ثقافة رسالية

نهج البلاغة والحياة (27) الحلم وقاية من الأحكام المتسرعة

يقول أمير المؤمنين، عليه السلام “وَالْعَدْلُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ: عَلَى غائِصِ الْفَهْمِ، وَغَوْرِ الْعِلْمِ، وَزُهْرَةِ الْحُكْمِ، وَرَسَاخَةِ الْحِلْمِ: فَمَنْ فَهِمَ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ، وَمَنْ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ صَدَرَ عَنْ شَرَائِعِ الْحُكْمِ، وَمَنْ حَلُمَ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَمْرِهِ وَعَاشَ فِي النَّاسِ حَمِيداً”

لا زلنا في بيان دعائم الايمان، ومنها دعامة العدل القائمة على أربع شُعب وقد بينا في مقالين سابقين شعبتين من هذه الدعامة هما” غائِصِ الْفَهْمِ، وَغَوْرِ الْعِلْمِ”، وفي هذه المقال نبين الشعبتين الأخيرتين من هذه الدعامة وهما “وَزُهْرَةِ الْحُكْمِ، وَرَسَاخَةِ الْحِلْمِ”.

  • فلسفة العدل

العدل قائم على فهمٍ لمحكمات الاحكام الصريحة لا المشتابهة؛ معرفة القانون الصريح الواضح، يقول النبي الاكرم، صلى الله  عليه وآله: الامور ثلاثة امر تبين لك رشده فاتبعه، وامر تبين لك غيره فاجتنبه، وامر اختُلف فيه فرده الى الله ـ عز وجل ـ”.

⭐ الحلم صفة في الانسان تدفعه الى ان يحكم بعقله لا بعواطفه

من يريد ان يحكم على شيء لابد أن يكون الشيء واضحا أمامه، أما حين يكون مغبرا فهنا يجب التوقف، فالعدل ليس قائما على اصدار الاحكام في أمور ليست واضحة لك، وكثيرا ما يَظلم الانسان في اصدار حكم او اتخاذ موقف في أمر لم يكن واضحا أمامه تماما، وحتى فيما بعد يعترف انه لم يكن متأكدا، وهذا هو الاساس الثالث للعدل.

  • الاساس الرابع: الحلم

القرآن الكريم يصف ابراهيم الخليل، عليه السلام، بأوصاف متعددة منها أنه { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}، فابراهيم كان وصفه أنه كان حليما، لان الحلم من صفات الله ـ عز وجل ـ، وجاءت عدد من الآيات لتبين ذلك: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}.

الحلم صفة في الانسان تدفع الى ان يحكم بعقله لا بعواطفه، كل الطغاة يستعجلون في اصدار الاحكام، فلا يوجد ظالم حليم، فهذان الأمران “الحلم والظلم” لا يجتمعان في شخص، فلو كان حليما لما كان ظالما.

المؤمن يتحمل التجريح والاهانة وجهل الجاهلين ولا يستعجل بالانتقام، يصف الله عباده بصفات: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً}، كم من ظلم، وتعدي، وجور، من إنسان على آخر لانه لم يتحمل كلمةً.

رجل قاتل ادخل في السجن، فجاءه بعض اصحابه يزورونه، فقالوا له: كيف حالك؟

قال: لم اتحمل سبيبة واحدة فقتلت صاحبي، وفي السجن في اليوم الواحد اسمع عشرات المسبات، وعشرات الشتائم، وغدا سأعدم.

الظلم قائم على العجلة والانتقام لا على الحلم، يقول امير المؤمنين، عليه السلام: “إن افضل الناس من حلُم عن قدرة وزهد عن رغبة وانفق..”، “ان كان في الغضب الانتصار ففي الحلم ثواب الاطهار”.

“لا يكون الرجل عابدا حتى يكون حليما يقول الله ـ تعالى ـ: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.

سمع أمير المؤمنين، عليه السلام، رجلا يشتم قنبرا وقد رام قنبر أن يرد عليه، فناداه أمير المؤمنين، عليه السلام: “مهلا يا قنبر دع شاتمك مهانا ترضي الرحمن وتسخط الشيطان وتعاقب عدوك، فوالذي فلق الجنة وبرأ النسمة، ما أرضى المؤمن ربه بمثل الحلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت، ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه”.

روي عن انس انه قال: “كنت مع النبي (صلى الله عليه وآله)، وعليه برد غليظ الحاشية، فجبذه اعرابي بردائه جبذة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه (صلى الله عليه وآله)، ثم قال:

يا محمد احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك، فإنك لا تحمل لي من مالك ولا مال أبيك.

فسكت النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم قال المال مال الله، وأنا عبده.

ثم قال: ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي؟

قال: لا.

قال: ولم؟

قال: لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة.

فضحك النبي، صلى الله عليه وآله، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير، وعلى الآخر تَمر.

ارتباط الحلم بالعدل انه يمنع الانسان ان ينطلق في الظلم ويعاقب، ولا يسمح الحلم للانسان ان يفرط أو يفرّط إذا عاقب يقول ـ تعالى ـ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}.

الاقوياء حينما يعاقبون إن لم يكونوا حلما فعقابهم تفريط، فالظالم يفرّط، يقول ـ تعالى ـ:{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.

⭐ ارتباط الحلم بالعدل انه يمنع الانسان ان ينطلق في الظلم ويعاقب، ولا يسمح الحلم للفرد أن يفرط أو يفرّط إذا عاقب

يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: ومن حلم لم يفرّط في أمره وعاش في الناس حميدا”، قد يعيش الظالم فترة طويلة، وباستطاعته ان يجبر كل الناس على اطاعته، لكنه لن يكسب حب قلب واحد، أما العادل قد يخسر؛ لكن القلوب تهواه وتعشقه، فما الذي يجعل الناس بعد مرور ألف عام يحبون علي بن ابي طالب، عليه السلام، إنما ذلك لعدله، وهو القائل: “هيهات أن اطلب النصر بالجور”، وكان باسطاعته ان يُبقي السلطة تحت يديه، ويد أولاده من بعده، لكنه قال: “لا يطاع الله من حيث يعصى”.

الظلم غير محمود؛ فأهرامات مصر تبين فضاعة الظلم الذي ارتكبه الفراعنة بحق المساكين من الناس، فقد مات العشرات وربما المئات في سبيل بناء تلك الاهرامات، ولذا نجد ان الفراعنة مكروهين لدى الناس، فالفراعنة ليسوا مجدا في تاريخ مصر، بل هم لعنة التاريخ: {وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ}.

العادل هو الذي يعيش في الناس حميدا؛ يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “وَالْعَدْلُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ: عَلَى غائِصِ الْفَهْمِ، وَغَوْرِ الْعِلْمِ، وَزُهْرَةِ الْحُكْمِ، وَرَسَاخَةِ الْحِلْمِ: فَمَنْ فَهِمَ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ، وَمَنْ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ صَدَرَ عَنْ شَرَائِعِ الْحُكْمِ، وَمَنْ حَلُمَ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَمْرِهِ وَعَاشَ فِي النَّاسِ حَمِيداً”.


  • مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرسي (حفظه الله)

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا