منذ صدر الإسلام وفي البدايات المبكرة للتاريخ الإسلامي، أحدث المد الديني زلزالاً مدوياً ليس في مكة المكرمة أو المدينة المنورة، التي نشأت فيه الفكرة، وانبعثت فيه الرسالة، وإنما تجاوزت التأثيرات المساحة الكونية برمتها، وأصبح «الدين» الفكرة، وما تزخر به من وهج حضاري كبير، تشكل علامة فارقة بين مرحلتين كونيتين مختلفتين.
وبينما واصلت الفكرة تمددها وتوسعها وانتشارها لتغطي رقعة واسعة هي اليوم تشكل خارطة عالمنا الإسلامي المترامي الأطراف، اشتغلت القوى المعادية للدين واستجمعت قواها لمواجهة «الدين» كفكرة بدأت تجتاح العالم وتتمدد بشكل مذهل، لتبدأ فصولاً من المجابهة التي أتخذت اشكالاً متعددة في المجابهة.
-
الهجوم للدفاع عن المنافع السياسية
لقد بدأت المواجهة بحروب عاصفة منذ الأيام الأولى لإنتشار الرسالة الإسلامية، بل في اللحظات الأولى التي فيها تقبّل الناس الفكرة الدينية الجديدة، نظراً لقوة مضامينها الأخلاقية وللقدرة الهائلة التي جاءت تحملها في عقول واذهان البشرية، وكان أن تحمل المؤمنون الأوائل ثمن التمسك بالدين؛ الفكرة، والمذهب، والإتجاه، وقدموا تضحيات جليلة في طريق الدفاع عنها، وعن ما كانت تحمله من مضامين أخلاقية وحضارية كبرى.
و استمرت المواجهة بين خط المصالح، والمنافع السياسية والإجتماعية التي كان تمدد الفكرة الدينية يشكل تحدياً كبيراً أمام إستمرارها وبقائها . بل أصبح أكبر تهديد وجودي لها. وأصبحت قوى الظلام تشعر بحساسية شديدة تجاه أي تقدم يحرزه المؤمنون بالدين وبالفكر والعقيدة الذي جاء بها.
وعندما لم تستطع المواجهة بحد السيف وحده للوقوف أمام تصاعد المد الديني، وبعد أن أصبح عابراً للحدود الجغرافية وللقارات، وبدا أن الحركة الدينية أخذت زمام المبادرة والنفوذ في أكثر من موقع وساحة وميدان، هنا بدأت حركة النفاق تأخذ مكانها في الحياة الاجتماعية والسياسية، والتي اصطبغت بها الحياة المجتمعية مع تقدّم التيار الديني، وهيمنة حركته على الحياة العامة في العديد من المجتمعات، و اصبح الإتجاه الجديد لمقاومة المد الديني تكمن في فكرة «النفاق» و«المداهنة» مع الدين، وذلك بغية تدميره وتفتيته من الداخل.
وهكذا إنتقلت المعركة من المواجهة الساخنة التي أخفق فيها أصحاب المنافع الذاتية لتكون معركتهم من الداخل بهدف تشويه الصورة وتحريفها وتزوير الحقائق المتصلة بالدين.
لقد حدثت موجة رهيبة من التشكيك في الأفكار الدينية وفي العقائد إلى درجة عكف فيها العديد من الفقهاء والعلماء على الرد على حرب التشكيك وتشويه الصورة، وازدهرت عصور بأكملها بالرد على الشبهات، والتي لاتزال ثمارها يانعة في فضاءات ساحتنا الفكرية ليومنا هذا.
-
الامام الحسين ومواجهة التزييف
أما أخطر ما تحقق من حركة النفاق المتقدمة تلك، أنها استطاعت الوصول إلى السلطة والتأثير هذه المرة على «الدين» من موقع السلطة وما تتيحه من قدرة وقوة. وهكذا وقعت أحداثٌ بعضها دامية في الأمة الإسلامية كان مصدرها أن حركة النفاق وضعت يدها على السلطة لتشن حرباً ضروساً لتشويه الفكرة الدينية، وهو ما تسبب بتشويش كبير في أذهان الأمة، فضاعت الكثير من القيم المركزية للفكرة الدينية، ودخلت أفكار جديدة متناقضة مع الفكرة الدينية وبعدها الحضاري الراقي، كالتوريث في الحكم، ووصل الإرباك الذهني فيما يتصل بالشرعية، وأن من هم في السلطة يمثلون العقيدة والدين حتى لو كانت كل صفاتهم وممارساتهم وسلوكياتهم تناقض الأصول الدينية ومبادئها، وحتى لو كانوا يجاهرون بالفسق والفساد والمجون. وكانت تلك ضربة قاسية مهدت لضرب الفكرة الدينية في مقتل، وبدأ بالفعل يختلط في أذهان الأمة بعد كارثي يتمثل في النظر الى أن الدين والسلطة كيان واحد، و ان من بيده السلطة هو الممثل الشرعي للدين وقيمه ومبادئه.
وقد دفع هذا الإمام الحسين، عليه السلام، حياته، وضحى بابنائه وكل ما يملك، لوضع حدٍ لحركة التزييف والتحريف التي حدثت في الامة، وبدأت الصورة جلية واضحة بعد عاشوراء بان هناك خطاً فاصلاً بين الدين كمنظومة عقائدية ورسالة إلهية جاء بها النبي محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وبين خط السلطة السياسية وطلابها.
وتواصل المد الديني وفق رؤية واضحة بين سماطين أحدهما؛ يمثل النهج السلطوي، والطامعين في الوصول إليها بأي ثمن، حتى ولو كان على حساب الدين والقيم، فيما الآخر يمثل خط الرسالة السماوية، صافية نقية دون شائبة .
وهكذا وضع الامام الحسين، عليه السلام، الأمة من بعده لتكون على بصيرة بأمر كادت حركة النفاق في العالم الإسلامي أن تصنع ديناً جديداً خاصاً بها بغرض الهيمنة والسيطرة والنفوذ لا بقصد الإرتقاء بأخلاق الناس وزرع قيم الخير والفضيلة في نفوسهم، وجاءت حركة الحسين، عليه السلام، لتصحح مسار الأمة، وتنبهها تنبيهاً لا يدخل الشكل من بعده، بأن ما جاء به سيد الخلق نبينا الأعظم، صلى الله عليه وآله، هو رسالة أعظم من السلطة والصراع على مغانمها.
واليوم نشهد في وقتنا الراهن معركة ضخمة أيضاً يقودها أصحاب المطامع ضد «الدين» الذي يظنون أنه مازال يشكل أكبر خطر، وتهديد وجودي بالنسبة إليهم؛ فهناك الحرب الساخنة إضافة إلى الناعمة، وحرب التشكيك بأدواتها وفنونها المعاصرة، حيث يمتلك أصحاب المطامع اليوم من أدوات الحرب الاعلامية، والنفسية، والأخلاقية، الشيء الكثير، والذي يستهدف ليس مجرد التشويه والتحريف وإنما التدمير الشامل.
لقد صمد المد الديني أمام كل الخطط التي استهدفته منذ زمن بعيد وحتى يومنا هذا، وقدم المؤمنون الرساليون القرابين تلو القرابين من أجل حماية العقيدة والدين، فكانت استمرار المسيرة الى الامام بفضل صمودهم وتضحياتهم، بل وثباتهم قروناً ممتدة حتى يومنا هذا. ولم تستطع كل محاولات التحريف أن تحد، ليس من التمدد والتوسع الجغرافي للحركة الدينية وحسب، وإنما لم تستطع ايضاً، تجميدها عن نقطة محددة، أو القضاء عليها، رغم أن الإستهداف استخدام كل الوسائل ودون أي حدود أخلاقية للتدمير.
واليوم نرى «الدين» يواصل تمدده وانتشاره العمودي والأفقي بشكل كبير وأصبح للحركة الدينية لها أمكاناتها وقياداتها، والتي بالرغم من كل الإمكانات المضادة لتحطيم الصورة والمكانة للدين والمتدينين ، أصبح للحركة الدينية زعامات تاريخيون لهم مكانتهم المعنوية والإعتبارية ممن لديهم القدرة على التأثير في مجريات الأحداث بمجرد إشارة يصدرونها . بعد أن طالت رقاب الكثيرين منهم يد الطامعين للسلطة والسيطرة والنفوذ . وهذا مقدمة هامة تضع الأمة في بداية الطريق لتكون المدخل لتغيير العالم نحو الحضارة الإنسانية الشاملة .
ما حدث خلال السنوات الخمس الأخيرة يعكس تحولاً مذهلاً في مسار التغيير لتعزيز دور ومكانة «الدين» في قلوب الأمة . فقد شاهد العالم قوة الأمة وكيف أنها استطاعت أن تنتصر إرادتها في أكثر من معركة وموقع ويقودها فقهاء وعلماء وكادر على مستوى عال من التدين والإيمان لتتواصل مسيرة التمدد والإنتشار بشكل أكثر قوة ومنعة تمهيداً لقيام الحضارة الإنسانية بقيادة الدين وفقهائه وعلمائه ورجاله .