مناسبات

في ذكرى الشهيد الشجاع الشيخ نمر باقر النمر

قرأت في سيرة المفكر الاسلامي الشهيد السيد حسن الشيرازي –طاب ثراه- أنه كان في سيارة تقلّه من سوريا الى لبنان يرافقه أحد أبرز خطباء المنبر الحسيني.

توقفت السيارة ونزل السائق ليشتري شيئاً تبين فيما بعد أنه زجاجة خمر أخذها ووضعها الى جنبه واستأنف المسير، فما هي لحظات وإذا بالسيد الشهيد الشيرازي يأخذ زجاجة الخمر ويرميها من النافذة فيجنّ جنون السائق لهذه الحركة المفاجئة والغريبة، فيتوقف ويبدي انزعاجه واعتراضه، فيما السيد الشهيد في مكانه يبتسم لم تعلق به أية شائبة مما ألقاه السائق من كلمات سيئة، كأنه لم يفعل شيئاً، وما أن هدأت ثورة الغضب لديه، بادره السيد الشهيد بثمن زجاجة الخمر ونصحه بعدم تكرار شرائها.

⭐ الشجاعة في قول الحق؛ سواءً بدأ في الأمر بالمعروف او النهي عن المنكر في محيطنا الاجتماعي، او في المحيط الأوسع والأكثر خطورة؛ في السياسة والحكم والقضاء، لا تأتي بقرار ارتجالي يرغب به صاحبه فيكون شجاعاً خلال لحظات

هل يمكن لأحد تصور حصول موقف كهذا في الوقت الحاضر؟

مضت سنين طوال حتى ظهر من تخرّج من المدرسة الرسالية، ليصدح بالحق أمام سلطان جائر، وفي ظروف أشد وأقسى مما كان عليه الوضع في سبعينات القرن الماضي – أيام الشهيد الشيرازي- لكن للأسف؛ حتى ذلك الموقف البسيط من نسخة السبعينات عجزنا عنه اليوم، ولكن الشهيد آية الله الشيخ نمر باقر النمر، كان له قراراً مختلفاً تماماً، فقد أصرّ أن يكون مصداق الآية الكريمة في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ}.

  • الحزم على طول الخط

الشجاعة في قول الحق؛ سواءً بدأ في الأمر بالمعروف او النهي عن المنكر في محيطنا الاجتماعي، او في المحيط الأوسع والأكثر خطورة؛ في السياسة والحكم والقضاء، لا تأتي بقرار ارتجالي يرغب به صاحبه فيكون شجاعاً خلال لحظات، إنما يتطلب الأمر استيطان النفس على الحزم والصلابة والشدّة أمام الخطأ او الباطل.

كتبت هذه الخاطرة في مقال سابق، وأعيدها تخليداً لذكرى هذا الشهيد المعلّم، عندما كنّا في حوزة الإمام القائم، عجل الله فرجه، في ثمانينات القرن الماضي، وقد حصل أن أحد المقيمين معي في الغرفة كانت له مشكلة ادارية، وكان يرفض حضور الدروس، مما أثار امعتاض الشيخ الشهيد كونه أحد أعضاء الهيئة الإدارية في الحوزة، فجاء الى غرفتنا فوجد الباب وقد أغلقه ذلك الطالب، فصرخ عالياً يأمره بفتحها فوراً وإنهاء “هذه المهزلة”ّ! فقمت وفتحت له الباب لإنهاء الازمة، فوجدت الشيخ الشهيد ـ رحمه الله- أمامي منتصباً وقد بدت عليه علائم الغضب والانزعاج من تصرف ذلك الطالب.

