في أواخر رجب المرجب، وفي السابع والعشرين منه، وحيث كان محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله، يتعبد في كهف جده عبد المطلب، في أعلى جبل حراء، الذي يطل مباشرة على الكعبة المشرفة، جاءه على موعدٍ رسول رب العالمين، يحمل إليه بشرى طالما انتظرها؛ انتظرها بشوق، ورغبة، ولهفة منذ أربعين سنة، حيث أنه صار محط أنظار قريش بسيرته العطرة، وعقله الراجح، ورأيه النافذ، وأخلاقه الرائعة، فراحت تسميه قريش الصادق الأمين.
أحبه الجميع لأخلاقه وحسن سمته وسيرته، وراح ينظر إليه كنسمة الفجر رقة، ونجمة السماء رفعة.
فهو حفيد عبد المطلب، إبراهيم الثاني، كما سمته قريش حينها، وهو يتيم أبي طالب، سيد البطحاء، وزعيم بني هاشم الأكارم، وبالتالي هو زعيم قريش برمتها لأن قريشاً كلها كانت عيالاً على بني هاشم منذ أن وجدت قريش، وكان قريش الأول (فهر بن مالك بن النضر بن كنانة)، هو قصي بن كلاب الذي قرشها وجمعها ووضعها في مواضعها في مكة المكرمة، حيث وضع الأكابر في بطن الوادي، والأصاغر في ظهره، وبنى لها دار ندوتها، وعقد لها اللواء، ورتب لها شؤون الحج وخدمة البيت الحرام، كالحجابة، والرفادة والسقاية، وأعطاها لولده البار؛ عبد مناف الأول، فبلورها ورسخها وسلمها لأولاده الأربعة بقيادة عمرو العلى هاشم الخير، ذي الكعب العالي، والذكر السامي.
فعبد مناف الثاني؛ أبو طالب، كان عصمة المستجير، ووصي شيبة الحمد، عبد المطلب في قريش، فالجميع كان يهابه، ويجلّه، ويحترمه، ويخاف من غضبه وسخطه.
ومحمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله، هو وريث ذاك الإرث العظيم، من الشجرة المباركة الطيبة التي تصل إلى إسماعيل وإبراهيم الخليل، فهي شجرة خير وبركة، ورمز سمو ورفعة.
فالطهارة أصلهم، والقداسة وصفهم، والأخلاق والفضائل سيرتهم، فلا يجد أحد من أعدائهم مطعناً فيهم لينال منهم، فكانوا يعيرون بالعظمة، ويوصمون بالأنفة، وربما يرمونهم بالتكبر لترفعهم عن الدنايا والخزايا التي كانت منتشرة في العرب عامة، وقريش خاصة، لأنهم أصحاب الحرم، وأرباب التجارة والأموال التي أسسها لهم هاشم برحلة الشتاء الى اليمن، والصيف الى الشام.
هذا الشخص الكبير، الوارث لكل هذه المكارم، والفضائل كان ينتظر ما هو أكمل، و أتمّ، و أفضل من كل فضيلة وجدت على وجه الأرض.
-
لقاء بعد طول انتظار لتمزيق ظلام الجاهلية
إنه كان ينتظر وحي السماء، و نور البهاء، لينقذ الإنسانية من هذا الهباء والجاهلية العمياء التي كانت تتقلب فيه.
وفي مثل هذا اليوم الأغر وفي غار النور، وعلى جبل النور، نزل النور، كما تجلّى النور على الطور للكليم موسى بن عمران، عليه السلام، فبُعث نبياً لبني إسرائيل، ورسولاً الى فرعون وملئه.
وكذلك نزل نور القرآن، على الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وآله، بواسطة ملاك الوحي؛ الروح الأمين، جبرائيل، عليه السلام، ليقول له: إقرأ.
فيجيبه: وما أقرأ؟
يقول: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
وكان معه ابن عمه، وفتاه الأعلى والأغلى؛ علي بن أبي طالب، عليه السلام، الذي وصف تلك الحادثة الفريدة في تاريخ البشرية بكل دقة وأمانة، في خطبته القاصعة التي يقول فيها: “وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، صلى الله عليه وآله، مِنْ لَدُنْ [أَنْ] كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَك مِنْ مَلاَئِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلاَقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ.. وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْم عَلَماً مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالاقْتِدَاءِ بِهِ. وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحِرَاءَ، فَأَرَاهُ وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذ فِي الإسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ، صلى الله عليه وآله، وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ. وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ، صلى الله عليه وآله، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَلكِنَّكَ وَزِيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْر”. (نهج البلاغة/ الخطبة ١٩٢)
-
هل كان النبي الأكرم خائفاً من الوحي؟!
هكذا جاء ملاك الوحي بكل لطف ورحمة واحترام، لا كما يصفه الزُهري، عن عروة بن الزبير، وغيرها من الروايات التي تصف جبرائيل، عليه السلام، بالغلظة والفظاظة وتعامله بالقسوة والشدة مع رسول الله، صلى الله عليه وآله، وكيف أنه يغطه، أو يغتّه حتى يظن أنه الموت، حاشاه من ذلك، فجبرائيل، عليه السلام، ملاك الرحمة والنور.
