في حياة أصحاب الرسالات نجد الكثير من التحولات والتقلبات، وهو أمر طبيعي، فقد خلق الله -سبحانه وتعالى- الخلق أطواراً؛ ومن هنا فإن الدنيا تتقلب بأهلها، أليس الإمام أمير المؤمنين، عليه السلام يقول: “عجبت لمن رأى تقلب الدنيا بأهلها كيف يطمئن إليها”، فالحياة عبارة عن شدة و رخاء؛ عسرٌ بعد يسر، ويسر بعد عسر.
إلا أن الناس منقسمون في تعاملهم مع هذه التقلبات والتحولات، فمنهم من يستسلم إليها ويركن إليها، لذا تجده يتلون كل يوم بلون جديد، فإذا كان المصلحة تقتضي شيئاً يكون معها، بل تجده مؤمناً بالله؛ مسرعاً إلى الخير، عندما يكون الجميع كذلك، أما لو انقلب الحال، وأصبح الدين مُكْلفاً بالنسبة إليه، فإنه يبتعد عن الدين، ويصرفه صرف الدينار بالدرهم، وكما قال سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين، عليه السلام: “الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم”.
وفي قبال هؤلاء، تجد أصحاب الرسالات؛ الرساليون الذين قد تدعوهم الظروف والتقلبات إلى تنويع نمط الدعوة إلى الله، إلا أن هذه التحولات لا تدفعهم الى ترك القيم والمبادئ التي بعثوا من أجلها، بل تجدهم صامدون باقون على قيمهم بالرغم من المحن والصعوبات والتحديات، و إذا نظرنا إلى سيرهم المضيئة نجد أن هؤلاء في الرخاء هم أنفسهم في الشدة.
النبي يوسف، على نبينا وآله وعليه السلام، هو يوسف حينما كان يقبع في السجون، وحين كان عزيزاً لمصر، لم تتغير مبادؤه وقيمه.
والنبي موسى، هو موسى في قيمه حينما كان في بيت فرعون، وبقي كذلك حينما خرج من المدينة خائفاً يترقب، وأصبح مطاردا ومشرداً في البلدان، وحينما نصره الله على فرعون، لم تؤثر كل هذه التحولات في تمكسه بقيمه.
-
لم تغيره المحن!
المحنة التي مر بها إمامنا موسى بن جعفر الكاظم، عليه السلام، كانت كبيرة ولعلها تأتي بعد مصيبة جده سيد الشهداء، عليه السلام، إلا أننا نجد أن الإمام، عليه السلام، لم ينثن عن أداء مسؤوليته العظيمة في أحلك الظروف التي مر بها، ولم يتنازل أبداً عن قضيته، التي لم تكن قضية شخصية، وإنما كانت قضية دين الله، وأمة جده رسول الله، صلى الله عليه وآله، لكن السؤال؛ كيف؟
كيف نجد أن أصحاب الرسالات لا تغيرهم المحن؟
الجواب على ذلك يقضتي بيان أمرين:
-
النظرة الإيجابية للمحن
المؤمنون هم أهل العقل وهم أولو الالباب، ولذلك تختلف نظرتهم للمحن والإبتلائات عن غيرهم فهم ينظرون إليها نظرة ايجابية في قبال الآخر الذي ينظر الى المحن نظرة سلبية.
نظرتهم الإيجابة منطلقة من قاعدة: أن الله لا يبتلي المؤمن إلا بما هو خير له، ففي الحديث عن الإمام الكاظم، عليه السلام، أنه قال: “الْمُؤْمِنُ يَعْتَرِضُ كُلَّ خَيْرٍ لَوْ قُرِّضَ بِالْمَقَارِيضِ كَانَ خَيْراً لَهُ وَ إِنْ مَلَكَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ كَانَ خَيْراً لَهُ”
فالرساليون يحولون الإبتلاء إلى نقطة إنطلاق، وهذا ما نجده في حياة إمامنا الكاظم، عليه السلام، حيث أنه نظر إلى سجنه نظرة إيجابية، فكان يدعو ربه قائلا: “اللهم، إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد”.
-
فرصةٌ وبداية جديدة
لم يعد الإمام، عليه السلام، وجوده في السجن آخر مطاف مشواره في العمل الرسالي، وتحمل مسؤولية قيادة الأمة، وأن الواجبات سقطت عنه، بل كان يجد الطريقة للتواصل مع شيعته وأتباعه وتوجيه الأمة، بالرغم من الصعوبات الجمة، منها؛ ظروف الاعتقال سبع أو تسع أو أثني عشر أو عشرين سنة، كما جاء في الروايات، لكن كم الروايات الواردة عنه، عليه السلام، في هذه الفترة مذهلة والتي في الغالب كانت على شكل المكاتبات.
لم يكن ذلك عن طريق الغيب، فإن الإمام لو كان يريد أن يعمل بما وهبه الله من سلطته على التكوين لانتهى كل شيء، لكنه أراد ـ كغيره من الأئمةـ تغيير الأمة، وذلك لا يكون إلا بأن يقوم كل واحد بواجبه، لذلك فإن هذه المكاتبات وهذا الإرتباط لم يكن عن طريق الغيب فقط، وإنما ينقل لنا التاريخ أن جمعاً من أصحاب الإمام كانوا يتصلون به، وبأحلك الظروف، كالحجاج بن هند، وابراهيم المروزي، ومبارك بن يزيد، وعلي بن سويد.
ولا نعلم كيف كانو يصلون إلى الإمام، عليه السلام، حيث أن الوسيلة كانت مخفية، ولو لم تكن مخفية لما استطاعوا أن يقوموا بذلك، إلا أن الأمام بقي في السجن، وبالرغم من كل الصعوبات كان يمارس دوره كإمام وموجه للأمة.
ومن هنا؛ نجد أن الخوف كان يتعاظم عند السلطة المتمثلة بهارون العباسي، فكان يحاول أن يثني الإمام عمّا هو عليه بالإغراء تارة وبالإرهاب والتعذيب أخرى.
وبكلمة؛ إننا إذ نتبع هذا الإمام العظيم، يجب أن لا ننسى هذه الوصفة في تعاطينا مع المحن، بأن ننظر إليها بنظرة إيجابية وأن نعدها فرصة جديدة، وبذلك تتحول المحن عندنا إلى فرص فبدل أن نبكي عند نزلوها بنا، نستفيد منها لمستقبل أفضل.