طبعاً؛ ثمة فارق واضح بين الحزم والشدّة، والانفعال والعصبية، فالأولى حالة يتحكم بها صاحبها، بل ويصنعها بنفسه في الوقت والمكان المناسبين، ويحقق من خلالها أهداف كبيرة، بينما الحالة  الثانية هي التي تتحكم وتقود صابحها الى الدواهي والكوارث، فعندما كان الشهيد يعنّف السلطة السعودية، ويجهر بانتقاداته اللاذعة لرؤوسها، في نفس الوقت كان تحسيداً لسلوك أصحاب رسول الله؛ {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، كان يتخذ موقفاً مميزاً بحدته إزاء الاوضاع العامة في السعودية، ولاسيما ما يتعلق بوضع اتباع أهل البيت، عليهم السلام، وكان في الوقت ذاته يدعو الآخرين لاتخاذ الموقف نفسه، وأن يكونوا ممن ينصروا الحق ويقولوا كلمته بكل شجاعة بوجه سلطان جائر، وهذه دعوة وأمنية تعبر عن حب و ودّ لجميع الأخوة المؤمنين ممن هم في خط فكري وثقافي واحد ومصير مشترك.

  • الشجاعة بكل ثمن

من المؤكد أن الإقدام نحو الاعمال الشاقّة تكلف صاحبها جهوداً في أمواله ووقته وسمعته، وربما في نفسه ايضاً، لاسيما اذا تعلق الأمر بالسلطة الظالمة والاعتراض على سياساتها وقراراتها، لذا نرى الكثير من المؤمنين، يلتزم بكل شيء، إلا هذه الفقرة، وهذه حالة ليست وليدة اليوم او الأمس، إنما هي معضلة نفسية رافقت الاجيال على مر التاريخ الاسلامي، ويمكن ملاحظة جذورها جليةّ في واقعة الطف، وكيف أن المحبين للإمام الحسين، عليه السلام، ومن يعرفون منزلته ومكانته، يخذلونه ساعة الحسم، ثم أخذت هذه الحالة اشكالاً وسمات جديدة في الظروف الراهنة باتت تعبر عن اجتهادات شخصية وقناعات معينة إزاء الاوضاع، حتى بات السكوت على سياسات السلطة الجائرة اسلوباً لـ “الإصلاح”! عند البعض، وتحكيم معايير منطقية او عقلية مثل “المهم والأهم”، وأشباهها، أو تغليب اللين والمُسالمة على المواجهة المباشرة، وهذا تحديداً ما كان يرفضه الشهيد النمر، وهو رجل له رؤيته الفقهية والشرعية، ويُعد أحد أبرز اساتذة الحوزة العلمية أينما حلّ وارتحل.

⭐ ضحى آية الله الشيخ النمر بحياته من أجل الكرامة المهدورة والحقوق السليبة لابناء شعبه، ومن أجل رفع راية الإسلام وما يضم من أحكام وقيم سماوية سمحاء

شجاعته وبسالته واستخفافه بالتهديدات وبالموت، هي التي فضحت زيف ادعاءات السلطة السعودية بأنه راعٍ للارهاب والعنف، فقد كان شجاعاً في كلمته، وليس في دعوته الشباب لممارسة العنف على غرار ما تفعله بعض الحركات والجماعات المحسوبة على الاسلام، التي قتلت الناس بالجملة، وعذّبت، وقطعت الرؤوس، وأحرقت الاجساد، وذبحت، تحت اسم الاسلام، ورسول الرحمة، وطالما كرر القول في خطاباته: “زئير الكلمة أقوى من أزيز الرصاص”، فقد واجه بشجاعة الكلمة جُبن الرصاص والنار المقذوف ممن يحتمون بالشرطة ليعيشوا نعيم القصور.

ضحى آية الله الشيخ النمر بحياته من أجل الكرامة المهدورة والحقوق السليبة لابناء شعبه، ومن أجل رفع راية الإسلام وما يضم من أحكام وقيم سماوية سمحاء. مضى ولم يجبر أحداً على المضي معه في طريقه دون وعي كامل وإرادة منه، كما فعل الإمام الحسين، عليه السلام، مع اصحابه ومن رافقه الى كربلاء، بيد أنه أراد للجميع ان يتحلّوا بالشجاعة والإقدام في قول الحق من اجل الإصلاح ونشر قيم الحق والفضيلة ليعيشوا السعادة في الدنيا والاخرة.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا