مناسبات

الناصران العظيمان وعام من الحزن عليهما

📌 مقدمة

في التاريخ الإنساني قمماً شاهقة، وفي المجتمع البشري قيادات صادقة، يخضع لها الناس لما لها من تأثير فيهم سواء كان سلباً أو إيجاباً، وأولئك لا يقتصرون على الرجال فقط، بل فيهم من النساء اسماء لامعة تُضيء الخافقين، ورجال عظام يفوقون الجبال.

وفي تاريخنا العربي والإسلامي من هؤلاء العظام أشخاصاً لا يمكن للمسلم أن يتجازوهم، ولا أن يتناساهم كما فعلت طوائف كثيرة ممن ينتسبون لهذه الأمة بالاسم وحقيقتهم أنهم كانوا من أتباع السلطة الحاكمة، ومنتسبون لرجال قريش الأوائل الذين حكموا وصار الناس على دينهم وتركوا دين محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله، وربنا ـ سبحانه ـ أخبر عن انقلابهم على الأعقاب حيث قال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}. (سورة آل عمران: 144).

فانقلب الأصحاب على رسول رب الأرباب، وراحوا ينتهجون مناهجهم المختلفة التي سمَّاها القرآن الكريم بالسُّبُل، وتركوا الصراط المستقيم الذي أمرهم أن يتمسَّكوا به، ويدعون ربهم في كل صلاتهم {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}. (سورة الفاتحة: 6)، ولكن اتبَّعوا المغضوب عليهم (اليهود)، أو الضَّالين (النصارى)، فضلُّوا ضلالاً بعيداً إذ تاهوا عن جادة الحق والصواب.

📌 الناصران العظيمان

قال الله ـ تعالى ـ في محكم كتابه: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}. (سورةالأنفال: 74)، في هذه الآية الكريمة تُحدد أن الذين آووا ونصروا هم المؤمنون حقاً، ولك أن تسأل كل عاقل في هذه الأمة الإسلامية هذا السؤال:

مَنْ الذي آوى ونصر رسول الله، صلى الله عليه وآله في مكة المكرمة؟

إنه سؤال جوهري ومصيري في تاريخ الإسلام كله، لما له من أثر في وجود وحضور ونصر الإسلام واستمراره في مكة المكرمة، فالجواب وبقول واحد: أن الذي آوى، وربَّى، وكفل، ونصر، ودافع، وحمى، رسول الله، صلى الله عليه وآله، شخصياً، واسلام كدعوة ههما شخصان اثنان لا ثالث لهما من البشر، وكان دورهما متكاملاً لا منفصلاً ولذا كانا مع بعضهما وتوفيا أيضاً بنفس الوقت بعد الخروج من حصار قريش لهم في شعب أبي طالب، عليه السلام، وهما:

  1. عبد مناف بن عبد المطلب المعروف بأبي طالب، عليه السلام، وزوجته وأبناءه الكرام.
  2. أم المؤمنين الأولى والكبرى خديجة بنت خويلد، عليها السلام، بنفسها ومالها وحياتها.

لا أحد من أهل القبلة يُنكر ما لهذين العَلَمين من أثر في حياة رسول الله الشخصية، ثم في حياته الرسالية والدينية، ولذا يستحقان أن يكونا هما المؤمنان حقاً وصدقاً لما تمتَّعا به من صفات إيمانية راسخة تخضع لها الرجال وتهتز لها الجبال

فلا أحد من أهل القبلة، يُنكر ما لهذين العَلَمين من أثر في حياة رسول الله الشخصية، ثم في حياته الرسالية والدينية، ولذا يستحقان أن يكونا هما المؤمنان حقاً وصدقاً لما تمتَّعا به من صفات إيمانية راسخة تخضع لها الرجال وتهتز لها الجبال.

📌 عبد مناف أبو طالب عليه السلام

هذا الإنسان العظيم الذي كان زعيم قريش بعد أبيه عبد المطلب، عليه السلام، إبراهيم الثاني فكان بمقام إسماعيل الثاني أيضاً في شخصيته الفذة ومكانته العالية بحيث أنه كان (سيد البطحاء)، و(سيد الوادي)، و(شيخ قريش وسيدها)، و(بيضة البلد مكة)، و(عصمة المستجير)، وشاعرها وأديبها، ومطعمها وساقي حجيجها ورافدهم، الذي كفل ابن أخيه عبد الله محمداً منذ أن كان في الثامنة من عمره الشريف، ورباه، وحافظ عليهن وحماه من الأبيض والأسود، ورافقه كظله وخاف عليه كعينه، ولما كبر زوَّجه وأعطاه ولده علياً ليخدمه، ثم وصل جناحه بولده جعفراً عندما رآه يُصلي بجناح واحد هو ولده علي، فقال لولده جعفر: “صِلْ جناح ابن عمك”، فطار رسول الله، صلى الله عليه وآله، والإسلام بجناحين من ابي طالب، عليه السلام.

ولكن كان جزاؤه من قريش وسلاطينها وحكامها؛ أنه ما أسلم ومات كافراً، وآباءهم والذي ما اسلموا ولا عرفوا معنى الإسلام صاروا مسلمين وحسُن إسلامهم، {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}. (النجم: 22).

والحقيقة ليس كما يتمنى أولئك النواصب فحقيقة الأمر نعرفها من الابناء لا من الأعداء فهذا المُفَضَّلُ بْنُ عُمَرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ: “أَنَّهُ كَانَ جَالِساً فِي اَلرَّحْبَةِ، وَاَلنَّاسُ حَوْلَهُ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ بِالْمَكَانِ اَلَّذِي أَنْزَلَكَ اَللَّهُ وَأَبُوكَ مُعَذَّبٌ فِي اَلنَّارِ

فَقَالَ لَهُ: مَهْ فَضَّ اَللَّهُ فَاكَ؛ وَاَلَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً بِالْحَقِّ نَبِيّاً لَوْ شَفَعَ أَبِي فِي كُلِّ مُذْنِبٍ عَلَى وَجْهِ اَلْأَرْضِ لَشَفَّعَهُ اَللَّهُ أَ أَبِي مُعَذَّبٌ فِي اَلنَّارِ وَاِبْنُهُ قَسِيمُ اَلْجَنَّةِ وَاَلنَّارِ وَاَلَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً بِالْحَقِّ؛ إِنَّ نُورَ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ لَيُطْفِئُ أَنْوَارَ اَلْخَلاَئِقِ إِلاَّ خَمْسَةَ أَنْوَارٍ نُورَ مُحَمَّدٍ، وَنُورَ فَاطِمَةَ، وَنُورَ اَلْحَسَنِ، وَاَلْحُسَيْنِ، وَنُورَ وُلْدِهِ مِنَ اَلْأَئِمَّةِ أَلاَ إِنَّ نُورَهُ مِنْ نُورِنَا خَلَقَهُ اَللَّهُ مِنْ قَبْلِ خَلْقِ آدَمَ بِأَلْفَيْ عَامٍ“. (كنز الفوائد؛ الكراجكي: ص ٨٠).

هذا هو الحق والصدق من أهله، فكيف يمكن لمسلم أن ينطق بحق أبي طالب ما ينطقه النواصب الذين يبغضون محمداً وآله الطيبين الطاهرين، ولكن لا يجرؤون على التصريح بذلك فيصبون ماء غضبهم على والده العظيم، لأنه هو الذي حمى وآوى رسول الله، صلى الله عليه وآله.

📌 أم المؤمنين السيدة خديجة عليها السلام

والشخص الآخر هو تلك المرأة العظيمة التي ادَّخرها الباري ـ تعالى ـ لنبيه الكريم، صلى الله عليه وآله، وللمؤمنين جميعاً لتكون أمهم الأولى، هي السيدة خديجة بنت خويلد، عليها السلام، التي أحبت رسول الله، صلى الله عليه وآله، وأعطته كل ما لديها من نفسها، وبيتها، ومالها، فوهبته كل شيء لله ـ تعالى ـ، وكان جزاؤها من الله السلام عليها كلما نزل الوحي وجاءت إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله، كان سيدنا جبرائيل، عليه السلام يقول لرسول الله، صلى الله عليه وآله: “هذه خديجة قد أقبلت فاقرأها من ربي ومني السلام، فلما بشَّرها رسول الله، صلى الله عليه وآله، بذلك كانت لا تزيد عن قولها ربي السلام ومنه السلام وإليه يعود السلام“، فكان كل همِّها في رضا الله ـ سبحانه وتعالى ـ ورضا رسوله الكريم، زوجها وسيدها وحبيبها محمد، صلى الله عليه وآله.

يستحقان من رسول الله، صلى الله عليه وآله، أن يحزن عليهما عاماً كاملاً سماه بعام الحزن، حيث فقدهما خلال ثلاثة ايام فقط في شهر رمضان بعد خروجهما من شعب أبي طالب، عليه السلام

وفي رواية أخرى: “نَظَرَ جَبْرَئِيلُ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، إِلَى خَدِيجَةَ تَجُولُ فِي اَلْوَادِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ أَ لاَ تَرَى إِلَى خَدِيجَةَ قَدْ أَبْكَتْ لِبُكَائِهَا مَلاَئِكَةُ اَلسَّمَاءِ اُدْعُهَا إِلَيْكَ فَأَقْرِئْهَا مِنِّي اَلسَّلاَمَ، وَقُلْ لَهَا: إِنَّ اَللَّهَ يُقْرِئُكِ اَلسَّلاَمَ وَبَشِّرْهَا أَنَّ لَهَا فِي اَلْجَنَّةِ بَيْتاً مِنْ قَصَبٍ لاَ نَصَبَ فِيهِ، وَلاَ صَخَبَ لُؤْلُؤاً مُكَلَّلاً بِالذَّهَبِ“. (بحار الأنوار: ج۱۸ ص241).

ويأتي أتباع السلطة القرشية ليجعلوا من تلك المرأة الناشز بكل معاني القيم الزوجية، ليجعلوها كالثريد من الطعام، ويُفضِّلوها على هذه السيدة العظيمة، ويتهمونها أنها تزوجت من اثنين من توافه الرجال في الجاهلية رغم أن قريش كانت تُسميها بـ(الطاهرة)، فهل كانوا يسمون امرأة تزوجت من اثنين ورزقت أولاداً منهما بمثل هذه الصفة حيث أن الطاهرة هي التي لم تعرف الرجال، وكان قدوة النساء في العفة والطهارة؟

📌 عاماً من الحزن

ولذلك يستحقان من رسول الله، صلى الله عليه وآله، أن يحزن عليهما عاماً كاملاً سماه بعام الحزن، حيث فقدهما خلال ثلاثة ايام فقط في شهر رمضان بعد خروجهما من شعب أبي طالب، عليه السلام، بعد ذاك الحصار الخانق والظالم من قريش والذي دام أكثر من ثلاث سنوات عجاف أكلوا فيه العلهز وأعشاب الأرض، فضعفا وماتا إلى ربهما بعد أن أديا واجبهما تجاه رسول الله، صلى الله عليه وآله، ورسالته الإسلامية، وفي الرواية: “بِأَنَّ جَبْرَئِيلَ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ، صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، عِنْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ، رِضْوَانُ اَللَّهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ اَلسَّلاَمَ وَيَقُولُ لَكَ: أُخْرُجْ مِنْ مَكَّةَ فَقَدْ مَاتَ نَاصِرُكَ” فراح يعد العدَّة للهجرة.

هذا العلمان العظيمان المظلومان تمر علينا في مثل هذه الأيام وفاتهما وشهادتهما في شهر رمضان المبارك في مكة المكرمة عليهما آلاف التحية والثناء والسلام، وعلى جاحدي حقهما ما يستحقون من عذاب الله في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.

عن المؤلف

أ.د سادسة حلاوي حمود ــ جامعة واسط ــ قسم تاريخ الأندلس والمغرب

اترك تعليقا