إضاءات تدبریة

القرآن الكريم يواكب مسيرة السبايا

“يا شيخ هل قرأت القرآن”

بهذا السؤال فاجأ الامام السجّاد، عليه السلام، ذلك الشيخ الشامي الذي ظهر أمامه وهو في موكب السبايا خلال دخولهم الشام، وكان ذلك الشيخ غارقاً في التضليل الأموي متوهماً أن السبايا يعودون لجماعة متمردة تريد الإضرار بالدولة الاسلام، فقال له ـ في حوار طويل-  “الحمد لله الّذي قتلَكم وأهلَكَكم وأراحَ العباد من رجالكم، وأمكَنَ أمير المؤمنين –يزيد- منكم”!

فسأله الامام السجاد بكل هدوء و لطف: يا شيخ هل قرأتَ القرآن؟ قال: نعم، فقال: فهل قرأت هذه الآية: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}؟ قال الشيخ: قرأتها. فقال له، عليه ‌السلام: فنحن القربى يا شيخ.

و استمر معه الامام زين العابدين في الاستشهاد بالقرآن الكريم على منزلته ومنزلة الموجودين من أهل البيت في قافلة السبايا، حتى وصل الى آية التطهير، وأوضح لذلك الشيخ الشامي بأنه من أهل البيت الذين طهرهم الله في كتابه المجيد تطهيراً، وبعد اتضاح الحقيقة، أظهر الندم برمي عمامته على  الارض والبكاء وطلب التوبة من الامام، فقبل، عليه السلام، توبته، وجاء في التاريخ أنه لما بلغ خبر هذا الشيخ الى يزيد أمر بقتله وقتل تائباً مستبصراً بنور القرآن الكريم.

  • آيات القرآن الكريم سهام لمواجهة الطغاة

من يراجع خطبة العقيلة زينب، عليها السلام، في الكوفة والشام، يرصد استشهادات عدّة بآيات الكتاب المجيد تأتي انسيابية في كلامها البليغ والدقيق، ففي بداية خطبتها في الكوفة تقول: “إنما مثلكم {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ}، ثم قالت: {ألا  بِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَفِي الْعَذَابِ أَنْتُمْ خَالِدُونَ، مقتبسة من الآية الكريمة: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}، ثم قالت في جانب آخر من خطبتها: “قَدْ خَابَ السَّعْيُ وَتَبَّتِ الْأَيْدِي وَخَسِرَتِ الصَّفْقَةُ وَبُؤْتُمْ‏ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، وَضُرِبَتْ عَلَيْكُمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ” مقتبسة من الآية الكريمة: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ}.

وكذا الحال في خطبتها أمام الطاغية يزيد التي بدأتها بهذه الآية الكريمة: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون}، ثم ذكّرت يزيد؛ في جانب آخر من خطبتها المدوية، بالآية الكريمة: {وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ}.

الاستشهاد بآيات القرآن الكريم في هذه المسيرة الحافلة بالتحدي والمقاومة والجهاد، أماط اللثام عن الوجه الحقيقي للدولة الأموية المنقطعة عن أحكام الدين وتعالم الاسلام، وأيضاً بسيرة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، فقد جسّد أهل البيت، عليهم السلام، أخلاق القرآن وآدابه في خطابه الجماهيري من خلال الوعظ والإرشاد والتذكير لمن ألقى السمع وهو شهيد، في نفس الوقت؛ التحذير والتقريع لمن تمادى في غيّه، و أصر على انحرافه وطغيانه.

  • حسبنا كتاب الله ثم قتل الامام الحسين!

في مقالات سابقة أشرنا الى هذه المعادلة الخاطئة التي تبناها المسلمون في تلك الحقبة الزمنية الحاسمة، فهم تصوروا أنهم ليسوا بحاجة الى أئمة هداة يفسرون لهم القرآن الكريم و يجدون له مصاديق عملية على أرض الواقع، فهم قادرون على ذلك، رغم ضحالة الايمان وسطحية الوعي الديني، مع كمٍ هائل من الترسبات الجاهلية المانعة لدخول نور الإيمان الى أعماق القلوب والنفوس، لذا كانت هذه العبارة (حسبنا كتاب الله) التي أطلقها بعض وجهاء الكوفة بعض خذلان مسلم بن عقيل، تمثل باباً للهروب من مسؤولية نصرة الامام الحسين، والتملّص من بيعته والوعود له باستقباله في الكوفة كقائد وإمام وحاكم، أكثر مما هي إيماناً بالقرآن الكريم بأنه هو الملجأ والفيصل لقراراتهم المصيرية، وإلا لا يُعقل أنهم نسوا وصية رسول الله بأني: “تارك فيكم الثقلين؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي”، و لم يمض عن وفاة الرسول فترة طويلة، وكان ممن سمع هذه الحديث من فم رسول الله، موجوداً على قيد الحياة عندما اتفقت كلمة الأمة على قتال ابن بنت رسول الله في كربلاء.

إنّ الأمة شهدت محنة قاسية في تفهّم العلاقة بين القرآن الكريم وأهل بيت رسول الله منذ اللحظات الاخيرة لوجود رسول الله على قيد الحياة أمام اصحابه، حيث بدأ سوء الفهم يأخذ مساره السريع نحو الكوارث والمآسي المريعة، وليس أقلها فاجعة كربلاء، وهي المحنة المستمرة حتى يومنا هذا، فكلما ارتفع منسوب التفهّم والاستيعاب لهذه العلاقة المنسوجة في السماء، كلما تمكنّا من تجنب المخاطر والفتن، وايضاً؛ تجنب اتخاذ القرارات الخاطئة، لاسيما ما يتعلق بالقيادة والحكم، وتفسير “النصوص الدينية”.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا