لماذا بادت حضارة المسلمين؟
ومنذ متى بدأ الضعف ينخرفي دولتهم؟
إن البعض يَعتبر عصر هارون المسمى بـ (الرشيد) هو العصر الذهبي في حضارة المسلمين، ويستدل هؤلاء بما كان يخاطب به هارون السحاب قائلا: “أمطر حيثما شئت، فإن خراجك عندي”.
غير أن من يربط النتائج بأسبابها، ويبحث عن جذور الاحداث، يعرف جيّداً أن حضارة المسلمين بدأت تترنّح، ثم تهوي الى الحضيض مع بداية عصر هارون، فمع نهاية خلافة الإمام علي، عليه السلام، دبّ فسادٌ عريض في الدولة.
واستمر الضعف الحقيقي المتمثّل بالاستبداد والفساد ينخر في جسد النظام، ويستشري الظلم بين الناس الى أن وصل الى ذروته في عهد هارون، الذي كان لا يهتم إلا بملذاته وشهواته، وليس أدلّ على ذلك من قولته السالفة: “فإن خراجك عندي”، فالذي كان يهمه من السحاب لم يكن الضرع والزرع، الذي ينفع الناس، بل “الخراج” الذي يصل إليه.
كانت القرارات في أعلى السلطات في الدولة العباسية تُتخذ حسب الاهواء، وظل الخمر والميسر، وممارسة كل حرام، أما مصالح الناس فقد كانت آخر ما يفكر فيه الحكّام
أما داخل اجهزة الدولة، فإن القرارات في أعلى السلطات كانت تُتخذ حسب الاهواء، وظل الخمر والميسر، وممارسة كل حرام، أما مصالح الناس فقد كانت آخر ما يفكر فيه الحكّام، وإليكم نموذجا واحدا لذلك، وفيما يلي التفاصيل:
قال اسحاق الموصلي: حضرت يوما باب أمير المؤمنين الرشيد، فقيل لي”إنه نائم”.
فانصرفت، فلقيني جعفر البرمكي وزير هارون المقرّب اليه، فقال لي: ما الخبر؟
فقلت: أمير المؤمنين نائم؟
فقال: فسر بنا الى منزلي حتى تخلو بقية يومنا، وتغنّيني وأغنّيك، فذهبت معه.
فصرنا الى منزله، فطرحنا ثيابنا، ودعا بالطعام فطعمنا، وأمر باخراج الجواري، وقال: ليس عندنا من تحتشم منه.
فلما وضع الشراب دعا بقيمص حرير فلبسه، ودعا بخلوق فتخلّق به، ثم دعا لي بمثل ذلك، وجعل يغنّيني وأُغنّيه، ثم دعا بالحاجب وأمره بألاّ يأذن لأحد من الناس، وإن جاء رسول أمير المؤمنين أعلممه أنه مشغول، ثم قال:
أما إن جاء عبدُ المللك فأذنوا له.
وكان عبد الملك رجلا يأنس به البرمكي ويمازحه، ويحضر خلواته.
ثم أخذنا في شأننا نلعب ونغنّي ونشرب، فو الله إنا لعلى تلك الحالة إذ ُفع الستر، وإذا عبد الملك بن صالح قد أقبل، وقد أخطأ الحاجب، ولم يفرق بينه وبين عبد الملك الذي كان يأنس به جعفر.
وكان عبد الملك بن صالح من جلاللة القدر والتقشف وفي الامتناع عن منادمة أمير المؤمنين على أمير جليل، وكان هارون الرشيد قد اجتهد به أن يشرب معه او عنده قدحا، فلم يفعل رفعا لنفسه.
فلما رأيناه مقبلا، أقبل كل واحد منا ينظر الى صاحبه، وكاد جعفر ان ينشق غيظا وفهم الرجل حالنا، فأقبل نحونا، ورمى طيلسانه جانبا، ثم قال: اطعمونا شيئا.
فدعا له جعفر بالطعام وهو منتفخ غضبا. فطعم ثم دعا برطل من النبيذ فشربه، ثم قال: أشركونا فيما أنتم فيه!
ودعا بقميص حرير وخلوق فلبس وتخلّق، مثلما فعلنا، ثم دعا برطل ورطل حتى شرب عدة ارطال من النبيذ، ثم اندفع ليغنينا، فكان أحسننا جميعا غناء.
فلما طابت نفس جعفر وسرّي عنه ما كان به، التفت اليه فقال له: اذكر حوائجك.
فقال عبد الملك: ليس هذا موضع حوائج.
فقال: لتفعلن.
ولم يزل يُلح عليه حتى قال عبد الملك: إن أمير المؤمنين عليَّ غاضب، فأحب أن تترضاه.
قال جعفر: فإن أمير المؤمنين قد رضي عنك، فهاتِ حوائجك.
قال: هذه كانت حاجتي.
قال: ارفع لي ببقية حوائجك كما أقول لك.
قال عبد الملك: عليَّ دين فادح.
قال جعفر: تُحمل إليك من مال أمير المؤمنين غدا اربعة آلاف ألف درهم. فسلْ أيضا.
قال عبد الملك: ابني تكلم أمير المؤمنين حتى ينوه باسمه.
قال جعفر: قد ولّاه أمير المؤمنين مصر، وزوجه ابنته العالية، ومهرها ألفي ألف درهم.
فقلت في نفسي: قد سَكِرَ الرجل وقال ما قال عن سكر وعربدة. فلما أصبحت لم تكن لي همة إلا حضور دار الرشيد، وإذا جعفر البرمكي قد بكّر، ووجدت في الدار جَلَبة، وإذا أبو يوسف القاضي ونظراؤه قد دعي بعبد الملك بن صالح وابنه فأُدخلا على الرشيد.
إن مَن يربط النتائج بأسبابها، ويبحث عن جذور الاحداث، يعرف جيّداً أن حضارة المسلمين بدأت تترنّح، ثم تهوي الى الحضيض مع بداية عصر هارون
فقال الرشيد لعبد الملك: إن أمير المؤمنين كان غاضبا عليك وقد رضي عنك، وأمر لك بأربعة الآف درهم، وزوّج ابنك من (العالية) بنت أمير المؤمنين، وأمهرتُها عنه ألفي ألف درهم، ووليته مصر.
فلما خرج جعفر سألته عن الخبر، فقال: بكّرت على أمير المؤمنين، فحكيت له ما كان منّا، وما كنا فيه حرفا حرفا فعجب لذلك وسُرَ به، ثم قلت له: قد ضمنت له عنك يا أمير المؤمنين ضمانا. فقال: ما هو؟ فأعلمته.
فقال: أوفِ لك بضمانك. وأمر بإحضاره، فكان ما رأيت”.
وهكذا كانت تتخذ القرارات الهامة في دولة الرشيد على وقع كؤوس الخمر، وأصوات الغناء، وطلبات المتزلفين. ولهذا وأمثاله سقطت حضارة المسلمين.