وكذلك؛ يصفون رسول الله، صلى الله عليه وآله، بأوصاف لا تليق به من الخوف والوجل وحتى الرعب الذي يصل الى القلب العظيم المقدس الذي يتجلى به الرب سبحانه بأجلى صوره، فكيف يرعبه، ويرهبه بهذه الطريقة، سبحانك اللهم إنه البهتان العظيم، يلوكونه بأفواههم لينتقصوا ويذمّوا، وهم يحسبون أنهم يمدحون ويصفون حال رسول الله، صلى الله عليه وآله.
فرسول الله، صلى الله عليه وآله، في مواطن الخوف والوجل كان قلبه مطمئنا، وإذا لزم الأمر فتنزّل عليه السكينة، كما هو معروف ومعهود في آيات الذكر الحكيم، وليس يرعبه في موطن يتطلب الهدوء والاطمئنان، كيوم المبعث ونزول القرآن.
فكل الروايات التي تروى في هذا المجال هي مخالفة للعقل، والمنطق، والقرآن هي مردودة على راويها، و مرفوضة من أساسها، لا سيما إذا كان فيها انتقاص من رسول الله، صلى الله عليه وآله، أو جبرائيل، عليه السلام، وما أكثرها في كتب السيرة والرواية، هذا عدا الروايات التي تصف بها اطمئنان السيدة خديجة، عليها السلام، بالوحي والرسالة، و خوف وشك رسول الله، فتأخذه الى ورقة بن نوفل، أو عداس الراهب، أو أنها تذهب إلى بُصرى الشام لتلتقي ببحيرى الراهب و ترجع بنفس اليوم!
كل هذا الكم الكبير من الروايات نرجعها لرواتها الذين لم يكونوا ولم يحضروا ولم يذكروا عمن أخذوها، فهي من انشائهم، واختراعهم، أو أخذوها عن طريق غير مأمون يتصل بالإسرائيليات الكثيرة جداً في كتب تراثنا الاسلامي للأسف الشديد.
فالمؤكد أن رسول الله، صلى الله عليه وآله، جاءه جبرائيل، عليه السلام، بكل لطف، وعامله بكل المحبة وأخبره ببدء نزول القرآن الحكيم، وأمره أن يكتم رسالته، ويحصر دعوته بأهله وعشيرته الأقربين من أعمامه وأبنائهم من بني هاشم وهي مرحلة الدعوة السرية، أو الخاصة كما سماها العلماء.
فالبعثة الشريفة، هي بعثة القرآن، وبزوغ النور، وانطلاق الرسول، في رحلة انقاذ للإنسانية كلها من براثن الشيطان الرجيم، ومن الجهل والظلام والظلم والجاهلية الجهلاء، بكل عاداتها وتقاليدها، وأعرافها التي تخدم الشيطان وتعادي الرحمن.
-
جهل العرب بمعنى البعثة
فالبعثة كانت بعثة الهدى مقابل الضلال، والنور بوجه الظلام، والخير ضد الشر بكل تجلياته في هذه الحياة.
والبعثة كانت نهضة الإيمان بوجه الكفر، والحق أمام الباطل، والتوحيد الخالص لله –تعالى- المناهض للشرك وعبادة الأوثان والأصنام البشرية والحجرية التي كانت شائعة في حياة العرب وجاهليتهم البغيضة.
فلو عرف العرب، والمسلمون معنى البعثة الشريفة في شهر رجب لاحتفلوا به أعظم احتفال يمكن أن يقام في دينهم ودنياهم، لأنه يمثل نقطة البداية، ومنبع النور والهداية لهم، ونزول القرآن الحكيم الذي فيه ذكرهم وفخرهم وشرفهم على مدى العصور والدهور الى يوم ينفخ في الصور.
ولكن رجال قريش وحكامها ضيعوا تلك الذكريات وشوهوا بريقها بما أشاعوا من تفاهاتهم بما يخدم مصالحهم السياسية والاقتصادية، ويحقق لهم سطوتهم على البلاد والعباد، دون النظر الى الحق وأهله، اللذَيَن خلفهما رسول الله، صلى الله عليه وآله، فيهم من عترته وأهل بيته الأطهار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
وبعد كل هذه القرون المتطاولة، والأحداث الدامية، والمآسي المخزية، والكوارث المخجلة، أما آن لهذه الأمة أن تعرف الحق وأهله، وتعرف الباطل وسلطانه، وترجع إلى دينها كما أنزله الله سبحانه على رسوله وحبيبه ومصطفاه، ليعود لهم مجدهم وفخرهم وشرفهم وسؤددهم من جديد؟
ألم ينقل لهم معنى قول رسول الله، صلى الله عليه وآله، “لا يصلح آخركم إلا بما صلح به أولكم”؟
فصلاح البداية كان بمحمد وعلي، وصلاح النهاية لن يكون إلا بهما أيضاً، هلا عرفت هذه الأمة هذه الحقيقة الواضحة وضوح الشمس في رائعة النهار؟
- باحث إسلامي من سوريا