صاحبها غير مرغوب فيه ويسبب ضرراً للآخرين، في نفس الوقت، وهي من المسائل التي حذر منها رب العزة في سورة الحجرات:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}، (سورة الحجرات: 12)، والذي ركزت فيها الآية المباركة على تحذير المؤمنين خاصةً، فيما لو اصيب بهذه الأمراض؛ قد لا يسبب له نفوراً مع الناس فحسب بل يبعده عن الله – تعالى – فيكون في صف المنافقين، لذا الحذر من ارتكاب مثل هذه الموانع التي تمنع من حدوث المقتضي بالمانع.
طبيعة البعض من المؤمنين التفكير في العالمين الدنيوي والأخروي، وهذا هو خلاف ما يريده رب العزة، من أن الدنيا هي دار فناء وفي نفس الوقت وسيلة للوصول للآخرة؛ من خلال إيجاد سبب الوصول للآخرة (طاعة الله)، ورفع المانع (ارتكاب الذنوب)، لكي يصل إلى المرحلة التكاملية في العبادة، كما يذكر دعاء كميل «اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تغير النعم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء..»؛ التي بدورها تؤثر في سلوك الإنسان وتبعده عن الوصول لمرضات الله – تعالى- شيئا فشيئاً.
التحذيرات التي ذكرتها الآية المباركة أعلاه تعدّ من الذنوب التي تكون بمثابة المانع من الوصول الى المرحلة التكاملية للعبادة؛ والتي ذكر فيها ثلاثة موانع؛ والتي بدأت فيها بـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، يستحب أن تكون هناك استجابة؛ ولو في قلوبنا (لبيك اللهم لبيك)، مثلاً حينما ينادي الزوج يا فلانة فتستجيب الزوجة قبل أن تعرف ماذا يريد منها، وهذه هي صفة للزوجة المثالية، لذا يريد منا رب العزة التلبية عند النداء.
ومن ثم ذكر المانع الأول ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ﴾، لماذا عبر بـ (كثيراً من الظن) ولم يقل جميع الظن؟ الجواب على ذلك؛ لأنه بعض الظنون جيدة، كما لو ظن الإنسان بأخيه خيراً؛ هذا أيضاً ظن، ولكنه حسن، وكذا من حضر لصلاة الجماعة ظنوا به خيراً، وهذا الإنسان لولا أنه قريب من الله عز وجل لما وفق لصلاة الجماعة، وهي علامة من علامات الإيمان وهكذا.
إذاً؛ حينما يكون الظن حسناً فهو جيد ومطلوب، ولكن لو كان الظن سيئاً، سينتج عن ذلك، تقييم الآخرين على قول أو فعل أو ما يسمعه عنهم أو ما يشاهده في التلفاز أو في الفيسبوك من أقوال أو أخبار أو فيديو معين؛ فيرتبون عليه الأثر وتطلق الاتهامات والشتائم والتعليقات المشينة، من غير أن يتحقق أو يتبين؛ هل هو صحيح أم لا؟! {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ}، (سورة الحجرات: 6)، وهذا هو من مصاديق سوء الظن، الذي هو بعيد كل البعد عن الأخلاق الإسلامية والذي يسبب نفوراً بين الناس، كما يقول الإمام علي، عليه السلام: «أيها الناس.. من عرف من أخيه وثيقة في دين، وسداد طريق؛ فلا يسمعن فيه أقاويل الرجال.. أما إنه قد يرمي الرامي، وتخطئ السهام، ويحيل الكلام.. وباطل ذلك يبور، والله سميع وشهيد.. أما إنه ليس بين الباطل والحق إلا أربع أصابع، وجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه، ثم قال: الباطل أن تقول: سمعت، والحق أن تقول: رأيت..»، أي ليس معنى ذلك أن الناس كلهم فسقة، ولكن عندما يسمع من أخيه كلمة سيئة فيرتب عليها الأثر المعين؛ عن رسول الله، صلى الله عليه وآله:
«احمل أخاك المؤمن على سبعين محملاً من الخير»، والسبب يفسره لنا أمير المؤمنين، عليه السلام:
«لَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ سُوءاً، وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مُحْتَمَلًا»، وعن جعفر الصادق، عليه السلام:
«إذا بلغك عن أخيك الشيء تنكره، فالتمس له عذرًا واحدًا إلى سبعين عذرًا.. فإن أصبته، وإلا قل: لعل له عذرًا لا أعرفه»، فيجب علينا اجتناب الظنون الموجبة للإثم.
بعض الأحيان أن الظنون والشكوك والهواجس قد لا تأتي باختيار الإنسان، كما لو رأيت أحداً على هيئة الحرام، يقطع بأن هذا ارتكب الحرام، أو رأيته يذهب إلى المكان الفلاني مع شلة الفساد، فممكن أن نقول له: رحمَ الله من جب الغيبة عن نفسه، شاهده أن الظن في هذه الحالة تأتي قهرا، فلو إنسان يرى مؤمناً مع أفسق الفاسقين فمن الطبيعي يأتي الظن تلقائياً.
ولكن لنا تعليق على ذلك، من أنه لا يصح الحكم على فلان بالفسق بمجرد رأيناه يمشي مع فاسق، إذاً الظن يأتي قهراً، فالمطلوب منك أن لا ترتب الأثر على ذلك، بأن تحتقره أو تتكلم عنه بكلام غير لائق أو تقول فلان كذا وكذا، فترتيب الآثار على الظن، هو المنهي عنه شرعا في الآية المباركة.
والمانع الثاني في الآية المباركة ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾، وهي قضية ملفتة للنظر -وكل القرآن قضاياه ملفتة للنظر- لك سيئة تجر السيئة الأخرى، فلو ظن بأحد سوءاً، قد يراقبه أو يتجسس عليه أم ينصب له كامرات خفية، أي يتتبع عيوبه، أو يوصي أحداً أن يراقب فلان ليعرف ماذا عمل في خلواته، ليراقب عيوبه، فهذا يسمى تجسساً.
يا أيها الإنسان الذي تتجسس على الآخرين لو أراد الله أن يكشف عيوبك لفعل، كما روي عن أمير المؤمنين، عليه السلام:
«لو تكاشفتم ما تدافنتم»، أي لو علم الناس عيوب فلان الميت لما دفنوه وتركوه في العراء، لذا فإن سوء الظن يجر إلى التجسس، والتجسس يؤدي إلى الغيبة، وهو المانع الثالث، ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا﴾، بعد أن تجسس وعلم عيوبه، يذكر هذا العيب الذي اطلع عليه، لتصبح عند ذلك غيبة وما أدراك ما الغيبة؟!
هناك نقطة تفرق فيها الحلال عن الحرام، التجسس والتحسس، إن يعقوب النبي، عليه السلام، حينما يقول:
{يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا..}، (سورة يوسف: 87)، أي اطلبوا خبره (خبر الخير) فهذا هو تحسس، والذي يبحث عن أخبار الشر فهذا تجسس، والإنسان في غنى عن التجسس.
ومن بعد ذلك تعرج الآية المباركة على مدى حرمة سوء الظن والغيبة والتجسس ومدى كراهيتها واشمئزازها كمن يأكل الميتة:
{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}، فإنه – تعالى- كما يحرم أكل الميتة، من أنك يا أيها الإنسان كما لو رأيت جيفة لميت فلا تطاوعك نفسك لأكلها كذا سوء الظن والغيبة والتجسس.