حكومة السيد مصطفى الكاظمي قلقة جداً على ملف السكن في العراق، كما هو حال الحكومات السابقة، ولذا دأبت على توزيع قطع الاراضي لشرائح مختلفة في المختلفة، من مهنيين وموظفين وايضاً؛ الأرامل وعوائل الشهداء، ولا أبالغ بالقول: أن العراق ربما يكون أول بلد بالعالم في توزيع قطع الأراضي المجانية على المواطنين، وهي سنّة قديمة، فقد بدأت في سبعينات القرن الماضي بمساحة 600 مترمربع، ثم تقلصت الى 400، حتى وصلت حالياً الى 200متر مربع، وهو دلالة على الخير الوفير في العراق، ونقطة ايجابية تبعث على الأمل والاستقرار النفسي بأن لدى الانسان قطعة أرض من تراب وطنه.
ثم تكرمّت الدولة العراقية الجديدة عام 2011 بتأسيس صندوق الإسكان العراقي، ليكون دائرة جديدة تابعة لوزارة الاسكان والإعمار والبلديات، تموله وزارة المالية لمساعدة أصحاب قطع الاراضي تشييد الدور السكنية بقروض ميسرة دون فوائد، وهذا هو الآخر؛ مدعاة للاطمئنان بتمكّن العائلة الجديدة المتفرعة من العائلة الكبيرة بالحصول على دار مستقل تبدأ حياة جديدة بأسرة جديدة، والتخلّص من المشاكل الأسرية المعروفة.
ما نقرأه في الاخبار المنشورة يثير تساؤلاً حول طريقة النظر في الأولويات وتقييم الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية، فما تم نقله عن رئيس الوزراء السيد مصطفى الكاظمي أنه رفع سقف دعم صندوق الاسكان من واحد ترليون دينار الى اربعة ترليون دينار، يعني أربعة آلاف مليار دينار لتوزيعها على المتقدمين على قروض الاسكان، ونحن هنا بدورنا نسأل: أيهما أولى للمواطن العراقي؛ العمل أم السكن بالشكل الجاري في العراق؟
طبعاً؛ بعيداً عن الحديث غير الايجابي عن واقع الخدمات المأزوم والمريض في عموم العراق، فضلاً عن قطع الاراضي الموزعة التي هي عبارة عن أراضي جرداء في أطراف المدن، وبعيدة عن شبكة انابيب الماء، والكهرباء، والمجاري، والطرق المعبدة والسالكة، فان كل منصف وواقعي في رؤيته للواقع الاجتماعي والاقتصادي للعراق يجد أن المعضلة الاساس تتمثل في فرص العمل، والأزمة الخانقة في دخل الفرد العراقي المعرضة دائماً للاهتزاز ولشريحة كبيرة، يكفي النظر الى جيوش الخريجين من الجامعات الاهلية والحكومية طيلة السنوات الماضية، الى جانب الحرفيين والمهنيين والكسبة في السوق، كل هؤلاء يشكون من تراجع الحركة التجارية في السوق العراقية، علماً ان هذه المعضلة لها اسباب وعوامل لسنا بوارد الخوض فيها، سوى البحث في الحلول الممكنة لانقاذ العاطلين ومن هم على شفير هاوية البطالة.
والطريف أن الحكومة تتحدث عن أن “قطاع السكن يحرك 25 قطاعاً” بمعنى أن البناء يحرك معامل المواد الانشائية، و ورشات الحدادة، والنجارة، والزجاج، والمهنيين في مجال الماء والكهرباء، الى جانب عمال البناء –حسب رؤية الحكومة- بيد ان المطلوب ليس توفير لقمة عيش الانسان بشكل يومي، كما يزقّون الطعام في أفواه الطيور! بقدر حاجة الانسان العراقي لرأسمال يحرّك ابداعه وفكره وجهده العضلي لينهض بمنتوج خاص به.
يكفي المعنيون نظرة خاطفة على شريحة واسعة من الخريجين من اصحاب المواهب والكفاءات العلمية المحتاجين بشدّة للدعم المادي لمشاريعهم في مجالات الزراعة وتربية الثروة الحيوانية، ومشاريع تقنيات الحاسوب وتنكولوجيا المعلومات، والهندسة، وغيرها كثير، ما من شأنه ان يشيد بنية تحتية لانتاج رصين يعتدّ به على الصعيد المحلي، وحتى العالمي.
هكذا نمت وتقدمت الشعوب رغم افتقارها للثروات والقدرات الموجودة في العراق، من أرض خصبة، ومياه، وأموال نفط غزيرة، ومعادن وموقع جغرافي استراتيجي، والأهم؛ يد عاملة فتية.
في الثقافة الشعبية، وما يحدثنا به الآباء والاجداد أن العمل هو الذي يستقدم البيت، وهو الذي يُحيي العائلة، وكل من رام الزواج، أول سؤال يطرحونه عليه: ما هو عملك؟ ومن ثمّ يسألون عن نوع سكنه؛ هل مع أفراد أسرته أم مستقلاً؟ وعادةً ما تتوافق العوائل على البداية البسيطة للسكن مع أسرة الزوج لتسيهل أمر الزواج وتشيكل الأسرة الجديدة، بيد أن العمل يبقى العمود الفقري لهذه الأسرة الفتية.
من المفترض بالحكومة التي تحسب حساب الأخذ والعطاء في الاموال، وتعرف كيف تعطي؟ وكيف تستوفي؟ أن تعرف ايضاً مكامن الخطر على أمن واستقرار المجتمع من فوضى القيم والاخلاق وانعدام الثقة بالقانون والنظام العام عندما يجدون انفسهم يخلقون فرصة العمل بانفسهم، وهذه بحد ذاتها تحسب للمواطن العراقي المُحب للحياة والايجابية والعيش الكريم، فالمتخرج من الجامعة نراه في أسواق الملابس المستوردة والمطاعم، وربما يكون ضمن فرق خدمة التوصيل (دلفري)! فيما بائعي الخضار والفاكهة والاسماك والدجاج يفترشون الارض ويجلسون على حافات الأرصفة، تلاحقهم البلدية بدعوى إزالة العوائق أمام السيارات والمارة، ثم نلاحظ ظاهرة وسائل النقل الخاصة المتجددة يومياً والتي تسبب أزمات متداخلة في الشارع، مثل؛ “الستوتة”، ثم “التوك تك”، الى جانب أسراب السيارات الخاصة والأجرة الباحثين عن ركاب في الشوارع.
فكما تيسّر الحكومة القرض للبناء عليها العمل ذاته مع فرص العمل للشباب، وايضاً لكل باحث عن عمل ليكون له كشك صغير، او محل متواضع، او ورشة تصليح، وغير ذلك، حتى يعرف المواطن انه مدعوم ومكرّم؛ سواءً كان موظفاً في دائرة حكومية أم عامل او حرفي او كاسب في السوق، لان مئات المليارات من الدنانير الموزعة هنا وهناك هي ملك الجميع، بمن فيهم بائع الخضار أو السمك او الفاكهة في الساحات الترابية وعلى حافات الطرق، وايضاً الشباب الطامحين من خريجي الجامعات، فالحسرة والقهر في قلوب أولئك، كونهم لا حول ولا قوة، يجدون قدرهم بالعيش في هذا البلد مع هذا النوع من الادارة والحكم، أما هؤلاء (الخريجون) فهم ليسوا كذلك، لاسيما اصحاب الفروع العلمية، يجدون ثمة امكانية للعيش بشكل افضل خارج العراق من خلال تطوير مواهبهم وعلميتهم.
فهل نتوقع رؤية جديدة من الحكومة والمعنيين الى مستقبل العمل واستثمار الطاقات والكفاءات بالتوزيع العادل للثروة؟