إضاءات تدبریة

من مفاتيح السعادة (2) الدُّعَاءُ وَالمُنَاجَاةُ مَعَ اللهِ تَعَالَى

  • مقدمة وجدانية

في الإنسان قوة خفية، وميزان حساس جداً، وحاكم بالعدل والإنصاف وهو ما نسمِّيه بالضمير أو الوجدان، فهذا هو موجود في كل إنسان وهو في الحقيقة ينطق بلسان الفطرة الصافية النقية التي فطرنا الخالق عليها، {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}. (الروم: 30).

الوجدان في الإنسان هو صوت الحق الذي ينطلق من أعماقه ليُصحح له مسيرته في هذه الحياة التي تنحرف، أو تضل، أو ربما يدخل في متاهة مظلمة، أو فتنة عمياء كما في هذا العصر الرقمي الذي تحوَّل بالنسبة لشبابنا خاصة متاهة مظلمة لا يعرفون طريق الخروج منها والهداية إلى المخرج الصحيح الذي يوصلهم إلى الجنة، وليس إلى هاوية جهنم السحيقة.

⭐ الوجدان في الإنسان هو صوت الحق الذي ينطلق من أعماقه ليُصحح له مسيرته في هذه الحياة التي تنحرف، أو تضل، أو ربما يدخل في متاهة مظلمة

فالسعيد حقاً – أيها الشباب- هو الذي يعرف مفاتيح السعادة، ويحمل معه مشعل الهداية، أو يُشعل شمعة نور في طريقه، أو في طريق غيره، لنسير جميعاً في النور وإلى السعادة التي خَلقنا الله تعالى لأجلها، لا أن نهوي في حُفر الشَّقاء، والتِّيه، والضَّلال، والضَّياع كما يحصل للكثيرين في هذا العصر.

  • الدُّعاء هو نور وطهور

وبما أننا يمَّمنا وجوهنا إلى كتاب ربنا لنبحث فيه عن مفاتيح السعادة لنا ومغاليق الشَّقاء علينا بإذن الله تعالى، فإن خالقنا ورازقنا أعطانا المفتاح الثاني للسعادة ألا وهو الدُّعاء، وما أجمله من مفتاح، وما أعظمه من عطاء من الرب الكريم الوهاب، وقد تكرر هذا المفتاح الراقي في القرآن الكريم على لسان نبي كبير من أنبياء الله ألا وهو إبراهيم الخليل وبطل التوحيد حينما اعتزل قومه، قال تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً} (مريم: 48).

ثم على لسان زكريا (ع)، حيث يقول سبحانه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} (مريم: 4).

واعلم – أيها العزيز- أن إبراهيم كان يتحدَّى النمرود الإمبراطور الذي ربما حكم الدنيا في عصره، وهو وحيداً فريداً لم يجد معه حتى عمَّه آزر الذي ربَّاه وتخلَّى عنه، ولكنه حمل مشعل الهداية والنور، وملك مفتاح السعادة لنفسه ألا وهو الدعاء.

وأما دعاء زكريا (ع) فهو الذي انطلق من قلب حزين لشيخ هرم ولا يجد عنده مَنْ يُعينه على صروف الزمان، ومتاعب الرسالة، فطلب من الله ذرية طيبة ليكون له عوناً وسنداً ووصياً، وهو الذي بين يديه مفتاح السعادة، ومغلاق الشقاء الأبدي ألا وهو الدعاء.

فالدعاء هو نور وطَهور روحاني ونفسي يَنعَم به الإنسان أيما نعمة، ويرتاح قلبه وتطمئن نفسه حينما يبثُّ همومه وما يعترضه من عثرات وعقبات، أو يحتاجه من حاجات لإكمال الطريق في هذه الدنيا التي هي مسير لا مصير، وجسر للعبور إلى حيث الأبدية، فهي دار ممر لا دار مقر فتزوَّدوا من ممركم إلى مقركم يرحمكم الله بخير الزاد التقوى.

  • الدُّعاء هو حديث مع الله

وقد ورد في بعض الأقوال الحكيمة: “أنك إذا أردتَ أن يكلمك الله تعالى فاقرأ القرآن، فهو كلام الله المعجز، وأما إذا أردتَ أنتَ أن تتحدَّث مع الله فعليك بالدُّعاء”، وهذا الكلام جميل ودقيق، لأن الدُّعاء: ” هو فن الحديث مع الله، أو مع الرب سبحانه وتعالى”، وهل هناك أجمل من هذا المحدِّث، أو هكذا حديث؟

فهلَّا تعلمنا ذلك الفن الراقي ـ أيها الشباب المؤمن – لنتحدَّث مع الله بآداب أحباب الله؟

لا سيما ونحن في شهر القرآن تلاوة وتدبراً، وشهر الدُّعاء ضراعة ومحبة، وهو شهر الضيافة الرحمانية، والدَّعوة المستجابة، وما أكثر الأدعية الواردة عن أئمة المسلمين (ع) في هذا الشهر الشريف الذي حشوه الخير والبركة، وملؤه الصبر والعبادة، وهل من عبادة أجمل من الدعاء، قال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا}. (الفرقان: 77).

أي أن الله تعالى لا يهتم ولا يلاحظ من أعمال الإنسان إلا دعاءه وتضرعه للباري تعالى، لا سيما إذا عرفنا أن الصلاة هي عمود وعماد الدِّين وأنها إذا قُبلت قُبل ما سواها وإن رُدت رُد ما سواها، هي التَّجلي الأرقى والأعلى للدعاء، بل معنى الصلاة في اللغة هي الدعاء.

  • من شروط الدعاء

وهنا قد يسأل بعض الشباب من الأحباب محقاً فيقول: نحن ندعو كثيراً ولكن ربنا لا يستجيب لنا، فما الفائدة من الدُّعاء إذن؟

هذه في الحقيقة –أيها العزيز- شبهة دقيقة ومفتاحها بيدك أنتَ لا بيد غيرك لأن الله سبحانه قال: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر: 60).

فالله أمرك بالدعاء ولا يستجيب لك فهذا ضرب من المستحيل؟ لأنه لو لم يرد أن يستجيب لك لمنعك من الدعاء، وحتى لم يأذن لك بدعائه، فأعظم نعمة منه أنه سمح وأنطق ألسنتنا بالدعاء له، فالمشلكة ليست في الرَّب سبحانه، بل المشكلة في العبد الذي لم يحقق الشروط اللازمة للإستجابة، فالله ضامن لك الإستجابة، ولكن عليك أنت أن تسعى من جانبك أن ترفع موانع الدعاء، أو تحقق شروطه الضرورية.

⭐ الدعاء هو نور وطَهور روحاني ونفسي يَنعَم به الإنسان أيما نعمة، ويرتاح قلبه وتطمئن نفسه حينما يبثُّ همومه وما يعترضه من عثرات وعقبات

ولذا قالوا: ليكون الدُّعاء نافعاً وناجعاً ومُستجاباً بأسرع من لمح البصر لا بدَّ من توفير شروطه، وهي سبعة: الضَّراعة، والخشوع، والخوف، والرَّجاء، والمداومة، والعموم، وأهمها أكل الحلال”، وقال آخر: بل هي خمسة؛ الامتثال لأمر الله، والاجتناب لنهيه، وتطهير الباطن والسِّر، وجمع الهمَّة والإخلاص بالطلب، والاضطرار لأن الله {يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}. (النمل: 62).

فبيدك المفتاح لفتح خزائن السماوات والأرض – أيها العزيز- وقد أباح وسمح لك جبارها أن تفتح ما تشاء وتأخذ مرادك، بل قال لك: (عبدي أطعني تكن مِثْلِي، أو مَثَلي، أقول للشيء كن فيكون، وتقول للشيء كن فيكون)، فإن أطعته أطاعك كل شيء.

واعلم أن الأرض لا تنسى جباه الساجدين، وأنت أقرب ما تكون من الرَّب حينما تكون في السجود، وهو يسمع الداعين لا سيما المضطرين، واغتنم ظلمة الليل البهيم وسكينته في هذه الليالي القادمة فالراحة، والسعادة، وسكينة، لا ينالها إلا القائمين المتضرعين لله في الأسحار.

  • الدُّعاء مفتاح السعادة

وحقيقة في الدعاء سكينة وطمأنينة لا يعرفها إلا مَنْ ذاقها وتنعَّم ببركتها، ولذا قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “اَلدُّعَاءُ سِلاَحُ اَلْمُؤْمِنِ، وَعَمُودُ اَلدِّينِ، وَزَيْنُ مَا بَيْنَ اَلسَّمَاءِ وَاَلْأَرْضِ”، وهل تعلم أن المسافة بين السماء والأرض؛ (هي دعوة مستجابة)، فكم هي سرعة الاستجابة إليك فهي لا مقياس لها ونحن نقول: أسرع من الضوء، فلربما هي أسرع منه أيضاً فمجرَّد أن تقول: يا رب، والأفضل أن تقول: ربي، فالجواب يأتيك من لحظتك: لبيك عبدي وسعديك، والأمر بين يديك، فقل ما تريد، وخذ ما تشاء، وافعل ما تحب، أي سعادة هي أعظم من هذه أيها الأحبة والشباب؟

  • الدُّعاء على كل حال

وبما أن الله سبحانه أعطاك المفتاح ودلَّك الرسول الأكرم على الباب فما بقي عليك إلا السعي لتنال ما تريد، متى تريد، وكيف تحب، ولذا جاء في الحديث النبوي: “سلوا الله عز وجل ما بدا لكم من حوائجكم، حتى شسع النعل فإنه إن لم ييسره لم يتيسر”، والإمام الصادق، عليه السلام، يقول: “عليكم بالدعاء، فإنكم لا تقربون إلى الله بمثله، ولا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعوا بها، إن صاحب الصِّغار هو صاحب الكبار”، وكان فيما أوحى الله إلى موسى: “يا موسى، سَلني كل ما تحتاج إليه، حتى علف شاتك، وملح عجينك”.

وقال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “لا يزيد في القوت إلا الدعاء”، فإذا أردتم – أيها الشباب- أن يزداد رزقكم وخيركم فعليكم بالدعاء والتضرع إلى الله، فلا يوجد مفتاح للسعادة والهناء والسكينة والراحة النفسية كالدعاء بعد القرآن الحكيم، لا سيما تلك الأدعية الواردة فيه، وهي من أعظم، وأجمل، وأشمل، وأكمل الأدعية.

فعندما نقرأ الأدعية الواردة في القرآن الحكيم فإنها تكون نوراً على نور، وطهرواً بعد طَهور فهي قرآن كريم، وهو المفتاح الأول للسعادة، ودعاء وتضرُّع وهو المفتاح الثاني لها أيضاً فنجمع الحُسنيين بإذن الله تعالى.

كما يجب ألا نغفل عن تلك الصحيفة النورانية التي خلَّفها لنا الإمام السجاد، عليه السلام، وهي الصحيفة السجادية وزبور آل محمد، فعلينا أن نقرأها كالقرآن الحكيم، ونختمها في كل عام إذا لم تكن في كل شهر – أيها الأحبة – فهي من كنوز النور في الدعاء، مع بقية التراث الروحي لأئمة أهل البيت، عليهم السلام، كدعاء يوم عرفه للإمام الحسين، فهو في الحقيقة دائرة معارف جاد بها المولى في ذلك الصعيد الطاهر لعرفات.

فإذا كنتم تطلبون السعادة ودفع الشقاء عنكم فخذوا هذا المفتاح الرائع وأحسنوا استخدامه لفتح الأبواب المغلقة أمامكم، لا سيما خزائن الرحمة والبركة في السماوات والأرض. دعائي لكم بالتوفيق ولا تنسوني من دعائكم ونفحات أنفاسكم الطاهرة أيها الشباب المؤمن.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا