لم يكتف هارون العباسي بسجن الامام الكاظم، عليه السلام، وإنما وجّه جواسيسه، وعملائه للبحث عن أبناء الإمام، وايضاً شيعته ممن يخشاهم على شرعيته المزيفة في مقام “الخلافة”، وهو العارف قبل غيره، كما شريحة واسعة من المسلمين، أن الامام الكاظم، وأئمة أهل البيت من ذرية رسول الله، صلى الله عليه وآله، هم الأحق بالخلافة وقيادة الأمة وفق أحكام الدين وقيم السماء.
وهذا ما دفع بأحد ابناء الامام الكاظم، وهو القاسم، الذي نعيش هذه الأيام ذكرى وفاته الأليمة، لأن يغادر مدينة جدّه رسول الله، صلى الله عليه وآله، ويختار الهجرة في سبيل الله حاملاً هموم الرسالة ومسؤولية الأمة، وايضاً؛ آلام الغربة وما حلّ بأبيه الكاظم، عليه السلام، وعلى سائر أهل بيته على يد هارون العباسي.
إن قصة حياة القاسم تعلمنا كيف تكون “الهجرة في الله”، وأن يكون الانسان “هارباً بدينه”، وأن يجعل هويته وقيمه موطناً جديداً يبلسم أذى الغربة..
شقّ القاسم طريقه من أرض الحجاز باتجاه العراق وتحديداً منطقة الفرات الأوسط ـ حالياً- حيث يعلم بوجود نسبة كبيرة من شيعة أهل البيت بين السكان هناك، لاسيما في الكوفة، ولعل ثمة أسباب تتعلق بهذه المسألة تحديداً دعت القاسم لأن يحط رحاله في منطقة “سورى” دون غيرها، وهو منتحل شخصية انسان عادي لاخفاء اسمه الحقيقي تحاشياً لجواسيس وعيون السلطة العباسية.
أهل المنابر الحسينية، جزاهم الله خير الجزاء، سردوا لنا جانباً من حياة القاسم في هذه المنطقة، وكيف التقى بأهلها، واطمئن الى سلامة ايمانهم وانتمائهم الى أهل البيت، وكيف اختار لنفسه مهنة سقاية الماء لأهل ذلك الحيّ، ثم مسألة زواجه من ابنة شيخ العشيرة، ومن ثمّ اصابته بوعكة صحية شديدة كانت فيها نهاية حياته الشريفة وهو في ريعان الشباب، وفي نهاية المطاف، إفصاحه –عليه السلام- عن هويته لوالد زوجته وهو في لحظات الاحتضار، وقضية ابنته التي ذهب بها شيخ العشيرة الى مدينة رسول الله لإعادتها الى أسرة أبيها من البيت العلوي الشريف.
إنما العبرة من هذه السيرة العطرة التي لم تدم سوى سنوات قلائل، في تحمّل القاسم غربة الوطن والأهل، والإصرار على عدم غربة الدين والرسالة عندما أخفى هويته رغم اطمئنانه الى المجتمع الذي كان من حوله، وايضاً زوجته الصالحة، فقد أصرّ على الاحتفاظ بهويته وحقيقة نسبه الشريف والعظيم، ليس خوفاً من الموت، فابناء الأئمة الاطهار ملتزمون مبدأ “القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة”، إنما اراد ان يكون عضواً فاعلاً ونافعاً في المجتمع الاسلامي في تلك البقعة، ينشر الخير والحب والأخلاق السامية لمن حوله.
- الامام الكاظم وابنه القاسم
نقل المؤرخون عن الامام الكاظم، عليه السلام، حبّه الجمّ لابنه القاسم “فكان يثني عليه ويشيد به ويقدمه على سائر ابنائه ما عدا ابنه الرضا، عليه السلام، وقد روى يزيد بن سليط قال: طلبت من الامام موسى، عليه السلام، ان يعين لي الامام من بعده فقال: أخبرك يا أباعمارة إني خرجت فأوصيت الى ابني علي، ولو كان الأمر لي لجعلته في القاسم ابني لحبي ورأفتي عليه، ولكن ذلك الى الله تعالى”. (حياة الامام موسى بن جعفر دراسة وتحليل- الشيخ باقر شريف القرشي).
شقّ القاسم طريقه من أرض الحجاز باتجاه العراق وتحديداً منطقة الفرات الأوسط ـ حالياً- حيث يعلم بوجود نسبة كبيرة من شيعة أهل البيت بين السكان هناك
وهناك الكثير من دلائل التكريم والتبجيل من الامام الكاظم لابنه القاسم لايسع المقام ذكرها. إنما الذي يهمنا من حياة هذا الانسان العظيم تضحيته وصبره وتجلّده لأجل الدين، متنكراً لذاته وشخصه الكريم مقابل نشر ثقافة أهل البيت بين الناس، ويعلمهم كيف يتحلّون بالصفات الحميدة، والالتزام بالقيم والمبادئ وأن لا يخافون في الحق لومة لائم.
إن قصة حياة القاسم تعلمنا كيف تكون “الهجرة في الله”، وأن يكون الانسان “هارباً بدينه”، وأن يجعل هويته وقيمه موطناً جديداً يبلسم أذى الغربة، لا أن يجعل من الدين والقيم قارباً للوصول الى المهاجر، حيث الأمان والاستقرار والرفاهية ثم يصنع شخصية وهوية جديدة لا تمتّ لهويته وقيمه بصِلَة هرباً من الغربة وآثارها.
القاسم بن الامام الكاظم، عليهما السلام، وسائر ابناء الأئمة، ومن ساروا على نهجهم، عاشوا في الغربة كُرماء، وماتوا سعداء بإيمانهم فخلدتهم الاجيال والزمن لوفائهم بقضيتهم العادلة، فهم محمودون على الألسن الى يوم القيامة.