ولد الإمام الجواد، عليه السلام، في 10 رجب الأصب سنة 195 هـ في المدينة المنورة
- مقدمة
إذا أردنا الحديث والبحث عن الإمام محمد بن علي الجواد، عليه السلام، فإننا بحاجة ماسَّة لمعرفة تلك الظروف التي عاشها الإمام، عليه السلام، مع ما كان عليه من صغر سنِّه، إذ أنَّه تسنَّم منصب الإمامة وهو في السَّادسة من عمره الشَّريف، واستشهد وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين سنة، إذ أنه استشهد وهو في ريعان الشباب كأمِّه فاطمة الزهراء، عليه السلام، التي لم تصل إلى العشرين من عمرها لأنها كانت تُشكِّل خطراً فادحاً على السُّلطة القرشية، وكذلك الإمام الجواد، عليه السلام، كان يُشكل خطراً على الحكم العباسي لا سيما وأنه عاش في عصر التنين العباسي الذي أخضع الجميع لحكمه ودهائه وسلَّموا له بالسُّلطة والخلافة والحكم.
الإمام محمد الجواد، عليه السلام، هو معجزة الإمامة، ودرَّة الولاية، فهو الفتى الذي تحدَّى به عبد الله المأمون، العباسيين، وعلماء المسلمين، وأهل مملكته المترامية الأطراف وفاز عليهم به
نعم؛ إنه عبد الله المأمون ابن مَرَاجل تلك الخادمة في مطابخ الست زبيدة سيدة بني العباس دون منازع، ولكن كيف رأى المأمون وهو الذي قاتل أخاه خمس سنوات حتى قتله، وعلَّق رأسه على باب المدينة، ثم جاء بالإمام علي بن موسى الرِّضا، عليه السلام، من المدينة المنوَّرة إلى مرو، ثم إلى خراسان ليُبايع له بولاية العهد له مكراً وخديعة، ليُثبِّت سلطانه المضطرب، وكرسيه المترنِّح، وتاجه المتأرجح، فقد انتفضت عليه البلاد، وخرج عليه العباد، بعد تلك الحروب الطويلة مع أخيه الأمين.
فكان الإمام علي بن موسى الرضا، عليه السلام، رهانه لكسب طرفين أساسيين في دولته المضطربة هما:
1- أهله وعشيرته العباسيين الذين لم يعترفوا به، لأنهم كانوا لا يحبونه، ولا يريدون حكمه، فهو ابن مراجل المعروفة، ولذا بايعوا أخاه محمد الأمين وأمه الست زبيدة، ولما قتله خرجوا عليه وبايعوا لعمِّه في بغداد فأراد أن يُعيدهم إليه بإظهاره أنه يُريد أن ينقل الخلافة والحكم إلى العلويين فجنَّ جنونهم وقالوا بعد مداولات ومباحثات فيما بينهم: أن تبقى الخلافة فيه خير من أن تنتقل إلى العلويين فرضوا به خليفة.
2- الشيعة الكرام الذين كان لهم حضورهم، وثوراتهم المختلفة، وكلٌ يؤمن بإمامة وقيادة الإمام علي بن موسى الرِّضا، عليه السلام، ولذا عندما رأوا أن سيِّدهم ومولاهم وإمامهم أصبح ولياً للعهد، وضربت السِّكة باسمه الشَّريف، ونودي به على جميع منابر المسلمين، فاطمأنوا وسكنوا وأقروا للمأمون على هذا الأساس.
وهكذا وخلال عامين فقط من مدة وجود وبقاء الإمام الرِّضا، عليه السلام، إلى جوار المأمون كسب الخلافة، والسلطة، طيلة حياته، ولذا ما استقرَّت به السَّفينة، وكرسي الحكم والسلطة، حتى دسَّ السُّم للإمام الرِّضا، عليه السلام، ودفنه غريباً بجوار والده هارون وعاد إلى بغداد تنيناً يأكل الجميع ويخافون منه.
- الإمام الجواد، عليه السلام، معجزة الإمامة
نعم؛ الإمام محمد الجواد، عليه السلام، هو معجزة الإمامة، ودرَّة الولاية، فهو الفتى الذي تحدَّى به عبد الله المأمون، العباسيين، وعلماء المسلمين، وأهل مملكته المترامية الأطراف وفاز عليهم به، لعلمه بأنه من أهل بيت زقُّوا العلم زقاً، وأنه حجة الله على خلقه، ولذا استخدمه كما فعل بأبيه الإمام الرِّضا، عليه السلام، وبرز ذلك كله عندما أراد أن يُزوِّجه بابنته أم الفضل رغم معارضة البيت العباسي لذلك، ولما اعترضوا عليه خاصمهم إلى أنفسهم، وخصمهم بالإمام الجواد، عليه السلام، بعد ذلك.
قَال الراوي:” لَمَّا أَرَادَ اَلْمَأْمُونُ أَنْ يُزَوِّجَ اِبْنَتَهُ أُمَّ اَلْفَضْلِ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، بَلَغَ ذَلِكَ اَلْعَبَّاسِيِّينَ فَغَلُظَ عَلَيْهِمْ وَاِسْتَكْبَرُوهُ وَخَافُوا أَنْ يَنْتَهِيَ اَلْأَمْرُ مَعَهُ إِلَى مَا اِنْتَهَى مَعَ اَلرِّضَا، عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
فجاء إليه كبراؤهم، فَقَالُوا لَهُ: نَنْشُدُكَ اَللَّهَ.. أَنْ تُقِيمَ عَلَى هَذَا اَلْأَمْرِ اَلَّذِي قَدْ عَزَمْتَ عَلَيْهِ مِنْ تَزْوِيجِ اِبْنِ اَلرِّضَا فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ عَنَّا أَمْرٌ قَدْ مَلَّكَنَاهُ اَللَّهُ، وَيُنْزَعَ مِنَّا عِزٌّ قَدْ أَلْبَسَنَاهُ اَللَّهُ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ قَدِيماً وَحَدِيثاً وَمَا كَانَ عَلَيْهِ اَلْخُلَفَاءُ اَلرَّاشِدُونَ قَبْلَكَ مِنْ تَبْعِيدِهِمْ، وَاَلتَّصْغِيرِ بِهِمْ، وَقَدْ كُنَّا فِي وَهْلَةٍ مِنْ عَمَلِكَ مَعَ اَلرِّضَا مَا عَمِلْتَ حَتَّى كَفَانَا اَللَّهُ اَلْمُهِمَّ مِنْ ذَلِكَ، فَاللَّهَ اَللَّهَ أَنْ تَرُدَّنَا إِلَى غَمٍّ قَدِ اِنْحَسَرَ عَنَّا.
قَال الراوي:” لَمَّا أَرَادَ اَلْمَأْمُونُ أَنْ يُزَوِّجَ اِبْنَتَهُ أُمَّ اَلْفَضْلِ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، بَلَغَ ذَلِكَ اَلْعَبَّاسِيِّينَ فَغَلُظَ عَلَيْهِمْ وَاِسْتَكْبَرُوهُ وَخَافُوا أَنْ يَنْتَهِيَ اَلْأَمْرُ مَعَهُ إِلَى مَا اِنْتَهَى مَعَ اَلرِّضَا، عَلَيْهِ السَّلاَمُ
فأجابهم المأمون بما أفحمهم به إلى أن قال: وَأَمَّا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ قَدِ اِخْتَرْتُهُ لِتَبْرِيزِهِ عَلَى كَافَّةِ أَهْلِ اَلْفَضْلِ فِي اَلْعِلْمِ، وَاَلْفَضْلِ مَعَ صِغَرِ سِنِّهِ، وَاَلْأُعْجُوبَةِ فِيهِ بِذَلِكَ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَظْهَرَ لِلنَّاسِ مَا قَدْ عَرَفْتُهُ مِنْهُ فَيَعْلَمُوا أَنَّ اَلرَّأْيَ مَا رَأَيْتُ فِيهِ.”
فهو يرى بالإمام الشَّاب أُعجوبة من أعاجيب الله وآياته في خلقه، وأنه فاق الجميع في العلم والفضل على صغر سنِّه، وضآلة جسمه، فعقدوا للإمام، عليه السلام، ذلك المجلس المهيب حيث جلس فيه المأمون، وكل القادة والوزراء، والعلماء، والفقهاء، وكل مَنْ كان له شأن في بغداد وعلى رأسهم العباسيون لأنهم الأخصام في المسألة، وجاء الإمام، عليه السلام، فسطا بهيبته، ومحضره الشريف، ومجلسه المنيف، على جميع مَنْ حضر بما فيهم الحاكم عبد الله المأمون.. فكانت كل الأنظار منشدَّة إلى أبي جعفر الجواد، عليه السلام، ونعلم ذلك من الطَّريقة التي دار بها المجلس وكيف كان، عليه السلام، هو القطب الذي يدور حوله الجميع، وبكل احترام وتقدير وتبجيل، وإليك الصورة:
أَمَرَ اَلْمَأْمُونُ أَنْ يُفْرَشَ لِأَبِي جَعْفَرٍ، عَلَيْهِ السَّلاَم، دَسْتٌ (مجلس) وَتُجْعَلَ لَهُ فِيهِ مِسْوَرَتَانِ (مخدتان) فَفُعِلَ ذَلِكَ وَخَرَجَ أَبُو جَعْفَرٍ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ اِبْنُ تِسْعِ سِنِينَ وَأَشْهُرٍ، فَجَلَسَ بَيْنَ اَلْمِسْوَرَتَيْنِ، وَجَلَسَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَامَ اَلنَّاسُ فِي مَرَاتِبِهِمْ، واَلْمَأْمُونُ جَالِسٌ فِي دَسْتٍ مُتَّصِلٍ بِدَسْتِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ لِلْمَأْمُونِ: يَأْذَنُ لِي أَمِيرُ (اَلْمُواطنِينَ) أَنْ أَسْأَلَ أَبَا جَعْفَرٍ؟ فَقَالَ لَهُ اَلْمَأْمُونُ: اِسْتَأْذِنْهُ فِي ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ، فَقَالَ: أَ تَأْذَنُ لِي جُعِلْتُ فِدَاكَ فِي مَسْأَلَةٍ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ: سَلْ إِنْ شِئْتَ، قَالَ يَحْيَى: مَا تَقُولُ جُعِلْتُ فِدَاكَ فِي مُحْرِمٍ قَتَلَ صَيْداً؟
تلك المسألة البسيطة كما طرحها قاضي القضاة في الدولة العباسية وتتعلَّق بالحج ومسائل الحج لا يُتقنها إلا مَنْ أدمن الحج، وهي كثيرة معقَّدة، والإمام الجواد، عليه السلام، في ذلك السِّن ليس عليه تكليف أصلاً كما في الفقه الإسلامي، فكيف له أن يعلم الجواب عن هذه المسألة؟
إلا أن الإمام الأُعجوبة، والمعجزة، والآية الرَّبانية، راح يُشقِّق تلك المسألة إلى أكثر من أربعين مسألة، فبُهت الخليفة، والقاضي، والعلماء، وكل مَنْ حضر وراحوا ينظرون بدهشة إلى الإمام الجواد، عليه السلام، وهو يفيض بها شرحاً وتوضيحاً.
ثم يسأل القاضي مسألة فحار بها لبُّه، وطار عقله، وحار الجميع منها حتى المأمون، ولكنَّه كان ينظر إليه ويضحك من العباسيين، لأنه فاز عليهم بالجواد، عليه السلام، فأَقْبَلَ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ،عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَقَالَ لَهُ: أَ تَخْطُبُ يَا أَبَا جَعْفَرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لَهُ اَلْمَأْمُونُ: أُخْطُبْ جُعِلْتُ فِدَاكَ لِنَفْسِكَ فَقَدْ رَضِيتُكَ لِنَفْسِي وَأَنَا مُزَوِّجُكَ أُمَّ اَلْفَضْلِ اِبْنَتِي وَإِنْ رَغِمَ قَوْمٌ لِذَلِكَ.
هكذا خطب الإمام، عليه السلام، وتزوَّج من ابنة الخليفة وفقأ عيني التنين العباسي، عين الخليفة الحاكم، وعين الحاشية التي ترى أن الخلافة والحكم هبة ولباس من الله خصَّهم به، وكانوا يخافون أن يسلبهم العلويون ذلك، وهم يعلمون علم اليقين أنهم لا حقَّ لهم بالخلافة والحكم، وهي خاصَّة بأئمة المسلمين من آل محمد والإمام الجواد، عليه السلام، هو التاسع منهم، صلوات الله عليهم جميعاً.