إضاءات تدبریة

الوقاية خير من العلاج

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.(سورة التحريم/ آية 6).

حينما نقول: هذا مؤمن، وذاك غير مؤمن. فما الفارق بينهما؟

هل المؤمن مخلوق مختلف عن غير المؤمن في صفاته الجسدية؟ بالطبع لا. فكلاهما مخلوقان من نوع واحد يتشابهان جداً في الأعضاء والجوارح والجوانح الأصلية، إذن لماذا هذا مؤمن وذاك غير مؤمن؟

حتى في أصل الايمان بالله قد لا يختلفان، ذلك لأنَّ الكثير من غير المؤمنين يعتقدون بوجود الله، ولكنهم يشركون معه غيره: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ}، أو يعدونه عاطلا عن التأثير في مخلوقاته بعد الخلق فيقولون: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} ، أو يجعلون له أولاداً وبنات: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه}. {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا}. {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ}.

المؤمن يتميز عن (غير المؤمن) بشعوره بالمسؤولية، بمسؤوليته تجاه كلِّ شيء وكلِّ أحد

فاذاً، الميزة الأساسية في الاعتقاد – بين المؤمن وغيره – هي توحيد الله، ولكن كيف يتجسَّد هذا الاعتقاد في حياة المؤمن فيجعله متميزاً عن (غير المؤمن) في سلوكه طوال حياته؟

الميزة الأساسية في سلوك المؤمن هو الالتزام العملي بالأمانة التي حمّله الله إياها في عالم الذر، حيث قال: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}.

فالانسان – عموماً – حَمَلَ الأمانة في عالم الخلقة والتكوين، ولكن في عالم الدنيا فهناك من التزم بها (وهو المؤمن) ومنهم من تخلى عنها (وهو غير المؤمن).

ولكن ما هي الأمانة؟ إنها – حسب ما يبدو لنا – المسؤولية.

فالمؤمن يتميز عن (غير المؤمن) بشعوره بالمسؤولية، بمسؤوليته تجاه كلِّ شيء وكلِّ أحد.

فهو يرى نفسه مسؤولاً عن نفسه أولاً، بأن يجعلها محل رضا الله تعالى، ثم هو مسؤول عن أسرته والأقربين، وثالثاً هو مسؤول عن مجتمعه وأمته التي ينتمي اليها.

كما يرى نفسه مسؤولاً عن كل ظاهرة سلبية في الحياة، وأنَّ عليه السعي – بقدر ما يستطيع – للتغيير.. يشعر بمسؤوليته تجاه الفساد، والتخلف، والفقر، والمعاصي، والذنوب، والانحطاط، والانحراف الثقافي.

ولكن أهم المسؤوليات كلها هو المسؤولية عن النفس وعن الاسرة، لأنَّ صلاح المجتمع يبدأ مِن صلاح الذات، ومِن صلاح أهمّ وحدة في كيان المجتمع وهي (الأسرة).

أهم المسؤوليات كلها هو المسؤولية عن النفس وعن الاسرة، لأنَّ صلاح المجتمع يبدأ مِن صلاح الذات، ومِن صلاح أهمّ وحدة في كيان المجتمع وهي (الأسرة)

لذلك جاءت الآية الكريمة في سورة التحريم تذكِّر المؤمن بمسؤوليته العظيمة هذه، حذراً من الغفلة والنسيان.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}.

(قُوا) تعني: احفظوا، صيغة الأمر من (الوقاية).

والآية بدأها الله تعالى بمخاطبة {الَّذِينَ آمَنُوا} وهذا يعني أنَّ ما يأتي بعده يرتبط به ارتباطاً وثيقاً، فمسؤولية وقاية النفس والأهل ترتبط بالايمان، فلا يمكن أن يكون الانسان مؤمناً، ولكنه يتهرب من هذه المسؤولية.

فنحن كلنا نخشى نار جهنم.. ولكن متى نستطيع أن نقي أنفسنا وأهلينا منها؟ هل حينما نواجهها – والعياذ بالله – في الآخرة؟ بالطبع لا. لأنَّ الآخرة دار الجزاء وقطف الثمار، أما دار الزرع والبناء والوقاية فهي دار الدنيا.

فعلى كل واحدٍ منا؛ أن يهتم بتزكية نفسه، وتربيتها وإبعادها عما يُسخط الله تعالى، وبذلك يقيها من نار جهنم. فليس المهم أن يكون الانسان مؤمنا في العقيدة فقط، بل المهم أن تتحول هذه العقيدة الى برنامج عمل في طول الحياة وعرضها لحفظ النفس من السقوط في المهالك. إن الإيمان في المعتقد هي نقطة البداية، واستمرار آثار هذا الايمان في حياة الانسان حتى لحظة الممات هو أهم مسؤولية للانسان.

وأهل الانسان (أسرته) ليسوا أقل أهمية من نفسه، لأن الأهل يكمِّلون الانسان، فالانسان بلا أهل وبلا اسرة يعاني من فراغ ونقص كبيرين. لذلك مسؤوليته عن نفسه تكتمل بمسؤوليته عن وقاية أهله من النار أيضاً، وذلك بأن يهديهم الى الطريق الذي ينقذهم من غضب الله ومن نار جهنم التي سجَّرها جبارها من غضبه. وطريق الهداية واضح وبيِّن، إنه: طاعة الله فيما يأمرنا، واجتناب ما ينهانا عنه.

وينبغي أن يكون اسلوب الهداية والوقاية اسلوب اللين واللطف والمودة والمحبة، ويخطئ بعض الآباء والأمهات حين يسعون لهداية الأهل بالعنف والخشونة والترهيب واستخدام العصا. إنَّ هذه الأساليب تقلب النتائج رأساً على عقب، وتزرع في النفوس عقداً ضد الايمان والمؤمنين وقد تجعلهم في مواجهة مع الله.. فلتكن وسيلة الوقاية بالحكمة والموعظة الحسنة.

عن المؤلف

الشيخ صاحب الصادق

اترك تعليقا