أسوة حسنة

الإِمَامُ عَليُّ الهَادِي عليه السلام وَمُستَقبَل الأُمَّةِ وَقِيَادَتِها

ولد الإمام علي الهادي، عليه السلام، في 2 أو 15 ذي الحجة 212هـ في صِريا المدينة المنورة

مقدمة

الأمة تُنسب إلى الإمام، والإمام يقود ويسود ويُسأل عن أمته في الأرض وحال حياته، وحتى في العرض والقيامة، وهذه الحقيقة ربما أشارت إليها الآيات الكريمة، كقوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا * وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا}. (الإسراء: 72).

ولادة الإمام علي الهادي

في ذلك البيت العالي والعامر بالنور والمفعم بالبركات، الذي وصفه الله تعالى بقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}. (النور: 37)، بزغ نجم الإمام العاشر من أئمة المسلمين، وسطع نوره من مدينة جده المصطفى، صلى الله عليه وآله، ليُضيء الحياة بنوره الوضَّاء، ويُزينها بشعاعه الشعشاع، وكان ذلك في زمن حلكت فيه الأيام وأظلمت على أمة الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله، عامَّة وعلى شيعة أهل بيته خاصَّة بسبب الظلم والجور الذي يمارسه سلاطين وحكام بني العباس.

فهو عاش وعاصر ثلاثة من طغاة وعتاة العباسيين وهم المنصور بن هارون، ثم الواثق، والمتوكل، وثلاثة من ضعفائهم، وهم (المنتصر، والمستعين، والمعتز)، إلا أن الإمام الهادي، عليه السلام، الذي اغتال المنصور والده العظيم الإمام الجواد، عليه السلام،، وهو في ريعان شبابه (25 سنة)، فكان من الطبيعي أن يتسنَّم كرسي الإمامة والولاية من بعده وهو فتى لم يبلغ الحلم أيضاً ولا يتجاوز عمره الشريف ثماني سنوات، ولذا طالت فترة إمامته نسبياً فقاد الأمة لمدة (33 سنة) في ذلك الموج العادلي والأعاصير المتلاطمة في الأمة الإسلامية.

علم الإمام الهادي، عليه السلام، وهيبته

ولد الإمام وترعرع في بيت العلم والأدب، بيت النور والقرآن الحكيم، فكان بعد والده الجواد، عليه السلام، مرجع أهل العلم، والفقه، والشريعة، والتفسير، والعربية، وغيرها من العلوم ويشهد له على ذلك كتب الرواية والحديث بما أُثر عنه، واستلهم من علومه الولائية، ومعارفه الربانية.

وأجمع أصحاب السيرة وكتاب وعلماء التاريخ: أنّ الإمام علي الهادي، عليه السلام، كان عَلماً لا يُجارى، وطوداً لا يُسامى، وبحراً لا يُساحل إلا من أهل العلم والفضل، وقد ذكر الشيخ الطوسي (قدس سره) في كتابه الرجال مائة وخمسة وثمانين تلميذاً وراوياً، تتلمذوا عنده ورووا عنه ما فاض منه إليهم فكتبوا ونقلوا وحدَّثوا عنه بأنواع العلوم والمعارف الإلهية.

ولذا كانت له هيبة في القلوب، بحيث كان المتوكل العباسي يهابه وربما ارتجف منه، وبكى عندما أنشده قصيدته، وروى محمّد بن الحسن الأشتر العلوي، قال: كُنْتُ مَعَ أَبِي عَلَى بَابِ المُتَوَكِّلِ، وَأَنَا صَبِيٌّ فِي جَمْعٍ‏ مِنَ النَّاسِ، مَا بَيْنَ طَالِبِيٍّ إِلَى عَبَّاسِيٍّ وَجَعْفَرِيٍّ، وَنَحْنُ وُقُوفٌ إِذْ جَاءَ أَبُو الْحَسَنِ، تَرَجَّلَ النَّاسُ كُلُّهُمْ حَتَّى دَخَلَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لِمَ نَتَرَجَّلُ لِهَذَا الْغُلَامِ، وَمَا هُوَ بِأَشْرَفِنَا وَلَا بِأَكْبَرِنَا وَلَا بِأَسَنِّنَا، وَاللهِ لَا تَرَجَّلْنَا لَهُ.

فَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ الْجَعْفَرِيُّ: وَاللهِ لَتَتَرَجَّلُنَّ لَهُ صِغرَةً إِذَا رَأَيْتُمُوهُ ـ يعنون أبا الحسن، عليه السلام، ـ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ أَقْبَلَ، وَبَصُرُوا بِهِ حَتَّى تَرَجَّلَ لَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو هَاشِمٍ الْجَعْفَرِيُّ: أَلَيْسَ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ لَا تَرَجَّلُونَ لَهُ! فَقَالُوا لَهُ: وَاللَّهِ مَا مَلَكْنَا أَنْفُسَنَا حَتَّى تَرَجَّلْنَا”. (إعلام الورى بأعلام الهدى 2/ 118).

قيادة الأمة ومستقبلها

هكذا كانت هيبة أهل البيت، عليه السلام، من هيبة الله تعالى ولذا تراهم منصورين أينما حلُّوا أو ارتحلوا، وذلك لأنهم قادة الأمة الإسلامية بأمر من الله وتنصيب من رسول الله، صلى الله عليه وآله، ووصية كل إمام إلى خليفته ووصيه من بعده، ولكن عصر الإمام الهادي، عليه السلام، في آخر أيامه التي كانت في حكم المتوكل ذاك الناصبي المتعنِّت والمتجاهر في النصب الذي كرب وفلح قبر أبا عبد الله الحسين، عليه السلام، ومنع الناس من زيارته، وقطع الأيدي والأرجل، وقتل الزوار بكل طريقة ووسيلة استطاع إليها فكان لا بدَّ للإمام علي الهادي، عليه السلام، وهو يعيش على حافَّة عصر الغيبة حيث يغيب حفيده المهدي المنتظر، عجل الله ـ تعالى ـ فرجه، عن أمته من أن يُخطط لقيادة الأمة، ويهيئ الظروف لولده الشاب وخليفته المسجون (في سجن مفتوح نسبياً في مدينة العسكر والجند سامراء)، الإمام الحسن العسكري، عليه السلام، الأرضية المناسبة لقيادة الأمة في عصر الغيبة الصغرى، ثم الكبرى، فماذا صنع وكيف تصرَّف الإمام علي الهادي، عليه السلام، تجاه هذه المسألة الضرورية والهامة والاستراتيجية لأن الأمة التي ليس لها قائد وإمام تضيع في مسارب التاريخ، وتذوب في الشعوب والأمم الأخرى.

 فالمتتبع لسيرة ومسيرة الإمام علي الهادي، عليه السلام، يدرك أن الإمام اتخذ عدداً من الإجراءات والتصرفات التي كانت غير معهودة – رغم وجودها – إلا أنها ليست بهذا الوضوح التي كانت عليه في عصر الإمام العاشر هادي الأمة، عليه السلام، ومن ذلك يمكن ملاحظة:

  1. الاحتجاب عن الناس؛ قال المسعودي:‏ “وروي أن أبا الحسن صاحب العسكر احتجب عن كثير من الشيعة إلا عن عدد يسير من ‏خواصه، فلما أفضى الأمر إلى أبي محمد، عليه السلام، كان يُكلِّم شيعته الخواص وغيرهم من ‏وراء‌ الستر إلا في الأوقات التي يركب فيها إلى دار السلطان، وأن ذلك إنما كان منه ومن أبيه (الهادي) ‏قبله، مقدمة‌ لغيبة صاحب الزمان، لتألف الشيعة ذلك ولا تنكر الغيبة، وتجري العادة ‌بالاحتجاب ‏والاستتار”. (إثبات الوصية: ص262)‏.
  2. ربط الأمة بالأئمة، عليه السلام، عن طريق الزيارات؛ فالمعروف والمروي عن أئمتنا الكرام، عليه السلام، الحث على زيارة الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، والأئمة جميعاً، لا سيما قبر أبو عبد الله الحسين، عليه السلام، سيد الشهداء – رغم ما جرى عليه في عهد المتوكل – فكان يُصرُّ على الزيارة ويرسل مَنْ ينوب عنه بالزيارة أيضاً، وكذلك زيارة غريب الغرباء في أرض طوس جده الإمام علي بن موسى الرضا، عليه السلام،، فلا تستغرب أن تكون أعظم زيارات نزور بها إلى الآن هي المروية عن الإمام علي الهادي، عليه السلام،، لا سيما (الزيارة الجامعة الكبيرة، وزيارة الغدير العظيمة، وزيارة الإمام علي بن موسى الرضا، وزيارة أيام السبوع)، وغيرها من الزيارات التي ربطت الأمة بالأئمة في عصر الغيبة برباط عظيم كرباط الحج.
  3. وضع نظام الوكلاء؛ إذا نظرنا إلى التاريخ الإسلامي، نجد أن تعيين الوكلاء من قبل الأئمة، عليه السلام، لم يكن يُعرف قبل الإمام الهادي، عليه السلام،، الذي كان يوكل نواباً له في كل المناطق الإسلامية، فقد كان في عهد الأئمة الأوائل، عليه السلام، أن الإمام كان يُوثِّق رجلاً فيأخذ الرساليون منه التعاليم الرسالية، ويستلم منهم الحقوق الشرعية، ليوصلها بدوره إلى الإمام، أما في عهد الإمام الهادي، عليه السلام، فأن هذا الأمر أصبح أكثر دقة وتنظيماً بتأسيسه لنظام الوكلاء الذي يُعتبر إبداعاً إدارياً لم يسبق له نظير، وبالطبع إن ممارسة الإدارة والقيادة لا تُسجل يومياتها تفصيلياً في كتب التواريخ، فالقيادة ليست من الأشياء التي تُكتب، أو تبقى آثارها بشكل عيني أمامنا؛ إنها ليست كبناء بناية، أو كتابة كتاب، أو إنشاد قصيدة من الشعر، بل هي ممارسة عملية في المجتمع.

فالقيادة هي عبارة عن مجموعة أعمال ومهمات يجب أن نقيسها ونحكم عليها من خلال نتائجها، التي تمثلت في نمو وانتشار الحركة الرسالية في عهد الإمام الهادي، عليه السلام، وبفضل العمل الدؤوب الذي اضطلع الإمام، عليه السلام، بالقيام به في واقع الأمة.

  • التعريف بالإمام المهدي وغيبته، عليه السلام،؛ وهذا كان بعد أن اختار أمه الكريمة السيدة مليكة (نرجس) واشتراها وزوجها لولده الإمام الحسن العسكري، عليه السلام، وأوصاه بها خيراً وأخبره أنها ستلد له الإمام المهدي (عج) وأوصاه بتهيئة كل الظروف لخفاء ولادته، وحفظه، وحمايته من سلاطين بني العباس وطغاتهم.

وبكلمة؛ يمكن أن نقول: أن مجموعة الإجراءات والأعمال التي اتخذها الإمام علي الهادي، عليه السلام، هي التي كان لها الأثر الكبير والواضح على حركة الأمة في ترتيب قيادتها وتوضيح مستقبلها لتكون محصَّنة من الفتن التي ستقع فيها حتماً نتيجة غياب شمس الإمامة والولاية فيها، وسيكون نظام النوَّاب العامِّين (المراجع الكرام) هو النظام الأمثل لقيادة الأمة والمجتمع، وهو الإبداع الإداري الذي نعيش في ظله حتى هذا اليوم بحمد الله وفضله، وكله عائد إلى الإمام العاشر سيدنا ومولانا الإمام علي بن محمد الهادي، عليه السلام، الذي نعيش ذكرى ولادته الميمونة في هذه الأيام المباركة من ذي الحجة الحرام.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا