المرجع و الامة

المرجع المدرسي: القرآن الكريم لابدّ أن يؤثّر في القلب وبالتالي في سلوك الانسان

تدبرات في سورة (الانسان) شهر رمضان المبارك / 1440 هـ – (اليوم الحادي عشر)

“نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ”

بسم الله الرحمن الرحيم
[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً](24)
صدق الله العلي العظيم

تفصيل القول
بالرغم من أنّ معارف البشر متشعبّه ومتنوّعة، الّا أنّ جذر كلّ المعارف مرتبط بأصول عقلية وفطرية عند الإنسان؛ وكلّما كانت تلك الأصول أكثر وضوحاً كان الوصول الى المعارف أسهل والاستفادة منها بشكل صحيح، وبالعكس كلّما كانت تلك الأصول غير واضحة كان الوصول الى العلم أصعب.
ولو تأمّلنا سنجد أنّ من أهداف الآيات القرآنية هو ايصالنا الى تلك الأصول (الحِكمة)، وهو الذي كان عليه أصحاب النبي (ص) المُخلصين الذين كادوا من الفقه أن يكونوا أنبياء، وحوو علوماً شتّى لأنّهم كانوا حُكماء.
وهكذا تُحدّد الحِكمة الهدف من العلم، وهذه هي مشكلة البشر حيث يهتمّ بتهيئة الوسائل ويضيع الهدف، ذلك الهدف الذي لابدّ أن يُحدّد اتجاه المسير، وكيفية الاستفادة من العلم، فنجد فلاسفة البشر ضاعوا بالبحث عن القيم التي تُنظّم سلوك المجتمعات، كلّ ذلك لأنّ البشر فقد الحِكمة، والقرآن الكريم هو كتاب الحِكمة الذي يُبيّن للبشر أهداف وجوده في الحياة.

كيف نأنس مع القرآن؟
لكنّ السؤال المهم هو في كيفية الاستفادة من القرآن والأنس مع آياته المباركات؟
آيات عديدة في القرآن الكريم تتعرّض الى الإجابة عن هذا التساؤل نختار اربع منها ثم نعود للآية الكريمة من سورة الإنسان.
الآية الاولى: قوله سبحانه وتعالى: [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى‏ قُلُوبٍ أَقْفالُها][1] تدلّ الآية المُباركة أنّ طريق الاستفادة من آيات القرآن الكريم هو التخلّص من أقفال القلب، من الإعراض عن القرآن والخوف من تحمّل مسؤولية مضامين الآيات المباركات، الى التخلّص من المسبقات الفكرية التي تكون حاجزاً من الاستفادة من آيات الذكر الحكيم،
أرأيت من يذهب الى العين الصافية لكنّه يحمل معه مياه ملوّثة ليشرب منها! هذا حال الكثير من الناس الذين يبحثون في القرآن ما يوافق آراءهم الفكرية، لا أن يجعل القرآن منطلقاً للمعرفة.
الآية الثانية: قوله سبحانه وتعالى: [أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ‏ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلينَ][2] التدبر من كلمة الدبر، أي النهاية فمن القرآن يبدأ المؤمن فيسير بعقله، و على ضوء الآية، الى الحقائق، فيرى ماذا تريد الآية و أين هو واقعها الخارجي، و تطبيقها الحي، وهذا هو التعامل المطلوب مع الآيات الكريمة.
الآية الثالثة: قوله سبحانه وتعالى: [كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ‏ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ][3] القرآن مبارك ومن تجلّيات ذلك أنّ الانسان لو صرف عمره في التدبّر فيه سيجد المزيد من المعارف لأنّه يتجدّد، وكلمة [مُبارَكٌ] يعني أيضاً أنّه يتشعّب الى سائر العلوم والمعارف.

[وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ] فليس الغاية من القرآن هو الوصول الى معلومات جديدة فقط، بل أنّ القرآن الكريم لابدّ أن يؤثّر في القلب وبالتالي في سلوك الانسان، ومن هنا نجد أنّ القرآن الكريم في وصف العلماء يقول: [ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ][4] واستخدامه كلمة [الذكر] بدل العلم للتدليل على أنّ الاتباع لابدّ أن يكون للعلماء الربّانيين.
الآية الرابعة: قوله سبحانه وتعالى: [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فيهِ اخْتِلافاً كَثيراً][5] يستحيل أن تجد كتاباً جامعاً لدستور الحياة بكلّ أبعادها، ثم يكون بهذا الانسجام و الدقة و التناغم، و هكذا تجد القرآن يُصدّق بعضه بعضاً، وربّما تجد تبيين كلمة في اوّل القرآن في آخره.
يقول ربّنا تعالى في سورة الانسان: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزيلاً] في الآية ثلاث تأكيدات من إنّ وتكرار ضمير المتكلم مع الغير والإتيان بالمفعول المطلق كلّ ذلك للتأكيد.

[نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزيلاً] أي منجّما و ليس دفعة واحدة، و ذلك يتماشى مع هدف القرآن، ويجعل البشر قريباً لإدراك الحقائق.
[فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً] في سبيل تطبيق القرآن الكريم لابدّ من تجنّب التأثير الذي يأتي من أصناف مختلفة من الناس:
الصنف الأول: هم الفسّاق الذين يتعارض تطبيق الدين مع اهواءهم.
الصنف الثاني: حين يتحوّل ذلك الى تيّار في المجتمع له دوافع سياسية، ويخطّطون من أجل الصد عن سبيل الله وعن تطبيق آيات الذكر الحكيم وحملته من المعصومين و من تبعهم من العلماء الربّانيين.
خطّ المنافقين في الأمّة يُشكّلون ضغطاً كبيراً لتحريف الآيات وفقاً لمصالحهم وأهواءهم.
الصنف الثالث: وهم الكفّار الذين يعادون الحق بصورة صريحة وواضحة.
وهكذا نجد القيادات الربّانية كانت دائماً تتبّع الآيات القرآنية ولا ترضخ للضغوط الداخلية والخارجية، أو الحكومات السياسية الطاغوتية وتاريخنا حافل بامثلة كثيرة من تلك البطولات.
_____________________________
[1] سورة محمد، الآية: 24.

[2] سورة المؤمنون، الآية: 68.

[3] سورة ص، الآية: 29.

[4] سورة النحل، الآية:43.

[5] سورة النساء، الآية 82.

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا